المصحف الأسير بين غزة هاشم وجنرالات لندن
نموذج من سرقة التراث العربي الإسلامي من فلسطين
بقلم :عبداللطيف زكي أبو هاشم
مدير دائرة التوثيق والمخطوطات والآثار
وزارة الأوقاف والشئون الدينية – فلسطين
غزة - خاص بمؤسسة فلسطين للثقافة
تواجه الباحث في تراثنا العربي الإسلامي ، قضية شائكة أحيانا يجد لها تفسيراً ، وأحياناً أخرى لا يظهر تفسيرها إلا بعد موت من كان سببا مباشراً في فيها ، فالكثير من التراث العربي الإسلامي في مكتبات العالم العربي والإسلامي ، قد نهب ورحل ، وسرق بواسطة : الأيدي الأثيمة، فنالت منه مكتبات الغرب، وعلى رأسها : " مكتبة باريس الوطنية - " عاصمة بلاد الفرنجة" - ، ومكتبة المتحف البريطاني في لندن ، حيث أشار الباحث الأستاذ الدكتور: محمد عيسى صالحية إلى عدة قضايا بهذا الصدد حيث ذكر بأن " أكثر من 30 غرفة من غرف المتحف البريطاني الـ74 هي عبارة عن الآثار المصرية المنهوبة، وبعض تلك الآثار يزيد وزنها عن عشرة أطنان ، وفي فرنسا مثل ذلك إن لم يكن أكثر.. . ولعل أخطر كلمة نقلها الأستاذ صالحية هي عبارة صدر بها فهرس المتحف البريطاني وهي : " إن المتحف البريطاني يأتي بعد الأسطول البريطاني وبالطبع من حيث عناية الحكومة البريطانية فيه ، وبالتالي كان اشتغال العديد من ضباط وجنود الأسطول البريطاني بترحيل الآثار والتراث العربي، وكثيرا ما خاضوا معارك ضد الأهالي في محاولة من البريطانيين لانتزاع الآثار الموجودة في مناطق أهل البلاد المستعمرة "( . فقد احتوي المتحف على أربعين ألف رقيم من الطين تمثل الحضارة السومرية والبابلية
والآشورية(2)، وعلى رأي أستاذنا صالحية: " فالباحث كلما حاول حل لغز تغريب التراث العربي ازداد الأمر صعوبة وبدا التعقيد واضحاً، فالغموض يكتنف رحلة التراث ويحتاج لنبش الأسرار الشخصية حتى تتجلى الصورة " . أ.هـ (3)
وهناك من المكتبات الأخرى التي تخصصت في جلب التراث إليها وترحيله من أماكن وجود الأصلية ، فمكتبة باريس الوطنية ، اختصت بسرقة وترحيل جميع الآثار والمخطوطات التي احتلتها في في العالم العربي والإسلامي مثل سورية ولبنان ، ومصر سابقاً أثناء الحملة الفرنسية على بلاد مصر والشام ، وقد تركز لديها جل تراث بلاد أفريقيا وما جاورها من البلدان الأخرى . وهناك مكتبات أسبانيا التي توارثت تراث بلاد الأندلس المجني عليه مسبقاً والمنهوب . ونجد تراث بلاد القوقاز وما وراء النهر وأواسط آسيا كله قد تركز في مكتبات روسيا ، مكتبة بطرس برج سابقاً ، " مكتبة لينينجراد " حالياً .
ولكن العملاق الأكبر هي مكتبة الكونغرس في واشنطن ، التي احتوت على مئات الملايين من الكتب ، ومئات الآلاف من المخطوطات ، فقد كان لها نصيب الأسد من السلب والنهب والقرصنة .
وأما مكتبة الجامعة العبرية في القدس ، فقد اختصت بسرقة ونهب وسلب وجمع مجمل التراث العربي الإسلامي في فلسطين قبل النكبة "سنة 1948 م " ، وبعدها . فالباحث الذي يريد مخطوطاً أو كتاباً أو وثيقة يجدها محفوظة هناك تقبع أسيرة في مكتبة الجامعة العبرية في القدس المحتلة ، والحديث والحديث في هذه القضية ذو شجون، ولكننا سنبدأ بواحد من أهم دور الكتب في فلسطين وهي مكتبة الجامع العمري الكبير في مدينة غزة ، مع إلقاء نظرة مختصرة على أهم المكتبات في فلسطين ، تتوازى مع مكتبة العمري في القيمة وفي نفس المكانة ، إلا أن مكتبة الجامع العمري الكبير فهي من أهم
دور الكتب والمخطوطات في فلسطين ، تضاهي بذلك مكتبة المسجد الأقصى المبارك ، ومكتبة أحمد باشا الجزار ، وغيرها من المكتبات ودور الكتب التي احتوت على ذخائر ونفائس التراث . ومن أهم هذه الدور :-
1- دار الكتب الخالدية ومؤسسها المرحوم الشيخ خليل الخالدي والعلامة الشيخ طاهر الجزائري .في أوائل القرن . وهي للأسف مغلقة . ومكانها باب السلسلة .
2- دار كتب المسجد الأقصى . حيث يوجد بها كثيراً من الكتب والنوادر المخطوطة . كانت اللبنات الأولى لهذه المكتبة مجموعة كتب الشيخ محمد الخليلي ومكتبة الشيخ صبري عابدين .
3- دار الكتب الخليلية في القدس الشريف .
4- دار الكتب الفخرية :
5- خزانة آل قطينة الحنبلية .
6- خزانة آل البديري .
7- خزانة آل مخلص . تم نهبها وتهريبها إلى مكتبة الجامعة العبرية في القدس ( حسب ما أفادت به ابنته ) في مقابلة مع الدكتور جميل كامل العسلي ، فقد أوردها في كتابه " تراث فلسطين في كتابات عبد الله مخلص [4]
8- خزانة الشيخ محمود اللحام . ([5]
9- مكتبة الجامع العمري الكبير التي مالها ما نال دور الكتب الأخرى في فلسطين من السرقة والعبث والاستهتار بكنوز الأجداد . فقد كان يوجد بهذه المكتبة عشرين ألف مجلد وظلت عامرة حتى مجيئ الحملة الفرنسية على مصر وبلاد الشام ثم تفرقت تلك الكتب القيمة من مخطوطة ومطبوعة ونالت مكاتب القاهرة وباريس وبرلين منها قسطاً وافراً ، وحظاً عظيماً ومع ذلك بقيت غزة مكتظة بكتب العلماء الذين ظهروا فيها ونبغوا منها مثل الخطيب التمرتاشي ، وبني النخال العامري ، وبني المشرقي ، وبني الغصين إلى أن انتهى الأمر إلى العالم الصالح الشيخ محمد سكيك ، والشيخ أحمد محي الدين عبد الحي الحسيني المفتي بغزة ، وشيخ الشيوخ الشيخ أحمد بسيسو ، والشيخ عبد الوهاب العلمي والشيخ سليم شعشاعة - فجمعوا كتباً كثيرة كون كل واحد منهم مكتبة قيمة بالجامع العمري الكبير وبسجد السد هاشم والسيدة رقية زيادة عما كان يوجد بدور العلماء والأعيان إلى أن حصلت الحرب العامة وألجأت أهالي غزة إلى الهجرة منها لجعلها خطاً حربياً ، فرحلوا منها جميعاً سنة 1335 هـ وتركوا أكثر أمتعتهم وأثاثهم وذخائرهم ومنها الكتب والمكاتب التي كانت بالمساجد المذكورة وقد ذهب جميع ذلك نهباً وتمزيقاً وإتلافاً وحرقاً ، وتهدمت غرف المكاتب في الجامع العمري الذي هدمت مئذنته العظيمة ومنارته التي تطل من بعيد للقادم إلى هذه المدينة . ومن أهم الأحداث التي حدثت في مدينة غزة في بداية الحرب العالمية الأولى وبداية الإنتداب البريطاني على فلسطين هي التوجه لسرقة التراث، حيث تم سرقة مجموعة من المخطوطات والكتب على أيدي أثيمة ، ولدينا معلومات من خلال الوثائق تشير إلى مدى حرص الأوروبيين على نهب وسرقة تراثنا العربي الإسلامي، ومن هذا المنطلق قمنا بتوضيح بعض النماذج وهي سرقة مصحف من مكانه الأصلي وهو مكتبة الجامع العمري الكبير بغزة، حيث احتوت على مصحف مكتوب بخط اليد من قبل عالم من علماء المدينة، وفي أبان الحرب العالمية الأولى وأثناء الانتداب البريطاني على فلسطين قام هذا الجنرال بسرقة للمصحف المشار إليه حسب الوثيقة التي بين أيدينا فقد أشارت الوثيقة غلى أن الكولونيل. لوارد ، من سلاح البحرية سابقاً ، أنه قام بإعادة المصحف الشريف وزعم بان صديقاً له كان قد أخذه من مكتبة الجامع العمري الكبير بغزة عام 1917م ، بعد انسحاب الجيش التركي من المدينة ، وانه أبقاه لديه طوال هذه المدة ، وأنه يرغب في إعادته إلى نفس المكان الذي كان موجوداً فيه ، لذك كلف السيد ثابت يوسف من موظفي السفارة بتسليم المصحف و أعادته إلى مكانه . ويقر الكولونيل لوارد بأنه : قد أخذ هذه النسخة من المسجد العمري الكبير في مدينة غزة في شهر نوفمبر سنة 1917 م ، بعد انسحاب الجيش التركي من المدينة حيث كان المسجد يستعمل مركزاً عسكرياً ، وحسب زعمه أن المصحف قد أصيب ببعض التلف وقام بإصلاحه في القاهرة وانه بذل كامل جهده في المحافظة عليه طوال هذه المدة التي كان المصحف أسيراً لديه ، ويهدي تحياته لجميع المصلين .
وصف تفصيلي للمصحف :
كتب هذا المصحف العلامة الشيخ أحمد شعشاعة العلمي الغزي سنة 1271هـ بخط نسخي جميل وحسب الرسم العثماني للقرآن الكريم ، ومقاس الورق 23+14 وعلى ورق قديم أوقفه كاتبه الأصلي ، ثم تملكه حسب ما هو مقيد في الأوراق الأولى من المصحف عبد القادر أفندي الغصين ليكون وقفاً شرعياً عن روح والده المرحوم الشيخ أحمد أفندي الغصين ، ومقره بمكتبة الجامع الكبير العمري الكائنة تحت نظارة محررها الفقير عثمان أبي المحاسن الطباع الإمام والخطيب والمدرس بالجامع المذكور عفا الله عنه آمين .
المصحف غير كامل
ناقص من أوله بعض الآيات من سورة البقرة .
ناقص من آخره أيضاً حيث ينتهي بسورة يس
كتبت في أغلب صفحات المخطوط وقف .
حالة المصحف وما آل إليه بسبب الإهمال
الورق ضربته الأرضة والرطوبة وهو يميل إلى الصفرة و مليئ بالأرضة وقد أتت الأرضة على كثير من أوراق المصحف ، كتبت عناوين السور ، وتفشى بعض الحبر على الجوانب .
ملاحظة أخرى : بقي هذا المصحف الشريف في مكانه حتى اختفى في عام 1927م وهو نفس العام الذي صدر فيه وعد بلفور المشؤوم ، والذي سلب الفلسطينيين وطنهم في عام 1964م ، ثاب الذي أخذ المصحف إلى رشده ألهمه الله أن يعيده إلى مكانه المقدس وهو نفس العام الذي اجتمع فيه رؤساء الدمل العربية حيث أتحدث كلمتهم على إعادة فلسطين ‘إلى أهلها .
وثيقة تحكي لنا قصة المصحف الشريف:
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
صدق الله العظيم
كتب هذا المصحف بخط يده المرحوم أحمد شعبان العلمي من أهالي فلسطين، ووضع في المسجد العمري في عام 1271 هجرية.
بقي المصحف الشريف في مكانه حتى اختفى في عام 1917م، وهو نفس العام الذي صدر فيه وعد بلفور المشئوم والذي سلب الفلسطينيين وطنهم.
ظلت فلسطين طيلة خمسة عشرة سنة مرتعاً .. اليهود بالاحتلال إلا ذاك القطاع الذي فيه المسجد العمري الكبير.
في عام 1964 ثاب آخذ المصحف إلى رشده وألهمه الله أن يعيده لمكانه المقدس وهو نفس العام الذي اجتمع فيه رؤساء وملوك الدول العربية حيث اتحدت كلمتهم على إعادة فلسطين إلى أهلها.
بسم الله الرحمن الرحيم
(ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون).
صدق الله العظيم
إدارة الحاكم الإداري العام لقطاع غزة
مكتب الحاكم العام
ترجمة عن الإنجليزية
السفارة البريطانية
القاهرة
24 أكتوبر سنة 1964
سيادة الحاكم العام لقطاع غزة
سيدي
طلب إليك الكولونيل ت.ن. لوارد، من سلاح البحرية سابقاً تقديم المساعدة إليه من أجل إعادة النسخة المرفقة من القرآن الكريم.
وقد أفاد الكولونيل لوارد أن صديقاً له كان قد أخذ هذا القرآن من المسجد الكبير بغزة عام 1917 بعد انسحاب الجيش التركي من المدينة، وأنه أبقاه لديه طوال هذه المدة، وأنه يرغب الآن في إعادته في نفس المكان الذي كان موجوداً فيه.
لذلك فقد كلفت السيد/ ثابت يوسف من موظفي هذه السفارة بتسليم القرآن لسيادتكم مع كتابي هذا.
مع أصدق تمنياتنا
المخلص
ج. هـ. مدلتون
سيادة الحاكم العام لقطاع غزة
سيدي:
أتشرف بأن أبعث لسيادتكم النسخة المرفقة من القرآن الكريم، وأن أعلم سيادتكم أنني كنت قد أخذت هذه النسخة من المسجد الكبير بغزة في شهر نوفمبر سنة 1917 بعد انسحاب الجيش التركي من المدينة حيث كان المسجد يستعمل مركزاً عسكرياً.
وقد أصيبت هذه النسخة من القرآن ببعض التلف وقمت بإصلاح غلافه في القاهرة وبذلت أقصى عنايتي في الحفاظ عليه طوال مدة وجوده لدي.
وأنني أرغب الآن في إعادته إلى نفس المسجد الذي كان فيه مع إهداء أصدق تمنياتي لجميع المصلين في هذا المسجد.
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
المخلص
كولونيل بسلاح البحرية الملكي
(بالمعاش)
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر كتاب : " تغريب التراث العربي بين الدبلوماسية والتجارة "الحقبة اليمانية" ص5-9بتصرف.الدكتور محمد عيسى صالحية-بيروت:دار الحداثة،ط2.-1985م.
[2] نفس المصدر السابق ص10.
[3] نفس المصدر ص 10-11 بتصرف .
[4] - انظر بهذا الصدد مقالة للباحث بعنوان " كتااب تراث فلسطين في كتابات عبد الله مخلص بقلم : عبد اللطيف زكي أبو هاشم .
[5] - راجع بتوسع حول هذا الموضوع كتاب " المخطوطات العربية في فلسطين / أبحاث جمعها وقدم لها الكتور : صلاح الدين المنجد .- بيروت :
الورقة الاولى من المصحف سورة الفاتحة مع بيان كاتب هذا المصحف
بداية المصحف الشريف
بعض الآيات الأوائل من سورة البقرة
حالة المحف وما آلت إليه بسبب الإهمال طوال الفترة السابقة
غلاف المصحف
لوحة تؤرخ لحادثة سرقة المصحف