[CENTER]رائحة البارود...[/CENTER]



مدخل البيت خشبي تآكلت حواشيه وملأته الشقوق والثقوب...المسامير الضخمة الرأس مازال بعضها عالقا بعناد,تذكرنا بما نبذل جهدا لنسيانه...
الباب الخشبي المهترئ ,مثبت وسط تشكيل حجري نصف دائري,ازداد خشونة ونتوءا أقرب الى أسنان فك ميت...وفي تنافر مثير, توسطت البناء صخرة رملية باهتة الصفرة بارزة على شكل مستطيل محدودب الأضلع وقد نحت عليها بدقة نجمة وتاريخ....
على يسار المدخل ,جرة طينية كستها خرقة صوفية دائمة البلل,ذات غطاء خشبي حافته لزجة.سهام فتية خضراء لحنطة أو شعير اخترقت الخرقة مشرئبة بإصرار...جزء الجرة السفلي اندفن فتشكلت حول قعرها بركة من الطمي مورد لخطاطيف لامعة السواد تهرب الوحل لزوايا بعيدة وآمنة...
يمين الباب العتيق,الذي لا يغلق إلا نادرا بواسطة سلك سهل الالتواء,يقبع رجل شارف على السبعين من عمره أو أكثر بقليل.
"كان عمري لا يتعدى أصابع اليد الواحدة,حين كان والدي ينحت هذا التاريخ..."مشيرا إلى الصخرة التي تحرس المدخل كحاجب العين...
خطوط جلبابه الرمادي حريرية زاهية,رأسه الحليق لفته عمامة بعناية, وسبحة بنية اللون,حباتها ناعمة تنساب بين أنامله برفق...
اسند بالقرب منه عكازة خيزران دقيقة وصلبة يشق بها ظلمة النهار...
هو نفسه ذاك الرجل الذي كان صهيل فرسه الصهباء يسبقه, ووقع حوافرها ينبئ عن قرب إطلالتها البهية...عروس ليلة الزفاف,خضبت الحناء ناصيتها وقوائمها ,عليها سرج ذهبي بديع ولجام كالتاج يزين رأسها....
هو, الذي كان كالنسيم على السرج,جلبابه صوفي شفاف يكشف ما دونه...الخنجر ذو النصل الفضي يحمل نقوشا لحضارة قديمة...حافظة جلدية صفراء فاقع لونها تدلت عن يساره...يمسك واثقا بندقية ,عقبها عاجي فوهتها سوداء نمقتها قطع معدنية لامعة...
يتلمس خيزرانته , ينهض متثاقلا له وجهتان,المسجد أو العراء...
العراء الذي شوهد مرات يخترق مداه ليجلجل سكونه دوي هائل...
يتقدم ببطء وسط ضيق الزقاق ,يحتضن بحنان ما لف كالوليد في قماط أسود كان بطول خيزرانته أو يربو قليلا...يعانق المدى ليختفي هناك بين التلال...تتعرى التي فتنته ,يلمع قدها,يحشو جوفها بمسحوق اسود, يضغطه بضربات متتابعة بواسطة قضيب حديد...يحركها يرفعها يرسم إنصاف دوائر في الهواء, يصرخ, يثبت عقبها على صدره النحيف بيدين مرتعشتين علاهما الشيب ,يعلو صراخه ثم...طلقة...تردد دويها بين الروابي المحيطة...
يتهاوى متعبا ,منفرج الأسارير وقد أدنى فوهة بندقيته لتملأ رائحة البارود صدره...
عائدا وقد غالبته خطاه,يحتضن قماطه الأسود بحنان نادر...يقترب من جرة الطين,يتحسس الكأس المعدني المعلق دوما جوار الجرة...يغترف قليلا من الماء ,يعب جرعتين احدثتا صوتا وهما تستقران في جوفه ثم يفرغ الباقي ليبلل الخرقة كي يحافظ الماء داخل الجرة على برودته...
يرجع الى مجلسه ,تبدأ حبات السبحة تنساب بين أنامله,يتمتم بكلمات... يحدث كل من جالسه عن التاريخ البارز كالوشم ,الذي نحته والده على تلك الصخرة الرملية التى تحرس المدخل...عن الصهباء ومجدها...وعن رائحة البارود...

تمت.