"السوأة الكبرى"
للإمام العالم الكبير محمد الغزالي
سمعت جدالا بين أناس يتحدثون عن حكم لمس المرأة ولمس إحدى السوءتين،
والأقوال المتضاربة في هذه القضية!
فقلت لهم:
هذه أحكام تقرر في خفوت، ويذكر الخلاف فيها بكثير من التجاوز،
وأمرها لا يستحق هذا الحماس ولا ذلك العناد!
فنظروا إلىّ مستنكرين!
فقلت لكبيرهم:
أتعرف شيئا عن السوءة الكبرى في الإسلام؟
وجاء الرد بسرعة، أي سوءة؟
قلت:
ضياع الإسلام فى الأندلس وذهاب ريحه وانتهاء دولته ومحو حضارته!
هل درستم أسباب ذلك، وأخذتم الحيطة حتى لا تتكرر المأساة؟
إننى أدهش عندما يجيئنى متقعر يسألنى:
هل يقضى المأموم الركعة إذا لم يقرأ الفاتحة ولكنه أدرك الإمام راكعا؟
لقد قلت لهذا السائل:
الجمهور على أنه لا يقضي!
فقال بسماجة:
لا، يجب أن يقضي والسنة الصحيحة توجب ذلك! قلت له:
ما دام يؤثر الرأي الآخر فليقض الركعة!
فأراد أن ينشئ معركة علمية في هذه القضية
فقلت له بصبر نافد:
إن تعلقكم بهذه الخلافات لا مساغ له! أريد أن أسألك:
التناصر بين المسلمين واجب، فكيف ينصر المسلم فى إفريقية أخاه في آسيا، هل فكرتم في ذلك، واكتشفتم وسيلة مادية أو أدبية؟
إن الحكومات تعالج شؤونا عادية وعبادية خطيرة، فهل فكرتم فى طريقة لنصحها، وعرض وجوه الرأي عليها، وإلزامها بالحق إن هي رفضته،
وتأمين معارضيها إذا فكر مستبد فى إيذائهم.
إن تخلف المسلمين شائن في دنيا الناس فهل فكرتم في أسلوب يكشف عنهم هذا العار؟
حتى إذا تقدموا صناعيا وحضاريا أمكنهم أن يدفعوا عن عقائدهم،
ويحموا مساجدهم من نظم تريد إغلاقها،
ومنع اسم الله أن يذكر فيها...؟
فقال لى المتفقه المغفل:
هذه سياسة وأنا أكلمك في الفقه!.
قلت:
أنا أكلمك في الفقه، وأنت وأمثالك صرعى سياسات محقورة شغلت الجماهير بالخلافات الصغيرة حتى يمضى الفجار في طريقهم دون عقبات..
إن الاستبداد السياسى استطاع على تراخى الأيام أن يحذف أبوابا مهمة من قسم "المعاملات" في فقهنا الضخم!
أو أن يجعل حقائقها ضامرة مهزولة لأن الكلام فيها مرهوب النتائج..
ومن ثم طال الحديث في أمور هينة وكثرت فيها التفريعات والأخيلة البعيدة،
على حين صمت الفقه في الأمور الجلل.
وتم البت في قضايا المسلمين العظمى بين جماعات من الفتاك يذكرون أنفسهم وأتباعهم كثيرا ولا يذكرون الله إلا قليلا..
وقد وقعت فواجع في بيئات الحكم يندى لها الجبين، وأهيل عليها التراب دون تعليق،
ففى اليمن قتل أمير ـ أو تآمر على قتل ـ تسعة من إخوته حتى تخلص إمامة المسلمين للأخ القاتل وحده!!
ومطلوب من الفقه الإسلامى أن يشغل بمكان وضع اليدين فى الصلاة!
أو برفعهما قبل الركوع!
وهي أحكام تتساوى فيها وجهات النظر،
ولا يأثم مسلم يجنح فيها إلى السلب أو الإيجاب..
نعم مطلوب منه إفاضة الكلام فى هذه القضايا وتكوين عصابات من الرعاع تشغل المصلين بهذه الأحكام، وتثير بينهم الفتن!!
أما سياسة الحكم والمال فعلاقة الفقه بها مقطوعة، وحسب نفر من العلماء المعاصرين أن يرددوا فيها أقوالا سقيمة، قررها الجبناء الهاربون أو المفكرون القاصرون.
كانت النتيجة المريرة أن حكم المسلمين رجال لا يؤمَنون على شيء، ولا تحركهم إلا غرائز طفولية من جنون العظمة والاستئثار بالسلطة..
ولم تكن القوة المعادية للإسلام غافلة!
ومتى غفلت؟
إنها بين الحين والحين تنفذ من هذه الثغرة في مجتمعنا لتهلك الحرث والنسل،
وهي تفعل ذلك بأيدينا نحن لا بيد زيد أو عمرو!
ومن أعصار طويلة وهذه الفوضى الفكرية تسود العالم الإسلامى وتعوج بخطاه عن بر هدف شريف فإذا قضايا كبيرة تموت مكانها لا يكترث بها أحد،
وإذا أمور توافه يهيج لها الخاصة والعامة...!
ومضت سنة الله فى أمتنا كما مضت في كل مجتمع مختل،
فتدحرجنا من مكان الصدارة إلى ذنب القافلة الإنسانية،
وأسأنا إلى ديننا بقدر ما أسأنا إلى أنفسنا..
وجاءت ساعات الصحو والمحاسبة وتأنيب الضمير! وبدأنا نغضب لما أصابنا ونأسف لما ضاع منا،
فكيف العمل؟
البعض يريد السير في ذات الطريق الذى انتهى به إلى الذل..
البعض يرفض بكبر غريب أن يعرف لماذا تقدم غيرنا..
البعض يعجز عن فهم الفطرة الإنسانية ويظن الدين حربا عليها!
الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
كتاب الفساد السياسي