تكريزة رمضان...قبل حبس النفوس.. وتصفية القلوبفي مكان جميل بهيج يغص بالأشجار السامقة ويعج بالثمار الوارفة ويضج بالأزهار الخميلة، وفي جو بديع مليء بالألفة والمحبة؛ عبر صلة حميمية من الود والإخلاص يلتقي عدد من الأصدقاء أو الأقرباء أو الأحبة أمام نهر صافٍ جار يتمتعون بجمال المنظر ويتنشقون طهر العبير لتطهر نفوسهم وتزكى قلوبهم، وتلفهم نسمات زاهية من الدعة؛ ويحيط بهم من كل جانب السرور وتملأ جوانبهم الغبطة، وما هذا (السيران) الذي يقومون به الآن بالأمر الاعتيادي، وما اجتماعهم هذا للترويح عن النفس ولا هو لتفريج الهم، وإنما هو وداع أنيس لشهر شعبان واستقبال بهيج لشهر رمضان؛ (سيران) يقوم به الدمشقيون في أثناء الخمسة عشر يوماً التي تسبق قدوم شهر رمضان، ويطلقون عليه اسم (تكريزة رمضان)، وهو تقليد قديم كاد اليوم ينقرض لولا أن بعض العائلات الدمشقية ما تزال تحافظ عليه.
ولدى وصولهم إلى ذاك المكان البديع يقومون بنصب حواجز قماشية تشد بين شجرتين أو أكثر حيث لا تمنع التمتع بالنسيم العليل ومشاهدة الماء المنساب، ثم ينقسمون إلى فريقين: فريق النسوة وفريق الرجال، أما النسوة فينشغلن بإعداد أنواع الطعام من المقالي وشواء اللحوم وغير ذلك، وأما الرجال فينهمكون باللعب بين ورق الشدة وطاولة الزهر، وقد يقوم بعضهم بالمساهمة مع النسوة في إعداد الطعام.
ومما يحلِّي هذه الجلسة الممتعة أن يقوم أحد الشبان المولعين بالغناء والطرب بتقديم وصلة غناء من الميجنا أو العتابا أو أبو الزلف، يرافقه آخر على العود أو البزق والدربكة مع عدد ممن يطلقون المواويل الشعبية، فتحلو الجلسة وتطيب ؛ إذ تجمع -كما يقول المثل- بين الخضرة والماء والوجه الحسن... وهم يبررون هذا الانغماس في اللهو والملذات أنه وداع لها لأنهم كما يزعم بعضهم (سينكفؤون) عند قدوم رمضان عن تلك الملذات وسيتخففون من أطايب الطعام، وسينقطعون للتبتل والدعاء والعبادة، ولعل الناظر إليهم يقتنع بهذا الوادع المبدع، لكنه سيتعجب من أمر بعضهم عندما يهل الشهر الكريم لأنه سيرى أن بعضهم قد (غاص) في تلك الملهيات أكثر مما كان عليه قبل رمضان.
ومما يذكر أن نوعية الطعام في التكريزة تختلف عن طعام رمضان؛ إذ يفضلون الأكلات التي تحتوي على زيتون الزيتون كالمجدرة واللوبية والتبولة والفتوش، أو تحتوي على الزيت النباتي كمقالي البطاطا والباذنجان والكوسا، ولا بد في سيران التكريزة من مشاوي اللحوم والكبد والكلاوي.
وتكون المرأة أكثر سعادة عند اختيار المشاوي للغداء، حيث يتولى الرجل أعمال الشواء في حين تكون مهمة المرأة إعداد السلطات.
وهكذا يقوم بعض الأشخاص بتوديع أيام الإفطار بنزهة عائلية بديعة تهدأ فيها نفوسهم وتصفى قلوبهم استعداداً لاستقبال شهر العبادة ظناً منهم بأن الصيام في رمضان فيه حبس للنفوس وكبت للقلوب؛ ناسين أم متناسين أن رمضان يحمل في طياته بهجة وصفاء تفوق بكثير ما يمكن أن تقدمه التكريزة.
http://www.alwatan.sy/view.aspx?id=3449