( أخبار الزمان بين القدس وعمان )
الحلقة الأخيرة
قال بصوت إيمانيّ رخيم :
ـــ سلام من الله عليكما يا ولداي وسلام على أحجاركما المنتفضة ،
وتقبّل الله منكما هذه الصلاة المباركة .
فأجاب الأخوان الصغيران معاً :
ـــ نشكرك أيها السيّد العظيم وأهلا بك معنا في مغارتنا الخفيّة
هذه .. ولكن من أنتَ ؟!
ـــ أنا عبدالله الخضر ، جئتُ أزوركما وأُبارك جهادكما ، وقد جلبتُ
معي لكما طعاماً هو رزق من عند الله ، آليتُ على نفسي أن أُقاسمكم إيّاه لكي يحصل لي الأجر ، وأُساهم ولو بشيء يسير
في سدّ حاجتكما وكسر هذا الحصار الظالم الذي يفرضه عليكما وعلى إخوانكم في غزة و بلاد الإسلام كلّها عدوّكم الغاشم وأعوانه
الماكرين ! .
نظر الطفلان إليه بدهشة وسرور ، ثم هتفا :
ـــ إذن فأنتَ سيّدناالخضرالذي سافر أليك سيّدنا موسى بوحي من الله لكي يتعلّم منك ، والذي كنتَ مع ذي القرنين القائد الذي
جاهد في سبيل الله وفتح جميع البلدان ووصل الى مطلع الشمس
ومغربها وبنا السدّ العظيم في وجه يأجوج ومأجوج ... ولكن قل لنا
ياسيّدنا هل حقاً شربتَ من ماء الحياة وأنك تعيش في بلاد الشام
عامّة وفلسطين خاصة ، تتنقّل فيها حيث شئتَ وقد سترك الله بلطفه
عن أعين الناس ؟؟! .
تبسّم العبد الصالح وأحنى رأسه في حياء ثم قال :
ـــ إن ربّي لطيف لما يشاء .. أتعلمان يا ولداي بأنكم تلوذان بذات
المغارة التي وُلِدَ فيها عيسى بن مريم عليه وعلى حبيبنا وسيّدنا محمد
أفضل الصلاة والسلام منذ أكثر من ألفيّ عام .. حقاً مآ أعظم هذه الأرض الوطن ومآ أغلاها ،فكم من نبيّ صالح ورسول كريم وكم من صحابيّ جليل وشهيد كبير ، يرقدُ عزيزاً ويثوي كريماً تحت ثراها
المُقدّس ! .
وفي تلك اللحظة السرمديّة ظهرت حمامة بيضاء كالثلج ، رفرفت
في حيّز المغارة ، ووقفت أمام الخضر عليه السلام الذي ضحك
لها وقال :
ـــ هذه حمامة السلام يا مسلم وياعبدالله ، هديلها يسبّح بالحمد
للرحمن ، جاءت لتبقى معكما لآآآخر الزمان .. حتى يتحقق
وعد ربّ السماوات والأرض بزوال اليهود عن هذه الأرض مهد السلام .
ازداد سرور الطفلان ورحّبا بصاحبتهما الجميلة قائليْن :
ـــ أهلاً بكِ معنا يا حمامة السلام .. إذأ ستكونين رفيقتنا في
جهادنا على مرّ الأيام ... !؟! .
ـــ أجل يا أخواي سأكون روحكما المُنيرة دائماً بإذن الله ...
وفرح الجميع بهذا اللقاء الخيّر .. ثم ما لبث سيّدنا الخضر أن
بارح المكان مُخلّفاً وراءهُ نوراً أخضرَ لا ينطفئ ! .
واشتدت الأجهزة الأمنية الصهيونية في طلب الصغيرين .. وراحت قوات الإحتلال في سبيل ذلك تقتل كل فتىً فلسطيني في سِنّ العاشرة
فما فوق ، وكل حمامة بيضاء تطير في الجوّ ، وتحرق البساتين ،
وتقلع الأشجار ، وتهدم البيوت ، وتقصف مخيّمات اللاجئين والمدنيين ، بصواريخ الطائرات السمتية وقذائف المدفعية ودبابات
الميركافا، وتُجنّد بعض الخائنين بهدف الوصول الى الطفلين الثائريْن
مُسلم وعبدالله .
وفي تلك الأثناء الرهيبة ، ووسط هذا الإجرام الإسرائيلي كله ، كان
الطفلان المُحمديّان يقومان بجهاد العدوّ ، بجرأة عظيمة ، وشجاعة
نادرة، فأثبتا للعالم أجمع بطولة عربية مَشرقيّة فريدة ، تجلّ عن
الوصف والكلام ! ..
وكان الفارسان العربيّان مُسلم وعبدالله ، قد تعرّفا على رجل غريب،
ظهر بمظهر البائس المسكين ، وقال : إنه من رُمَاة الحجارة ، وأن
اليهود قتلوا أهله وأولاده ،فأصبح بذلك وحيداً في هذه الدنيا الظالمة ،
فرقّا له وأشفقا عليه وأمّناه كما هو شأن المؤمنين دائماً مع الذين يستغيثونهم ، واتّخذاه صديقاً مُخلصاً لهما كما تمنى وطلب .
ولكن لم يطل الوقت حتى اتضح بأن هذا الرجل الغريب ، هو عميل خائن ، باع دينه ونفسه ووطنه الى أعداء الله ورسوله والمؤمنين ،
مُقابل حفنة من المال الحرام !! ..
وفي الحال ، وبعد أن دلّ الخائن الزنيم ، أسياده الإسرائيليين على
مكان الطفليْن العزيزين ، قامت أجهزة العدوّ الأمنيّة بتشكيل فرقة
سرّية خاصة من عُتاة القتلة والمُجرمين ، غرضها الأوحد وهدفها
الأسود ، إغتيال البطليْن الصغيريْن مع حمامتهما البيضاء المُخيفة !!.
وأسفر الصبح باكياً ، بعد ليلة عنيفة وقاسية من ليالي المحرقة في
غزة هاشم ، والقصف الصاروخيّ المُدمّرللأحياء العربية الصامدة ،
في قلب فلسطين التي ما فقدت > حماسها , ولا تركت جهادها , ولا
سقطت ألوية الناصر صلاحها < رغم كل هذا الضُرّ وهذا الحصار
وهذا القتل .. وخرج الناس ثائرين مُنتفضين ، يهتفون : بألله أكبر،
والشهيد حبيب الله ... حاملين على أكتافهم المنهوكة الشامخة ، عروش سبعة شهداء ، كانوا أباً وأمّاً وثلاثة فتيان وبنت واحدة ،
وطفلة رضيعة لم يتجاوز عمرها مدة حمل أمها بها ... !
وأيقظت المظاهرات الغاضبة دماء كل ذرّة تراب مُغتصبة ..
وسار موكب الشهداء في غزة العزة والقدس الشريف ، وكل فلسطين
عبر درب الآلام الذي سار عليه من قبل السيّد المسيح عليه السلام ،
قبل أن يرفعه الله إليه ويُطهّره ... وحين وصل الموكب الى حرم المسجد الأقصى ، نادى المؤذّن أن حيّ على صلاة الجمعة ، فلم
يبقى أحد من المؤمنين إلا وجاء مُقتحماً لكلّ الحواجز والسدود
ونقاط التفتيش اليهودية الكافرة ، لكي يُقيم هذه الفريضة الإسلامية العظيمة .
وبينما كان القمران الشآميّان المنيران مُسلم وعبدالله يصعدان مع جموع المُصلّين الأبطال ، عتبات المسجد الذي بارك الله حوله ،
وإذ برصاص الغدر والإجرام اليهودي الإسرائيلي ، ينطلق نحوهما
كحيوانٍ ناريٍّ مُفترس ، أشعل بجسديهما الضئيليْن الغضّيْن ، حريقاً
قاتلاً ، أتى عليهما وعلى أجساد المُصلّين من حولهما .. فهاج الناس
وماجوا ، لهذه المذبحة بل المَحرَقة المروّعة التي نفّذها إخوان القِرَدة
والخنازير، في أطهر وأقدس مكانٍ في القدس ! ...
أما حمامة السلام البيضاء، فقد نجّاها الله سبحانه من تلك المجزرة الرهيبة ، فطارت غير بعيد ، ثم عادت ورفرفت حول أجساد الشهداء
الطاهرين ، ثم لم تعتم أن وقعت على جسديّ صاحبيها الزكيين مُسلم
وعبدالله ، ففتحا عيونهما ونظرا إليها مُتبسّمين .. فقالت وهي تدمع
من الحُزن والألم :
ـــ الى جنة الخلد يا أخواي وصديقاي ... أنتما وكل هؤلاء الشهداء
المظلومين .. لقد مات منكما الجسد ، ولكن روحيكما الطاهرتين لم
تمُتا ، وستبقيان معي لأطير بهما عبر شرقي النهر ، الى جبال
عمّان ، حيث سأعتصم بهما هناك الى آخر الزمان ... الى أن
يأذن الله ذو الأيْد والعرش ببعثكما مرّة أخرى ، فينده عليكما
وعلى جميع المسلمين المؤمنين الحجر والشجر ، كما أخبر
الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ـــ ( يا مسلم .. يا عبدالله .. هذا يهوديّ ورائي تعال واقتله ... )
فإلى اللقاء حتى ذلك الحين ... الى اللقاء ...
تمّت بحمدالله وفضله
بقلم : إيهاب هديب
جميع الحقوق محفوظة بأمر الله
الطبعة الأولى 2005