صاحب الآداب» يترك زمنه يتيماً ويرحل عن ٨٣ عاماً
١٩ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
غيّب الموت يوم الثلاثاء 19 شباط فبراير 2008 في بيروت، الروائي والناشر سهيل إدريس عن 83 عاماً أمضى معظمها في الدفاع عن المشروع القومي من خلال رؤيا حداثية تراهن على الانفتاح. ظُهر اليوم، يودّع لبنان والعرب صاحب «الآداب» الذي يُصلّى على جثمانه في جامع الخاشقجي، ثمّ يوارى في ثرى جبّانة الشهداء
وفي مقال كتبه حسين بن حمزة في الأخبار اللبنانية بعنوان «صاحب الآداب» يترك زمنه يتيماً ويرحل عن 83 عاماً جاء فيه:
برحيل صاحب «الحي اللاتيني» تنطوي إحدى الصفحات الأخيرة في السجلّ الذهبي لجيل ومرحلة: جيل المؤسسين الذي ترك بصماته على مرحلة خصبة من التاريخ العربي الحديث. انسحب سهيل إدريس رافضاً أن يشهد على هزيمة مشروعه، وانحسار القيم التي آمن بها ووهبها حياته… مع سهيل إدريس (1925ـــــ 2008)، يأفل أحد آخر نجوم حقبة أدبية وثقافية عربية كاملة. معظم أقران إدريس ومجايليه سبقوه إلى الغياب. والباقون على قاب قوسين أو أدنى. ذلك الرعيل من الأدباء والمفكرين والصحافيين الذين يدينون، قبل كل شيء، لعصاميتهم وانكبابهم الجدي والعميق على تعزيز مواهبهم وتطويرها عبر التفاعل مع ما سبق من تراث عربي، وما هو راهن من آداب أجنبية تمرّر هواءً مختلفاً إلى رئة الثقافة العربية. كتب سهيل إدريس القصة والرواية والمقالة والدراسة النقدية والسيرة الذاتية. ترجم أعمالاً عدة عن الفرنسية. أنشأ مجلة «الآداب»، وأضاف إليها دار نشر بالاسم نفسه. خاض معارك ثقافية لا تُحصى، كانت أشهرها تلك التي دارت بين «الآداب» ومجلة «شعر»، ثم مجلة «حوار». أمضى سنوات في تأليف «المنهل» الفرنسي و«المنهل» العربي.
التنوع والموسوعية وتعدد المواهب والاهتمامات كانت سمة من سمات ذلك الجيل. وسهيل إدريس لم يتأخر في ابتكار سمات مشابهة ظلت ملازمة وملتصقة باسمه. لم يكن قاصاً فقط، ولا روائياً فقط، ولا ناقداً فقط، ولا مترجماً فقط. كان مؤسسة ثقافية بكاملها. بل هو أحد قادة الثقافة وروادها في النصف الثاني من القرن العشرين. كان كاتباً وصانعاً للكتَّاب. اشتغل عند نفسه كاتباً، وفتح صفحات «الآداب» لولادة مئات الكتّاب من شتى أنحاء الوطن العربي. كانت مجلّة «الآداب» تمنح جوازات مرور إلى عالم الأدب، ولاحقاً إلى عالم الشهرة. كان مجرد ظهور اسم فيها علامة على الموهبة والجدارة. وكثيرون نقلت إليهم «الآداب» لوثة الكتابة، وقدمت لهم شهادات ميلاد.
لعل صفة «صاحب الآداب» (المجلة ودار النشر)، هي الأكثر انطباقاً على سهيل إدريس. لقد صنعت «الآداب» جزءاً كبيراً من حضوره وشهرته، لكنها، في الوقت عينه، صنعت حضوراً وشهرة لأجيال من الأدباء والمثقفين العرب. الأرجح أن شيئاً كهذا لم يحدث إلا نادراً في تاريخ الأدب الحديث. أن يستحوذ أحد ما على صفة كاتب وصانع كتّاب في آن.
ورّط سهيل إدريس كثيرين في عالم الأدب وغيَّر حياتهم. ستظل أعناق هؤلاء مطوّقة بديونه عليهم. لكنه لن يطالب بها يوماً. ولذا، فإن غياب سهيل إدريس اليوم لن يكون رحيل كاتب بمفرده. إنه رحيل «مفردٍ بصيغة الجمع». ففي ثنايا هذا الرحيل، ثمة حكايات وقصص كثيرة سيتناوب كثيرون على استعادتها وسردها. سيحرّك غيابه ذكريات شخصية كثيرة في مخيلة الكتّاب الذين استقبلتهم مجلته. سيعود الذين ظلوا أحياءً منهم إلى لحظات «عمادتهم»، وحصولهم على الاعتراف فيها. ثم انطلاقهم منها إلى طموحات نصية ونبرات خاصة بلا عدد.
لا بدّ من أنّ «الآداب» تتقدّم على منجزات سهيل إدريس كلها، إن لم تكن قد غطَّت على حضوره كاتباً وروائياً. فهي في نظر كثيرين الأثر الذي سيخلِّد اسمه أكثر من أي عمل آخر. ولكن سطوة «الآداب» ونفوذها الرمزي والتاريخي الواسع، لا ينبغي أن يطمسا السيرة الأدبية والثقافية الذاتية لصاحبها.
فلنتذكر سهيل إدريس الشاب الذي تخرّج في الكلية الشرعية، ثم اضطرته ميوله المدنيّة وطموحاته التأليفية المبكرة إلى التخلي عن جبّة رجل الدين. لنتذكر ترجماته لسارتر وكامو، وتبني «دار الآداب» لنشر الكثير من المؤلفات الوجودية. لنتذكر جرأته حين أصدر الجزء الأول من سيرته الذاتية، وكشف فيها شذوذ والده. لنتذكر أنّه أحد رواد الرواية الحديثة في لبنان والعالم العربي، وأن روايته الأشهر «الحيّ اللاتيني» أسهمت مع روايات «أديب» لطه حسين و«عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم و«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح.. وغيرها، في سرد العلاقة الشائكة والملتبسة بين الشرق والغرب والفجوة الحضارية بينهما. وهو الموضوع الذي احتل حيزاً مهماً في المشهد الروائي والنقدي العربي.
دافع سهيل إدريس، بشراسة وحس مبدئي، عن أفكاره وآرائه. فعل ذلك في شبابه وواصل ذلك في كهولته وشيخوخته. في حوار أجريناه معه قبل سنوات في مجلّة «زوايا» (العدد ١٠/١١)، أصرّ على رفض «قصيدة النثر» التي لم ينشرها في «الآداب» طوال فترة تولّيه رئاسة التحرير، رغم اعترافه برواجها الواسع وإقبال الأجيال الشابة على كتابتها. وأصرّ على صوابية قراره برفض رواية محمد شكري الشهيرة «الخبز الحافي». رغم نجاحها النقدي والتجاري وترجماتها المتعددة، ظل على قناعته بأنها رواية غير متكاملة، وأن نبرتها الجريئة والفضائحية، لا يسعها أن تشفع للترهّل الروائي الذي فيها.
كان سهيل إدريس ابناً باراً لزمنه. صانعاً له وشاهداً عليه. ظل قومياً عروبياً حتى حين سقطت الأحلام الكبرى وانهزمت الإيديولوجيات. وها هو يرحل مورِّثاً أبنه وبنتيه التركة نفسها.
منقول عن ديوان العرب