والأساتذة أيضا يستفيدون من طلابهم!
"مبحث الأمثال فى العصر الإسلامى نموذجا"
د. إبراهيم عوض
دائما ما أستحث طلابى فى محاضراتى على التفاعل مع المحاضرة وإبداء آرائهم وطرح أسئلتهم وإعلان ما يجول فى خاطرهم ومناقشة ما أُدْلِى به من أفكار وما أتوصل إليه من نتائج دون أى تحرج، حتى لأطلب إليهم الإتيان إلى حيث أقف على المنصة والجلوس مكانى مع قيامى على خدمتهم بتقديم الكرسى لهم ووضع مكبر الصوت أمامهم بكل سرور وارتياح، مؤكدا لهم أنه بهذا الأسلوب يتقدم العلم وتنبنى العقول ونتوصل إلى الأفكار الجديدة والإبداعات المدهشة. ثم أُرْدِف بأنه حتى لو كان ما سيقولونه تافها لا قيمة له بل حتى لو كان خطأ صراحا فإنه لا بد أن يفيدنا نحن الأساتذة، إذ يقرع أمخاخنا، ويحفزها على التأمل والتفكير وتقليب الرأى، ويفتح أمامنا آفاقا من العلم والإبداع ما كان يمكن أن تنفتح لو بقى الطلاب صامتين ساكنين يكتفون بتلقى ما نقوله لهم مما يظنونه خلاصة العلم وغاية المراد من رب العباد أو بالعبث تحت البنشات بالمحمول أو بالتهامس فيما بينهم فى أمور الحياة اليومية بعيدا عن المحاضرة وما فيها من وجع دماغ. ثم أضيف أننا، نحن المعلمين، بشر بل أطفال صغار محدودو الفكر والعقل والعلم، وبحاجة إلى من يتعاون معنا ويسهّل علينا عملنا ويخفف عنا جهدنا، وأن هذه مهمة الطلاب، والزملاء والقراء أيضا، وأن ما نكتبه أو نقوله فى الدرس وفى غير الدرس إنما هو اجتهاد لا أقل ولا أكثر، وليس كلاما معصوما أو نهائيا، بل مجرد خطوة على الطريق سرعان ما يتم تجاوزها بالتصحيح أو الاستدراك أو الإضافة أو التحوير، مهما كان اعتزازنا به وتصورنا أننا جئنا فيه بالذئب من ذيله، وهو ما لا أختلف فيه عن غيرى من عباد الله، إذ أظن دائما رغم ذلك كله أننى عالمٌ نِحْرِيرٌ لم تَلِدْه وَلَّادة: لا ولادة بنت المستكفى ولا ولادة بنت اللامستكفى. كما أبين لهم صادقا أنهم كثيرا ما ألهمونى أشياء فى غاية الأهمية والخطورة من خلال ما يسألوننى عنه أو يراجعوننى فيه أو يخالفوننى الرأى حوله حتى لو كان ما يقولونه غلطا محضا أو لامعنى له. وإنى لأستطيع بمنتهى السهولة، متى ما أردتُ، أن أسوق عددا من الأفكار التى خطرت لى والدراسات التى أنجزتها انطلاقا من ملاحظة أبداها طالب أو طالبة أو سؤال ألقياه أو اعتراض اعترضا به على كلامى.
ولسوف أكتفى هنا بمثال واحد هو الذى يقف خلف المقال الحالى بوصفه الباعث عليه والسبب المباشر لكتابته، إذ سألتْنى منذ أيام، فى وريقة صغيرة بعتث بها لى فوق المنصة خلال المحاضرة، طالبة فى الفرقة الثانية بقسم اللغة العربية بآداب عين شمس فى مادة «أعمال السنة» عن رأيى فيما قرأتْه عند المرحوم السباعى بيومى فى كتابه الذى يؤرخ فيه للأدب العربى من أن المثل بعد العصر الجاهلى لم يعد له وجود. فقلت لها على الطائر: عجيب أن تفتحى هذا الموضوع الآن، وقد كنت أفكر فيه وأنا أحلق ذقنى هذا الصباح وفى الأيام الماضية، لكن دون تعمق أو نية فى دراسة الأمر دراسة مستأنية. ثم أضفت أنه لا يمكن أن يتوقف المثل يوما، وأن حديثها هذا سوف يدفعنى إلى متابعة دراسة القضية حتى تتبلور أفكارى بشأنها. ولما عدت إلى البيت أخذت أقلب المسألة فى عقلى وأضع بعض الحلول وأرسم بعض الخطوط وأفكر فى بعض المظانّ التى ينبغى لى الرجوع إليها لبحث الموضوع بحثا ناجعا. ثم حاولت أن أعرف فى أى مجلد قال الأستاذ السباعى بيومى ما قال. وكنت أظن أنه يقصد أن ضرب الأمثال قد توقف نهائيا بعد الجاهلية حتى يومنا هذا. وحاولت أن أعرف اسم الطالبة صاحبة السؤال وأحضرها لأسألها عن المجلد الذى يتضمن هذا الكلام، فلم يتيسر لى شىء من هذا، فأنزلت من رفوف مكتبتى الخاصة المجلد الثالث من كتاب السباعى بيومى، وهو المجلد الخاص بالعصر العباسى، لكنى لم أعثر فيه على شىء، فخطر لى أن يكون ما أبحث عنه متاحا فى المجلد الثانى الخاص بالعصر الإسلامى والأموى. وفعلا عثرت فى ذلك المجلد على ما أريد، فكان من ثمرته البحث التالى، الذى لولا أن الطالبة المذكورة سألتنى سؤالها المشار إليه ما خطر لى أن أكتبه. فالفضل فى كتابته يعود، كما هو واضح، إلى الطالبة.
وهو أمر لا بد أن أقر به إقرارا، ولا أجد فى نفسى أية غضاضة فى الاعتراف به، إذ إنى وأمثالى من الكتاب والدارسين، كما أقول باستمرار لطلابى ضاحكا وجادا فى ذات الوقت، لا نغرف ما نقول من علم فى المحاضرات التى نلقيها والكتب التى نؤلفها بمغرفة نغمسها فى برميل موجود عندنا فى البيت، بل لا بد من المعاناة والبحث والتنقير والتحقيق والمراجعة والتفكير والاعتماد على الآخرين من باحثين ومؤلفين سابقين وطلاب يسألوننا ويفتحون لنا أبواب البحث ونوافذه أو يقولون شيئا خاطئا فيحركون أذهاننا للتصحيح والمراجعة والتوسع فى الموضوع حتى نصل إلى شىء نافع أو على الأقل: نظنه نافعا. هذا هو العلم، وهذا هو طريقه، ونحن الأساتذة لا نفترق فى ذلك عن أى مخلوق فى الدنيا بما فى ذلك طلابنا أنفسهم. إننا جميعا طلاب حقيقة، أو ينبغى أن نكون كذلك، ولا بد لنا من التعب والإرهاق والاجتهاد، لا معدى عن ذلك.
وكل ما يمكننا أن نقول بتميزنا فيه عن طلابنا هو أننا، بباعث ودافع من عملنا الذى نأكل منه عيشنا ونكسب رزقنا ورزق أولادنا وزوجاتنا، وأحفادنا كذلك فوق البيعة، ليس أمامنا إلا القراءة والبحث والتحقيق، أما الطلاب فى عصرنا هذا فالغالبية الساحقة منهم لا ترى لشىء من هذا الذى أقول أى معنى لأن العلم لديها والتفكير والبحث والقراءة تضييع وقت لا ينبغى أن يتورط فيه العقلاء، الذين يضعون نصب أعينهم دائما تكبير أمخاخهم وإراحة أعصابهم وعقولهم من وجع القلب وقلبة الدماغ. وقد لاحظت أنه كلما ألححت على المعنى الذى أتناوله الآن ظنا منى أننى سوف أنجح فى إغراء طلابى، الذين أحبهم حبا جما وأحب مصلحتهم وأريد أن أراهم فى أعلى عليين فى ميدان العلم والمعرفة، تبين لى أننى واهم وهما شنيعا، فهم لن يتأثروا بشىء مما أقول ولا بالطبل البلدى حتى لو أحضرنا لهم فرقة حسب الله ذاتها، بل حتى لو أشعل الواحد منا نحن الدكاترة النار فى نفسه كى يلفت انتباهم ويفهمهم أن الأمر جِدٌّ لا هزل فيه، إذ أتوقع أن يكون رد فعلهم على إحراق الأستاذ نفسه أمامهم هو التهليل والصياح والفرحة بأنهم تخلصوا من أحد المزعجين الذين يحولون حياتهم إلى جحيم بما يصدعون به رؤوسهم ويضيعون به أوقاتهم النفيسة من كلام لا يساوى هَمَّه، ولن ينسوا أن يلتقطوا له بعض الصور وهو يحترق ويصير فحما ويعرضوها على الفيس بوك ليكون عظة وعبرة للغافلين والمغفلين. لقد اختاروا طريقهم، وانتهى الأمر، ولا أمل فى أن يتنازلوا عن هذا الاختيار المتمثل فى تكبير المخ.
وإنى لأرى أن كلامى إلى طلابى عن التعب الذى نلاقيه والتجارب المؤلمة التى نمر بها والطريق التى ننتهجها فى الوصول إلى ما نريد من حقائق أهم وأجدى من مجرد سوق المعلومات إليهم رغم أن بعض ضيقى الأفق والمتنطعين يظنونه إسرافا فى الحديث عن أنفسنا. وهل المفتونون بأنفسهم يقرون لغيرهم بالفضل فيما اكتسبوه من علم ومعرفة، فضلا عن أن يكون هؤلاء الأغيار هم الطلاب الذين لا يقيمون للعلم ولا للمعرفة أى وزن، أو يقرون لهما بأية قيمة؟ ولهذا ترانى أقول لهم دائما: لقد ضقنا ومللنا من ضخ المعلومات، وبخاصة أن المعلومات متوافرة الآن بكل سهولة على مَدّ الذراع، أو على طرف الثُّمَام كما كان القدماء يقولون، فالمشباك (الإنترنت) موجود، وفيه كل شىء، وما على الواحد منا إلا أن يكتب الكلمة التى يريد البحث عنها فى جوجل فترتد إليه فى لمح البصر آلاف المعلومات مما يزيد زيادة رهيبة عن حاجته. وأتصور أن كلامى عن تجاربنا فى هذا المجال أجدى وأنفع. ولكن على من تتلو «مزاميرك» يا إبراهيم؟ إنهم فى أمور «الزمر والطبل» أيضا لأمهر منك وأذكى وأعلى قدرا، ولاتستطيع أنت ولا من يتشدد لك أن يشق لهم غبارا!
وتتلخص فكرة البحث الذى نحن بصدده فى تقديم رأى مخالف لما كتبه المرحوم السباعى بيومى فى كتابه السالف الذكر ونبهتنى إليه، مشكورةً ومأجورةً، إحدى طالباتى من أن فنون الأدب فى العصر الإسلامى هى نفسها فنونه فى العصر الجاهلى بالإضافة إلى فن الرسائل إليها وإسقاط فن المثل منها، ذلك الفن الذى يقول الأستاذ بيومى رحمه الله إنه «انعدم تقريبا (فى ذلك العصر) لأنه كان قائما قبل الإسلام على ضعف الرابطة الاجتماعية ونمو الشخصية الفردية وفراغ الإنسان لنفسه يرقب أطوارها ويعْنَى بشؤونها. ولم يكُ هذا متوافرا فى صدر الإسلام إذ انساقت الأمة إلى الغزو والجهاد ونشر معالم الشريعة والدين غير شاعرة أفرادها إلا أنها لَبِنات فى بناءٍ تَفْنَى شخصياتها فى مجموعه وتبقى متماسكة به لإقامة أركانه. هذا هو وجه انعدام المثل مع ما راعهم من أمثال القرآن وأمثال الرسول». وليس معنى مناقشتى لما يقوله الكاتب الفاضل وانتهائى إلى نتائج تختلف عما انتهى هو إليه أننى أتصور نفسى أفضل منه. بالعكس، فهو صاحب فضل على، فقد تربيت على كتبه وبحوثه هو وأمثاله، ولولا هم ما كنت أنا. حتى لو دار بخلدى يوما أننى أطول منه قامة فلأنى إنما أقف فوق دراساته وكتاباته كما يقف الواحد منا على صخرة عالية فيجد نفسه بالضرورة وقد ارتفع عما كان عليه لأن ارتفاع الصخرة قد أضيف إلى طوله الطبيعى، بالضبط مثلما سوف يأتى من يقرأ هذا البحث ويضع قدمه عليه فترتفع قامته أطول من قامتى رغم استفادته، سلبا أو إيجابا منى ومن بحثى. وهكذا يتقدم العلم، وهكذا ننتقل نحن من خانة الجهل إلى خانة المعرفة، وليس هناك من سبيل آخر غير هذا. ويا ليتنا، بعد هذا كله، نرضى بما بلغناه من معرفة جديدة، إذ نظل ننظر إلى ما صنعناه على أنه مجرد اجتهاد قد يخطئ، وقد يصيب، وإلى أنه مجرد خطوة على الطريق لا قيمة لها ولا معنى إلا بانضمامها إلى خطوات الآخرين، التى قد تأخذ اتجاها آخر رغم كل ما بذلناه من جهد فى هذا السبيل. ولنعد الآن إلى ما كنا فيه من قول المرحوم السباعى بيومى إن فن الأمثال قد اختفى تقريبا من الوجود فى العصر الإسلامى.
ويلاحظ القارئ كيف يردد الكاتب هنا ذات الأسباب تقريبا التى أوردها من قالوا بصمت الشعراء عن إبداع الشعر لدن مجىء الإسلام، وكأن الإسلام يوقف المراكب السائرة. كذلك من الغريب أن يعزو اختفاء الأمثال إلى انشغال المسلمين بالغزو والجهاد ثم يتحدث عن الأمثال التى ضربها الرسول الكريم، وكأنه لم يكن يغزو أو يجاهد. ثم هل يحتاج المثل إلى احتشاد وفراغ كما يفهم من كلام كاتبنا؟ وإذا كان الإسلام لم يشغل الشعراءَ عن الاستمرار فى إبداعاتهم الشعرية، والشِّعْر هو ما هو، فكيف نتصور أن يشغل الناسَ عن ضَرْبِ الأمثال، وضربُ الأمثال أهون آلاف المرات من نظم الشعر، إذ هو مجرد كلام عفوى لا يزيد عن لفظين أو عدة ألفاظ جد قليلة، والفكرة فيه غير عميقة؟ وبالمثل نستغرب قول الأستاذ بيومى إن الأمثال تقوم على ضعف الروابط الاجتماعية وعكوف الشخص على نفسه، رغم ما هو معروف من أنها إنما تنهض على التواصل الاجتماعى، وإلا فكيف يتوصل الإنسان إلى صوغ المثل ما لم يتأمل أحوال الناس والمجتمع من حوله؟ وما فائدة المثل إذا ظل حبيس صدر الإنسان؟ ثم إن المثل لا نعرف له فى معظم الأحيان صاحبا معينا، وهو ما يؤكد الصبغة الجماعية له. كذلك قلما كان العربى ينعزل عن قبيلته وعشيرته، إذ لم يكن العرب قراء ولا متأملين فى الكون ولا متحنثين فى الكهوف لا يصلح أمرهم إلا بالانفراد عن البشر. ثم كيف نوفق بين دعوى كاتبنا وبين كثرة ما أُثِر عن رسولنا صلى الله عليه وسلم من أمثال؟ أتراه، دون مَنْ حوله، كان منعزلا عن أمته عاكفا على نفسه لا يختلط بالمسلمين؟ ومن الطريف أنه لم يؤثر عنه شىء من الكلمات المأثورة أيام تحنثه وانفراده بنفسه كثيرا فى غار حراء، على حين كثرت أقواله السائرة المحفوظة بعد البعثة. وعلى أية حال فالأمثال للمجتمع كالماء والهواء لا يمكنه الاستغناء عنها.
لكن الأستاذ بيومى نسى هذا كله وانطلق من مقدمة يراها مسلمة لا تحتاج إلى إثبات، ألا وهى أن الأمثال قد اختفت من الوجود بعد مجيء الإسلام. وأحسب أن ما أوقعه فى هذا الوهم هو أنه رأى مؤرخى الأدب العربى لا يتحدثون عن هذا الفن بعد انصرام العصر الجاهلى، فظن أن سكاتهم عن ذلك سببه عدم وجود الأمثال، فى حين أن السبب، كما أراه، هو أن ثقافة الجاهليين وأدبهم كان محدودا محصورا فى الشعر والخطابة، فوقف مؤرخو الأدب العربى عند الأمثال يستكثرون بها، أما بعد الإسلام فكان لدى العرب القرآن المجيد والأحاديث النبوية الشريفة والرسائل والمعاهدات والتاريخ وغير ذلك من العلوم والفنون، فضلا عن الشعر والخطب بطبيعة الحال، فلم يهتموا بالمثل لأن عندهم فنونا متعددة غيره. ويمكن أن نزيد على هذا أن كتب الأمثال عادة ما تغفل صاحب المثل، الذى قد يكون صحابيا أو تابعيا أو من العصر العباسى وما يليه، فيظن الناظر فى هذا الكتب تلقائيا أن الأمثال التى تحتويها كلها أو معظمها جاهلية، باعتبار أن الأمثال بطبيعتها البسيطة تناسب العصر الجاهلى، وبخاصة أن كثيرا منها يعكس أوضاع الحياة البدوية، التى يربط السواد الأعظم بينها وبين الجاهليين.
ومعروف أن للرسول الكريم كثيرا من الأحاديث التى صارت أمثالا مشهورة. أما الأمثال التى أتتنا عن الصحابة الكرام فمنها على سبيل التمثيل قول بلال فى غزوة بدر وهو يستعد لقتل أبى جهل معذِّبه فى الجاهلية: «لا نَجَوْتُ إنْ نَجَا»، وقول الصِّدِّيق: «اصطناع المعروف يقِى مصارعَ السوء»، وقوله عند موت الرسول وذهول عمر آنذاك: «من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت»، وقوله لعمر عند اقتراحه تجنُّب الاصطدام بالمرتدين: «أجَبَّارٌ فى الجاهلية وخَوَّارٌ فى الإسلام؟»، وقول الفاروق: «مَنْ كَتَمَ سِرَّه كان الخِيارُ فى يده»، «أعقلُ الناس أعذرُهم للناس»، «إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة»، «لستُ بالخِبّ، ولكن الخِبّ لا يخدعني»، «لو كان الشكر والصبر بَعِيرَين ما باليتُ أيهما أركب»، وقوله يمدح فقه علي: «قضيةٌ ولا أبا حسنٍ لها»، وقوله لمعاوية واليه على الشام تعليقا على بعض تصرفاته السياسية: «لا آمُرُك ولا أنهاك»، وقوله لعمرو بن العاص حين ضرب ابنُه رجلا مصريا سبقه بالخيل: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»، وقوله لبطنه حين كانت تقرقر من الجوع أيام الرمادة: «قَرْقِرْ ما تُقَرْقِر، فليس لكَ إلا الزيت»، وقوله: «وَلِّ حارّها من تولى قارّها»، أى المفروض أن يتحمَّل ثقلَ الأمر مَنْ سبق أن استفاد من خيراته، وقول عبد الرحمن بن عوف له عندما طلب منه أن يمد يده ليبايعه خليفة: «ما سمعتُ منك فَهَّةً فى الإسلام قبلها»، وقول أحد رعيته له حين صارحه بأنه لا يمكن أن يحبه أبد الدهر، لكنه لن يظلمه: «إنما يبكى على الحب النساء»، وقول عثمان: «ما يزَعُ الله بالسلطان أكثرُ مما يزع بالقرآن»، «أنتم إلى إمامٍ فعَّال أحوجُ منكم إلى إمامٍ قوَّال»، وقول علي: «مَنْ تكلَّف ما لا يعنيه فاته ما يعنيه»، «أهون الأعداء كيدًا أظهرهم لعداوته»، «إلى الله أشكو بلادة الأمين ويقظة الخائن»، «الناس من خوف الذل فى ذل»، «الوحدة خير من رفيق السوء»، «قيمة كل امرئ ما يحسنه»، «من فاز بفلان فقد فاز بالسهم الأَخْيب»، وقوله للزبير بن العوام حين لم ينصره فى وقعة الجمل رغم مبايعته له قبلا: «ما عَدَا مما بَدَا؟»، وقول عائشة له عند انتصاره فى تلك الوقعة: «إذا ملكتَ فأَسْجِحْ»، وقول خالد بن الوليد: «لا نامتْ أعين الجبناء»، وقول ابن مسعود: «ما شىءٌ أحقَّ بطول سجنٍ من لسان»، وقول معاوية: «أنقصُ الناس عقلا مَنْ ظلم مَنْ هو دونه»، «مَنْ طلب عظيما خاطَر بعظيمِه»، وقوله محبورا حين بلغه موت الأشتر النخعى، وكان من رجال على: «واهًا! ما أبردها على الفؤاد! »، وقول عمرو بن العاص: «إمامٌ عادل خيرٌ من مطرٍ وابِل»، «زَلَّة الرِّجْل عَظْمٌ يجْبَر، وزلة اللسان لا تُبْقِى ولا تَذَر»، «ليس العاقل مَنْ يعرف الخير من الشر، ولكنه من يعرف خير الشَّرَّين»، وقول المغيرة بن شعبة: «فى كل شىء سَرَفٌ إلا فى المعروف»، وقول عبد الله بن العباس: «الهوى إلهٌ معبود»، «إذا جاء القَدَر عَمِى البَصَر»، وقول عبد الله بن عمر: «البِرُّ شىء هَين: وجهٌ طَلْقٌ، وكلامٌ لَين»، وقول الحسن بن علي: «أَكْيس الكَيس التُّقَى، وأحمقُ الحُمْقِ الفجور»، وقول أخيه الحسين: «خير المال ما وُقِى به العِرْض»، وقولهم: «أشأم من طُوَيس»، وهو مخنث كان يقول: «وُلِدْتُ يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفُطِمْتُ يوم مات أبو بكر رضى الله عنه، وبلغت الحنث يوم قُتِل عمر رضى الله عنه، وتزوجت يوم قُتِل عثمان، ووُلِدَ لى ليلة قُتِلَ على عليه السلام»، وقولهم: «تقيس الملائكة إلى الحدادين»، الذى يفسره المفضل بن سلمة فى كتابه: «الفاخر» كما يلي: «الحدّادون: السجّانون. ويقال لكل مانع: حدّاد... ومعنى الكلام: تشبه خَزَنةَ جهنم بالسجّانين من الناس؟ ويقال إن أصل هذا المثل أنه لما نزلت هذه الآية: «عَلَيهَا تِسْعَةَ عَشَرَ» قال رجل من كفار قريش من بنى جُمَح...: أنا أكفيكم ثمانية عشر، واكفونى واحدًا... فقال رجل سمع كلامه: «تقيس الملائكة إلى الحدّادين؟». فأنزل الله جل وعز: «وما جَعَلْنَا أصحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكةً»...».
ومن هذه الأمثال قولهم: «نام نومةَ عَبُّود»، وهو أوَّل الناس دخولًا الجنة حسبما ينْسَب إلى رسول الله عليه السلام، إذ يُحْكَى أن الله عز وجل بعث نبيا إلى أهل قرية، فلم يؤمن به أحدٌ إلا ذلك العبد الأسود، وأن قومه احتفروا له بئرًا فصيروه فيها وأطبقوا عليه صخرة، فكان ذلك الأسود يخرج فيحتطب ويبيع الحطب ويشترى به طعامًا وشرابًا ثم يأتى تلك الحفرة، فيعينه الله تعالى على الصخرة، فيرفعها ويدْلِى إليه ذلك الطعام والشراب، وأنه احتطب يومًا ثم جلس يستريح فضرب بنفسه الأرض بشِقِّهِ الأيسر فنام سبع سنين، ثم هب من نومه فقام، ثم ضرب بنفسه الأرض بِشِقِّهِ الأيمن فنام سبع سنين، ثم هب من نومه وهو لا يرى أنه نام إلا ساعةً من نهار، فحمل حُزْمته فأتى القرية فباع حطبه ثم أتى الحفرة فلم يجد النبى فيها، وقد كان بدا لقومه فيه فأخرجوه، فكان يسأل عن الأسود، فيقولون: «لا ندرى أين هو»، فُضِرَب به المثل لكل من نام نومًا طويلًا.
ولنضرب صفحا عن كل ما أوردناه من أمثال قالها مسلمون، ولنفترض أن ما قاله المرحوم السباعى بيومى عن تأثير الإسلام فى انصراف أتباعه عن اختراع الأمثال صحيح، فهل هو ملزم للمشركين واليهود والنصارى؟ بطبيعة الحال لا. ومن الأمثال التى أبدعها آنذاك من لم يسلموا أصلا أو من لم يكونوا قد أسلموا بَعْدُ قولهم: «ويلٌ للشَّجِى من الخَلِىّ». وهذا المثل ينسب إلى أكثم بن صيفى، الذى ما إن سمع ببعثة النبى صلى الله عليه وسلم بمكة حتى أرسل ابنه حبيشا يستطلع طِلْعَه، فلما عاد له بخبره وجد أن كل ما يدعو إليه نبيل كريم، فجمع قومه وأظهرهم على جلية الأمر ونصحهم أن يسارعوا إلى الدخول فى الدين الجديد بملء رضاهم قبل أن تلجئهم الحوادث إلجاءً إلى ذلك عند استفاضته وتمكنه، لكن أحد كبارهم رفض نصيحة الشيخ الحكيم واتهمه بأنه شاخ وغلبه الخَرَف، فقال لهم حينئذ: «ويلٌ للشجى من الخلى».
ومن هذا الضرب أيضا المثل التالى: «لا فى العِيرِ ولا فى النَّفِير»، وصاحبه أبو سفيان بن حرب. وذلك أنه أقبل بِعِيرِ قُريش، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تَحَينَ انصرافَها من الشام فنَدَب المسلمين للخروج معه، وأقبل أبو سفيان حتى دنا من المدينة، وقد خاف خوفًا شديدًا، فقال لرجل هناك: هل أحسستَ من أحدٍ من أصحاب محمد؟ فأجابه: ما رأيتُ من أحدٍ أُنْكِرُه إلا راكبين أتيا هذا المكان، وأشار له إلى مُنَاخ جاسُوسَى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبعارًا من أبعار بَعِيرَيهما ففتَّها، فإذا هى نَوًى. فقال: علائفُ يثرب! هذه عيونُ محمد! فضرب وجوه عِيرِهِ فساحَلَ بها وترك بَدْرًا على يساره. وقد كان بَعَثَ إلى قريش حين غادر الشام يخبرهم بما يخاف من النبى عليه السلام، فأقبلت قريش من مكة. فأرسل إليهم يخبرهم أنه قد أحرز العِيرَ ويأمرهم بالرجوع، فأَبَتْ قريش أن ترجع. ورجعت بنو زُهرة من ثنية لَفْتٍ: عدلوا إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فصادفهم أبو سفيان فقال: يا بنى زُهْرَة، لا فى العير ِ ولا فى النَّفير! قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع. ومضت قريش إلى بَدْر فوافقهم النبى عليه السلام، فأَظْفَرَه الله بهم. ولم يشهد بدرًا من المشركين من بنى زُهْرَة أحد... إلخ. وهذه مجرد "عينة" سريعة عارضة من الأمثال والأقوال السائرة التى نعرف أصحابها، فما بالنا بـ"جميع" الأمثال والأقوال التى نعرف والتى لا نعرف لها صاحبا؟ والعجيب أن الأستاذ السباعى بيومى، بعد هذا كله، قد أورد، خلال كلامه عن مميزات النثر فى صدر الإسلام، عددا لا بأس به من الأمثال والحكم التى قالها الصحابة. الله أكبر!