بسم الله الرحمن الرحيم
لن يصلح أمر الأمة إلا بما صلح أولها
عبدالوهاب محمد الجبوري
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما تعانيه امتنا العربية اليوم من انحطاط وتدهور وضعف وتجزئة ، راجع إلى أسباب عديدة منها ماهو داخلي ومنها ما هو خارجي .. ونحن هنا لسنا بصدد شرح هذه الأسباب سوى الإشارة إلى أن ميزان القوى العالمي والإقليمي الذي تتحكم فيه إستراتيجيات الدول الكبرى ومصالحها وسياساتها ، يتعارض مع التوحد بين الدول العربية ولو على مستوى التضامن إزاء القضايا والتحديات الإستراتيجية ولاسيما قضية فلسطين، ، ولذلك تسعى تلك القوى بكل الوسائل للحيلولة دون وحدة الأمة أو توحدها ، وهذا يعني أن طبيعة التجزئة العربية وطبيعة الدول المجزاة بلغت من الضعف ما جعل تلك القوى تستهين بها إلى درجة بات معها التغيير الاستراتيجي مطلوبا في كل نواحي الحياة العربية والإسلامية من الحكام إلى المحكومين والى مناهج الحكم واستراتيجيات المواجهة ببعديها الاستراتيجي والجيو استراتيجي ..
أعود فأقول إن ما يصلح أمر هذه الأمة هو ما صلح بها أولها ونعني به الإسلام فكرا ومنهجا ونظرية وتطبيق .. ولنا في تجاربنا التاريخية من الدروس والعبر ما يجعل مثل هذه القضية المهمة قابلة التحقق في هذه المرحلة من تاريخنا ..
وقد يتساءل البعض هل الوقت ملائم لان يصلح أمر الأمة كما صلح أولها ؟ أقول نعم .. ونعم هذه لم تأت من فراغ بل عن دراية بوضع الأمة وإمكانياتها وأسباب ضعفها ونقاط قوتها وتجاربها ، تجعلنا نقول بإمكانية تحقق إصلاح أمرها إذا توكلت على الله وعلى الغيارى من أبنائها وإذا رفضت الذل والخنوع والتبعية ورفعت لواء التحدي الجاد لكل المخاطر الخارجية والداخلية ..
فنحن امة لها دين وقيم ومبادئ وتاريخ وتجارب في إدارة شؤون البلاد ومواجهة التحديات والمخاطر .. أنا لا أريد أن أتحدث عن موضوع ديني – على أهميته ـــ بل أريد أن أتحدث عن واقع امة مؤلم وكيفية التخلص منه ومواجهة تحدياته مستشهدا بالقران الكريم والسنة المطهرة .. فأقول إن الإسلام هو دين إلهي ووحي سماوي ، لكنه لم يكن يوما خارج الزمان والمكان أو بعيدا عن البيئة الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية التي نزل فيها والى أن تقوم الساعة ، فالإسلام ظهر في بلاد العرب، و بشر به رسول كريم منهم ، ليتواصل وحي السماء مع الأرض وليكون العرب المسلمون مركز الإشعاع وقاعدة الانطلاق للإيمان والتوحيد والمحبة والرسالة الإنسانية الخالدة .. فمع الهداية التي عمّت الكون تشكل امتداد ثقافي وفكري للشخصية العربية وقيمها النبيلة لتأخذ مداها على أوسع نطاق من التلقي بالقبول بين الشعوب التي ارتضت الإسلام دينا وقيما وحضارة.. وبغض النظر عن الأحزاب الدينية ، ومع احترامي لها بكل مكوناتها ، فإن الإسلام هو أضخم مكون في تاريخ العرب وتاريخ الحكم ، فكان ومازال ، الطاقة المعنوية الكبرى والعنصر الأساسي في ثقافتهم وسياستهم و موروثهم الحضاري ، ولذلك فإن أي محاولة مغرضة لفصل الإسلام عن العرب ، أو فصلهم عنه أو اتهام الإسلام بعدم القدرة على الحكم بما أمر الله ووفق منهج أنساني عظيم يمتلك كل مقومات الوجود والحكم والتقدم والحضارة ، إنما هو نكران للوجود الإسلامي ومؤامرة خطيرة ، لا تصب إلا في مصلحة الأجنبي والماسوني والوجودية الكافرة ، ولا تؤدي إلا إلى إضعاف الحال العربي الإسلامي وإنهاكه وعزله عن دوره الإلهي والحضاري ، مما يفسح المجال للشعوبية لاختراق الكيان العربي الإسلامي والانقضاض الحاقد عليه من الداخل لهدمه وتدميره ، ولعل القاعدة التي تقول (إذا ذل العرب ذل الإسلام) تحمل الكثير من المدلولات الصائبة عند وضعها في مثل هذا السياق من التحليل المنطقي ..
ولئن كان الإسلام بالنسبة للعربي المسلم وللمسلم بشكل عام دينه وعقيدته ، فهو بالنسبة للعربي غير المسلم، تراثه وثقافته ، فالإسلام عبر التاريخ كان وما يزال وسيظل إنسانيا ، حيث فسح المجال لغير المسلمين من أهل الكتاب والأقوام الأخرى في ساحته أن يعيشوا في ظله بحرية تامة ، فحمى مقدساتهم وصان معابدهم وجعل المواطنة بينهم وبين المسلمين من أوثق الروابط المشتركة، التي لا تقبل المس إطلاقا على قاعدة(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، وهي قاعدة الحرية بأفضل معانيها أو كما تسمى اليوم بالديمقراطية ، والتي لم ينتبه لها العالم المعاصر في ميثاق حقوق الإنسان إلا في النصف الثاني من القرن المنصرم..
لقد كان النموذج العربي الإسلامي الذي انبثق في الأرض العربية قبل أكثر من أربعة عشر قرنا مركزا لإشعاع الأمة العربية برسالتها الإلهية لكل العالم ، والتي أفاضت على الإنسانية بالخير العميم وحررت الشعوب من طواغيت الوثنية والاستغلال والاضطهاد والتفرد والظلم والديكتاتورية والتسلط والعبودية .. ومع الأسف تتعرض تلك الصورة الناصعة اليوم إلى حملة تشويه وتزييف، من أطراف غير إسلامية وصهيونية وماسونية وشعوبية ، تستهدف النيل من العرب والمسلمين ومن يحكم بالحلال ويحرم الحرام ويمنح الإنسان ما لم يمنحه قانون في العالم كالإسلام الذي منحه حريته وديمقراطيته وإنسانيته التي كرمها الله أفضل تكريم ، وبخس حقهم التاريخي في قيادة الركب لتحقيق نموذج النهوض المعاصر للأمة باستلهام الصفحات المشرقة من ذلك التاريخ الناصع، بذرائع مختلفة ما انزل الله بها من سلطان، تختفي وراءها سحب داكنة من التآمر الدولي المتواطئ مع الشعوبيات المختلفة في محاولة محمومة وقذرة، تستهدف الطعن في منهج الإسلام ومادته العرب .. من هنا كان التواطؤ الشعوبي السافر مع جيوش الاحتلال الأمريكي للعراق ، على سبيل المثال لا الحصر ، إمعانا في إنهاك الحالة العربية المؤمنة بدينها وقيمها وتاريخها ومبادئها الإنسانية وتهيئة الفرص لفرض إستراتيجية الشرق الأوسط الكبير ( حسب شمعون بيرس ) والشرق الأوسط الجديد
( حسب الرئيس بوش وكونداليزا رايز ) والتي تستهدف إعادة صياغة خارطة المنطقة وفقا للأجندات الغربية والصهيونية والشعوبية ..
إن من أعظم المصائب التي حلت بالأمة في هذا الزمان تخليها عن قيمها ومبادئها التي حكمت بها العالم قرونا طويلة ، فضلا عن تركها لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الشعيرة هي صمام الأمان لهذه الأمة ومفتاح وحدتها وسعادتها في الدارين ، كما يقول سبحانه تعالى
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) .. ويقول بينا محمد صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم ) ، فترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجب على الأمة عقوبات ربانية ويورث فساداً اجتماعيا واقتصادياً خطيراً فضلاً عن تسلط الأعداء على رقاب المسلمين.. يقول أبي عبدالله النجدي : ومن أنكى العقوبات التي تنزل بالمجتمع المهمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو تحول المجتمع إلى فرق وشيع تتنازعها الأهواء فيقع الاختلاف والتناحر، قال تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أم من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض )، وذلك التناحر يجعل المجتمع عرضة للانهيار والانهزام أمام العدو الخارجي المتربص .. وقال تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات ).. والنهي عن التفرق بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يدل على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبب التفرق والتشتت والتشرذم .. وبهذا قامت الحجة على العرب والمسلمين بعدما استطاع الأعداء اختراق مجتمعاتهم وتفرقتها وزرعِ قيمٍ دخيلة وهدامة حتى غدا الغزو الثقافي الأجنبي عند البعض ظاهرة حضارية مع الأسف .. ونحن اليوم نمر بمرحلة حرجة في تاريخ الأمة فإننا بحاجة إلى وقفة صادقة ومنهجية واضحة في التعامل مع هذه الأحداث حتى نخرج من عنق الزجاجة ومن هذه المحنة ونحن أصلب عوداً وأشد تماسكاً ، ولعل أول المسئولين عن هذه الوقفة التي سيحاسبنها الله عليها ، هم أركان الأمة وزعماؤها وحكامها وعلماؤها ومثقفوها وشعوبها ، وليس لأي منا عذر في التهرب من هذه المسؤولية وكل حسب طاقته وإمكانياته ودوره واستطاعته .. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ..
قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ، يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم ، وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ) ..
صدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم ، وبارك الله في المخلصين والغيارى والمؤمنين الساعين في طريق الهدى والجهاد والخير والعدل والإيمان والصدق والتضحية ، يحبهم الله ويحبونه ، ولا يبغون إلا وجهه الكريم ونصرة دينه الحنيف وإنقاذ الأمة من محنتها ، ولا يخافون في الله لومة لائم .. اؤلئك هم اركان اصلاح الامة في اخرها كما صلح اولها ..