أسباب التوزع الجغرافي للكائنات الحية
موسى ديب الخوري
تتوزع الكائنات الحية في العالم وفق مناطق جغرافية حيوية مميزة. فما هي أهم أسباب هذا التوزع؟
يشكل المناخ غالباً عنصراً أساسياً لتفسير التوزع الجغرافي للحيوانات والنباتات. فالمرجان مثلاً لايستطيع النمو إلا في المناطق الإسوائية حيث درجة حرارة الماء نحو 20ْ درجة أو أكثر. ولاتستطيع هذه الكائنات النمو في المياه الباردة. وبالمقابل ثمة كائنات لاتستطيع العيش إلا في مناطق باردة شمال أوروبا وفي أعالي الجبال. وفي كثير من الأحيان نجد أنواعاً من الحيوانات تعيش على المنحدرات الشمالية للجبال أو على منحدراتها الجنوبية لأن هذه الأخيرة أكثر عرضة للشمس من الشمالية وبالتالي فمناخها أدفأ. وتلعب درجة الحرارة بشكل عام دوراً هاماً في استقرار الكائنات الحية في مناطق معينة. كذلك فإن الرطوبة الجوية ومعدل هطل الأمطار يلعبان دوراً هاماً في توزع الكائنات الحية. وكذلك الأمر بالنسبة للملوحة. في الوسط المائي. فالمرجان الذي لايستطيع احتمال المياه قليلة الملوحة لايبني شعبه في مواجهة مصبات الأنهار حيث تقل الملوحة. ونلاحظ أن مياه البحر الأسود وبحر البلطيق الأكثر عذوبة أقل عدداً بأنواع الحيوانات من البحر الأبيض وبحر الشمال. ويحوى البحر المتوسط نحو سبعة آلاف نوع حيواني في حين أن عدد الأنواع في البحر الأسود لايتجاوز 1200 نوع… وتشكل الحيوانات نفسها معاملاً هاماً آخر في التوزع الجغرافي الحيوي. فصراع نوعين متشابهين في حاجاتهما يمكن أن يؤدي إلى انقراض أحدهما أو ابتعاده عن المنطقة التي جرى الصراع عليها. وتدعى هذه الظاهرة بالتنافس. ومن نتائجها مثلاً اختفاء الجرابيات على كامل الأرض باستثناء أستراليا وأمريكا الجنوبية. وتدل الأبحاث أن هذه الحيوانات كانت منتشرة في الحقب الثلاثي في العالم كله. ولكن مع ظهور الثدييات الحقيقية تراجعت الجرابيات وانعزلت. وبالمثل أدى تطور القرديات إلى اختفاء الليموريات باستثناء وجوها في مدغشقر المعزولة. ويؤدي نقل الإنسان اليوم للأنواع الحيوانية بشكل عشوائي إلى تفاقم هذه الظاهرة. وبالمقابل فإن فكرة تعايش عدة أنواع متماثلة الحاجات في منطقة واحدة ليست صحيحة تماماً. فهي تقتسم عملياً الأرض بحيث تتجنب التنافس عليها.
هل هناك أسباب أخرى للتوزع الجغرافي للكائنات الحية؟
هناك ظاهرة الاجتياح، حيث تتميز أنواع حيوانية بقدرتها على مد نفوذها إلى مناطق جديدة.
وقد يكون الاجتياح وقتياً ريثما يزول سببه، كتغير مناخي مفاجئ، وقد يكوهن دائماً. وغالباً ما يساعد البشر على مثل هذه الاجتياحات. فنقل الأرنب بشكل غير مدروس أدى إلى اجتياحه للعالم كله. وبالمقابل تتراجع أنواع كثيرة بل وتنقرض أمام تكاثر مثل هذه الأنواع. وهناك أيضاً المعاملات الجغرافية نفسها في توزع الكائنات الحية. فالبحر أو الجبل أو الصحراء يشكلون عبر مسافات طويلة. ومع هذه الأغصان تنتقل كائنات كثيرة. ويكون دور هذه الانتقالات هاماص جداً إذا أخذنا بعين الاعتبار تكرارها على مدى عصور جيولوجية طويلة كذلك يلعب الانتقال بواسطة الرياح دوراص هاماً في توزع الكائنات. ويظهر دور الانتقال المطاوع بوضوح في حالة إعمار جزيرة دمرها بركان، حيث تلعب الرياح والتيارات البحرية وجذوع الأشجار القائمة دوراً أساسياً في ذلك. وهناك أيضاً ما يُدعى بالأسباب القديمة للتوزع الجغرافي للكائنات. فجغرافية القارات تغيرت على مدى العصور الطويلة. وثمة مثلاً مجموعات حيوائية كثيرة اليوم يرجع تشابهها وتوزعها في أفريقيا وأمريكا الجنوبية إلى اتصال هاتين القارتين في عصور سابقة. ويجب أن نضيف إلى التغيرات الجيولوجية القديمة التغيرات المناخية القديمة. فتعاقباً الفترات الباردة والدافئة في أوروبا خلال العصر الرباعي أدى إلى خلق مناطق جغرافية حيوية خاصة. وكذلك الصحراء الافريقية كانت فيم مراحل سابقة أكثر رطوبة وملجأ لحيوانات كثيرة. إن توزع الكائنات الحالي هو نتاج تاريخ طويل جداً لمعاملات غير مستقرة على المدى البعيد. ولهذا يعد توزع الكائن الإنساني في العالم اليوم وتدخله في البيئة الطبيعية كسراً لهذا التناغم. واستمرار النوع الإنساني نفسه يتعلق باستمرار التوزع الطبيعي وإمكانية الطبيعة على تعديله.
من المعلوم أن مختلف أنواع الكائنات الحية لاتتواجد في كل مكان. وقد سمح استكشاف كوكب الأرض بوضع خرائط توزع هذه الكائنات مما أدى إلى ظهور علم الجغرافية الحيوية. فما هي أهم أنواع هذا التوزع؟
إن وصف توزع الكائنات الحية في علم الجغرافيا الحيوية هو مدخل لاستخلاص أنماط وأسباب هذا التوزع. ونقول عن نوع حيواني إنه مستوطن إذا كان مستعمراً لأرض صغيرة المساحة، ونجد أمثلة متميزة على استيطانات لحشرات كهفية لانجدها سوى في مغارة واحدة في جبال البيرينيه مثلاً. ولهذه الحيوانات المستوطنة وسائل انتقال وانتشار ضعيفة. وبالمقابل ثمة كائنات تعمر أجزاء كبيرة من الأرض. وهي غالباً أنواع نقلها البشر، مثل الجرذان والذباب والبراغيت. ولهذه الكائنات وسائل انتقال قوية وخصوبة مرتفعة وقدرة على التأقلم مع شروط مناخية مختلفة. أما معظم الأنواع الأخرى كلها مناطق توزع وسطر بين هذين النمطين. فالزرافة والفيل يستوطنان سهوب السافانا الافريقية. والعقرب الذهبي ينتشر في معظم أوروبا الغربية. كذلك نلاحظ أن التوزع المتقطع ظاهرة متواترة، حيث يشغل الكائن الحي عدداً من المناطق التي تفصلها مسافات متباعدة نسبياً. فظبي الجبل وحشرات كثيرة وأنواع من الطيور توجد في فرنسا فقط في جبال الألب والبيرينيه وعلى ارتفاعات معينة. وثمة نمط من التوزع المتقطع يسود شمال أوروبا حيث تعيش الحيوانات على ارتفاعات معينة في الجبال. وهذا النمط من التوزع الجبلي في نصف الكرة الشمالي يرجع إلى العصور الجليدية التي حصلت في أوروبا في الحقب الرابع. وغالباً ما تكون مناطق التوزع المتقطعة نتيجة لتقلص وتجزؤ مساحة أولية أكبر وأكثر اتصالية. ومثال ذلك الثدييات من عائلة الجمليات التي تضم الجمل ذا السنمين في آسيا الوسطى وذا السنم الواحد في الصحراء الكبرى واللاما والفيكونه في أمريكا الجنوبية وجبال الآنديز. وتدل الأبحاث الباليونتولوجية أن أصل هذه العائلة يرجع إلى أمريكا الشمالية في الحقب الثالث، ومنها انتشرت إلى أمريكا الجنوبية وآسيا عبر مضيق بيرنج.
ما هي كبرى المناطق الجغرافية الحيوية على الكرة الأرضية؟
تتمثل أهم هذه المناطق بالمنطقة الشمالية، وهي واسعة جداً وتضم أوروبا وشمال أفريقيا وأمريكا الشمالية شمال مدار السرطان وآسيا كلها شمال خط عرض 30. ومن أهم ثديياتها الكلبيات والدببة والقندسيات والخلد الأوروبي. ومن برمائياتها السمندل ومن أسماكها الهامة السلمون والحفش أو سمك الكافيار. وعلى الرغم من اتساع هذه المنطقة لكنها أفقر بالأنواع من المناطق الاستوائية بسبب تعرضها للجليديات خلال الحقب الرابع. وتتميز من جهة أخرى بانفصال أمريكا الشمالية منذ عهد سحيق عن العالم القديم الشمالي فيتميز بعدة مناطق بيئية محلية مثل القطب وأوروبا الوسطى وسيبيريا والبحر المتوسط.وتفصل الصحراء الإفريقية هذه المنطقة عن المنطقة الاستوائية،وهي من أغنى مناطق العالم بالأنواع الحية. وبموازاة هذه المنطقة الافريقية نجد المنطقة الاستوائية الجديدة في أمريكا الوسطى والجنوبية حيث تمتد غابات الأمازون وسهوب السافانا وغابات الأنديز. وقد تطورت حيواناتها بشكل منفصل عن أمريكا الشمالية حتى أدى التدخل البشري إلى هجرة الحيوانات الشمالية إلى الجنوب مما أدى للقضاء على أنواع محلية كثيرة فيها. وهي تتميز بقلة الثدييات وبتنوع طيورها الهائل وبالقواضم كبيرة الحجم. كما أن حوض الأمازون يحوي أنواعاً هائلة من أسماك المياه العذبة. وثمة منطقة أخرى هامة موازية تدعى بالمنطقة الشرقية ممثلة بجنوب آسيا والهيملايا والفليبين وأندونيسيا. وتتميز بغاباتها الكثيفة وبأنواع نباتية خاصة بها وبقردياتها. كذلك تغزر فيها الطيور والحشرات كبيرة الحجم، إضافة إلى وجود أنواع الدببة والفيلة الخاصة بالهند فيها. أما المنطقة الاسترالية فقد حفظت أنواعاً كثيرة خاصة بها بسبب انعزالها القديم عن العالم. وقد تطورت فيها فقط الثدييات ذات المسلك الواحد، كما أنها تضم تنوعاً حائلاً من الجرابيات. وقد خلف هذا التوزع الجغرافي الحيوي على الأرض أنظمة بيئية ذاتية حساسة جداً لأي تدخل عشوائي. ومع التدخل البشري المتزايد فيها لانستطيع التنبؤ بمستقبل توزع الكائنات الحية على الكرة الأرضية.