متى تعود ومتى نستعيد فلسطين.!؟
نشرت بتاريخ 23 أكتوبر، 2015 كتب / عدنان كنفاني
متى تعود ومتى نستعيد فلسطين؟! متى تعود ومتى نستعيد فلسطين.!؟
عدنان كنفاني
لفتت انتباهي مقال بعنوان “متى تعود فلسطين” للصديق حسين راشد من القطر المصري الشقيق، وهو ناشط في كثير من المجالات الأدبية والفنيّة، وله حضور ملفت في عالم الفن التشكيلي، وفوق ذلك كله يتميّز بالنقاء والصفاء والوطنية، وهو أيضاً نائب رئيس حزب مصر الفتاة، وأمين لجنة الإعلام، ورئيس تحرير جريدة مصر الحرة الإليكترونية.
وكلما أسعدني الحظ والتقيت به أشعر أنه بنقائه وصفاء روحه وحماسه يمثّل الوجه الحقيقي لأخوتنا الرائعين في أرض الكنانة.
أعترف أن المقال حرّضني لأكتب عن الموضوع، ليس تعليقاً أو ردّاً على ما جاء في مقال الصديق حسين، فأنا أتفق معه في كثير مما جاء في مقاله لأن النبض القومي الذي يجمعنا يحمل ذات الخفق وذات الروح، لكنني أريد بعد أن قرأت عنوان المقال أن أدخل من باب آخر على الموضوع الكبير المندرج منذ أكثر من نصف قرن تحت عنوان “القضية الفلسطينية” وأقول بأن العنوان الذي أتى به الأخ حسين هو جزء من العنوان الأصيل.. فالأمر بذلك يحتاج إلى عنوانين وسؤالين:
“متى تعود فلسطين، ومتى نستعيد فلسطين”
في السؤال الأول تعود فلسطين بإرادة الله سبحانه وما شاء فعل، وهناك معطيات لافتة تعطي الدلالة أن لا بقاء لهذا الكيان على المدى البعيد، التاريخ والثقافة والتراث يقولون ذلك، فالكيان الصهيوني كيان غريب عن بيئة وظروف المنطقة، ليس بينه وبين شعوب المنطقة المفترض أن يكونوا شعباً واحداً أي رابط ثقافي أو تراثي أو تاريخي، لا في اللغة ولا في العادات ولا في المعتقدات، ناهيك عن العزلة الشاملة التي يعاني منها المجتمع الصهيوني في فلسطين من إمكانية التواصل أو التطبيع مع شعوب المنطقة، وبخاصة مع شعوب دول الجوار.
وتبعاً للنظرية السائدة نقول بأن “ما يقوم على باطل فهو باطل”، والأمر الآخر المهم في هذه المسألة تحقيق التفوّق العددي الديموغرافي بين التكاثر الطبيعي للفلسطينيين المقيمين داخل ما يسمى بالخط الأخضر وبين الصهاينة الذين يعانون من هبوط وتراجع في مسألة التكاثر، وهذا له أسبابه طبعاً لا يتسّع المجال لذكرها، لكنني أقول بأن عدد الفلسطينيين الذين بقوا على أرض فلسطين المحتلة إثر نكبة عام 1948 لم يتجاوز الـ 400 ألف مواطن، تعدادهم اليوم “رغم حملات التعقيم السريّة والعلنية التي تقوم بها السلطات الصهيونية على الذكور والإناث الفلسطينيين” بلغ أكثر من مليون وربع.!
وليس آخراً تلك الهوة الطبقية التي يتشكل منها المجتمع الصهيوني فهناك مراتب ودرجات مواطنية يأتي في طليعتها اليهود الأوروبيون ثم الشرقيون وأخيراً الإفريقيون، وهذا الظلم الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد لا بد سيصل إلى الانفجار، أضف إلى ذلك كله تفكك بنية المجتمع الصهيوني بتفشي الجريمة والارتفاع المتواصل بنسبها والتراجع الأخلاقي القيَمي بين أفراده بتعاطي كل صنوف الممنوعات، وعدم الشعور الحقيقي بالانتماء إلى وطن.
أما في مسألة الرد على السؤال أو العنوان الثاني “متى نستعيد فلسطين” فقد كان من الممكن في فترات سابقة وظروف سابقة أن نستعيدها بسهولة بوسائل القوّة لو كانت النوايا صادقة ومخلصة في ذلك، أما الآن أزعم بأن الأمر أصبح أكثر صعوبة بعد أن حقق الكيان الصهيوني تفوّقاً عسكرياً على مجموع الدول العربية وذلك بدعم غير محدود من أمريكا وأوروبا، واختراقا لكثير من مؤسساتنا العربية العسكرية والاجتماعية وحتى الأخلاقية، ولو تساءلنا لماذا حقق الكيان الدخيل تفوّقاً بالقوة على دولنا العربية على مدى عقود من الزمن ونحن نمتلك كل أسباب ووسائل القوّة عدداً وإمكانات وثروة سيأتي الجواب السهل بأن لا أحد من مسؤولي تلك الدول وصنّاع القرارات الكبيرة فيها كان يعنيه هذا الشأن أمام مصالحه الذاتية والصراعات التي لم تتوقف على كراسي الحكم التي أوصلت البعض إلى التعاون السري مع رموز في الكيان الصهيوني ومن يدعمهم من القوى العالمية للعمل على حماية وجود المتنصّبين على أقدار الأمّة وبالتالي تثبيت وجود الكيان الصهيوني وتحقيق تفوّقه.
من تابع أحداث الحرب الأخيرة في جنوب لبنان سيدرك صراحة وعلناً أن حكّام بعض الدول العربية هم الأحرص على تثبيت هذا الكيان، فلم يعد الأمر سرّاً ولا ضربة استحياء.
وهذا الواقع المؤلم أفضى إلى تداعيات خطيرة، أولها انقسام الشارع بين مؤيد ومعارض في كثير من الدول العربية، وعلى خلفيات مسطّحة وليست ذات قيمة فعلية أمام قيمة التوجه القومي العربي، كما يحدث الآن في العراق من إثارة للنعرات المذهبية والطائفية، وكما يحدث في لبنان من صراعات محمومة بين معارضة وحكومة، وما يحدث في فلسطين أيضاً، وما يحدث في السودان وفي الصومال وفي أرتيريا، كل يغني على ليلاه والشعب بين هذا وذاك آخر المنتفعين وآخر المعنيين.
القوّة الاقتصادية والاعتماد على الذات تجارياً وصناعياً وزراعياً هي الفاعلة والمنتجة للقوة العسكرية، فنحن الآن شعوب مستهلكة بجدارة، وسلاح جيوشنا مستورد، وميزانيات دولنا وأرصدة أثريائنا والأموال المنهوبة من شعوبنا كلها مستقرّة في بنوك الغرب، وأكثر طعامنا يأتي من الخارج، وبترولنا وثرواتنا الطبيعية وملابسنا وزينتنا وعطورنا وسجائرنا……. الخ برسم الأجانب، فكيف يمكن أن يقوم لنا بعد ذلك كله اقتصاد متين ومستقل.؟ وقد صدق من قال: “ويل لأمّة لا تأكل مما تزرع، ولا تلبس مما تصنع”
عندما نضع الحصان أمام العربة تختّل المعادلة، ولا تستقيم الأمور، وعندما يصبح السياسي هو بوصلة الأمّة ويخرج المثقف عنوة من دائرة المسؤولية ويصبح أكثرهم في عباءة السياسي ظالماً أو مظلوماً لا بد تختلّ معادلة الحياة، فالمثقف النظيف هو الممثل الرسمي لضمير الأمّة، وهو لسان الشارع ونبضه، والمفترض أن يكون هو البوصلة التي ترشد السياسي وتدلّه على الدروب التي يجب سلوكها.
نعم يا صديقي.. الفقراء والمسحوقين والمظلومين هم وقود بقاء الأوطان في كل زمان ومكان، وهم الذين يدفعون فاتورة النضال والمواجهة في كل وقت، وهم الذين ينزفون وجعاً ودماً وفقداً في كل حرب.
في حرب لبنان الأخيرة لم يبق تحت همجية القصف الصهيوني غير الفقراء، وأنا هنا أتحدث عن المدنيين، أما الأثرياء فقد طاروا إلى دول بعيدة وأقاموا في منتجعاتها، وهذا مثال نعيشه امتداداً لأمثلة كثيرة لا بد عايشها وتابعها كل مواطن تعرضت بلاده لحرب أو لغزو، وهذا بطبيعة الحال لا يقتصر علينا كشعوب عربية بل هو قدر عالمي عام.
إبان حرب العام 1967 انتسب صديق لي إلى صفوف الخدمة والمقاومة الشعبية، وكان عملهم إنساني في المشافي وفروع الخدمات الوطنية وفي حراسة الممتلكات والمؤسسات العامة والخاصّة، وكان نصيبه أن يكون في دوريات حراسة مع بعض رفقاء في منطقة سكانية راقية في واحدة من العواصم العربية، في ليلة من الليالي الطويلة وكان الوقت حزيران وقاربت الساعة الواحدة ليلاً اتفقوا على قضاء بعض الوقت في شرب الشاي، وكان أن طرقوا أكثر من خمسين باب شقة في العمارات الكبيرة باحثين عمن يسوّي لهم إبريق شاي لكنهم لم يجدوا أحدا من سكان تلك الشقق، كانوا يحرسون أملاك الغائبين، المنتجعين في أوروبا وفي دول آمنة..! أما في الأحياء الفقيرة فقد تنادت الناس للدفاع والصمود والتصدي بأسلحة فردية وبدائية ومتواضعة في وجه أي تقدم احتلالي لبلدهم.
هذه بعض أسباب لو استطعنا أن نعدّل موازينها سيصبح النصر أقرب.
يبقى أمر أخير أرجو أن لا يكون سبباً في ترحيلي إلى غوانتينامو..
لو استعرضنا بكثير من الشفافية والواقعية أهم المفاصل التي حقق لنا انتصارات أو شارفت على تحقيق انتصارات للأمّة لوجدناها في مواضع معيّنة، أولها المقاومة في جنوب لبنان التي أخرجت العدو مندحراً من أرض الجنوب في ليلة ظلماء، وصمود المقاومة في جنوب لبنان في أحداث الحرب الأخيرة وقد حققت المقاومة أهم انتصار للأمة العربية بأكملها وأوقفت مشاريع المدّ الاستعماري، وما يجري الآن من أحداث في لبنان وبعض القياديين المحنّطين هو لتفريغ هذا النصر من مضمونه ومحتواه، لكنه فعل واقع ما زالت آثاره الإيجابية تعطي مداليلها في كل يوم، وآثاراً سلبية في صلب الكيان الصهيوني وعلى مستوى المخططات العالمية المعادية.
المقاومة في العراق، وهنا أعني المقاومة الفاعلة وليست تلك المليشيات المصنوعة صهيونياً وأمريكياً، هذه المقاومة النظيفة التي كسرت شوكة أمريكا، ومرّغت تباهيهم وصلفهم وغرورهم بالوحل، وأوقعتهم في شر أعمالهم وجعلتهم يبحثون صاغرين عن منافذ للهرب والخروج من مستنقع الموت.
المقاومة في فلسطين التي استطاعت عبر نصف قرن وأكثر بالتضحيات الكبيرة وبالصمود الأسطوري وبوسائل بسيطة وذاتية وبأنهار من الدماء وتلال من الشهداء رغم حصارات الأعداء وأبناء العمومة لها أن تقف على أقل تقدير في وجه نجاح المشروع الصهيوني، وأن تلقي في مزابل التاريخ عشرات الاتفاقيات التي تنتقص من حقوقه وثوابته الوطنية.
فهل استطاعت الجيوش العربية عبر الحروب جميعها أن تحقق أدنى انتصار.؟ ولا أقلل من أهمية وضرورة جيوشنا ولا تقليلاً من قيمة أفرادها وضباطها ومخلصيها ولا بشجاعتهم ووطنيتهم حاشا لله فهم أولادنا وأهلونا وكم قدموا من قرابين لا تنسى ونماذج من بطولات غير مسبوقة وانتصارات في مواقع كثيرة عبر مسيرة النضال، لكنني هنا أعني القرارات ودور الدولة الغائب أو المتواضع في تقديم أسباب النصر للجيوش من تسليح واستعداد وتخطيط وتوجيه نتاجاً لقرارات سياسية، وفي التقدير غير المدروس لقوّة الخصم، والاختراقات المخابراتية وغير ذلك.
عندما يروّج البعض على أن المواطن السوري مثلاً في نظر بعض المرتزقة والمنحرفين فكرياً عدواً أكثر من العدو الصهيوني.! وعندما يصبح الخطر الإيراني أكبر بكثير من الخطر الأمريكي، لا بد تختّل المعادلة الطبيعية في مسألة الفكر الوطني والقومي، وعندما تعلن حكومة عربية أنها لن تسمح بأي حال دخول أي قطعة سلاح للفلسطينيين لا علناً ولا سرّاً، في الوقت الذي تتدفق فيه صنوف الأسلحة على الكيان الصهيوني علنا وسرّاً، وفي الوقت الذي تقيم فيه بعض الدول العربية علاقات دبلوماسية واقتصادية وتجارية رسمية مع الكيان الصهيوني، وفي الوقت الذي تقيم بعض الدول العربية ممثّلة بحكوماتها الحصار الفعلي على الشعب الفلسطيني بقصد تجويعه وإذلاله للرضوخ للتنازل المطلق عن كل ثوابته، وفي الوقت الذي لا يشعر فيه المواطن العربي أنه مواطن في وطنه وليس له أي وزن ولا قيمة وسطوة مطلقة على فكره، وفي الوقت الذي يصبح الفساد بأشكاله المتنوعة مشروعاً، ويفقد القضاء شفافيته، والتعليم قيمته، والثقافة دورها، والأخلاق أصولها، يصبح أمر استعادة فلسطين في المرحلة المنظورة صعب المنال.