عاش الأديب والفيلسوف الروسي الكبير ليو تولستوي بين عامي 1828م و1910م واليوم يحتفل العالم كله بمناسبة ذكرى مرور مائة عام على وفاته .
لكن لماذا نحتفل نحن بمناسبة كهذه وما علاقتنا بتولستوي وما علاقة تولستوي بنا؟
ولعل الذين عرفوا الرجل جيدا وعايشوا عالمه الرحب وتعمقوا في كتاباته وفهموا مغزى رواياته ووقفوا على أسرار حياته يملكون الإجابة على هذا السؤال.
فنحن أمام رجل (كبير) بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
رجل أتى إلى الحياة ولم يرض عيشها هكذا دون أن يفهمها ويفهم الهدف منها.
ولم يرض أن يتركها دون أن تبقى بها بصمته المميزة، ليس فقط في دنيا الأدب والرواية، لكن أيضا في عالم الفلسفة والآداب والأخلاق والعمل والزهد والقدوة العملية والإصلاح الاجتماعي والدعوة للسلام.
سنعيش مع تولستوي في ملفات متفرقة طوال هذا العام ، وندعو محبي هذا الإنسان الكبير من الأدباء والكتاب والنقاد الهواة والمحترفين أن يشاركونا بإرسال رؤاهم النقدية لأعماله وتحليلهم العميق لسيرة حياته لنشرها طوال عام الاحتفال بمئويته .
نهدى هذا الملف المميز لأولئك الخاملين الكسالى الذين لم يتذوقوا بعد طعم الجد في الحياة .. إليهم نهدى (تولستوي) الذي كان يقول:
"على المرء إذا أراد أن يعيش بشرف وكرامة أن يتمزق بقوة وأن يصارع كل المثبطات، فإذا أخطأ بدأ من جديد وكلما خسر عاود الكفاح من جديد موقنا أن الإخلاد إلى الراحة إنما هو دناءة روحية وسقوط ".
نهدى لهؤلاء (تولستوي) الذي كتب بمذكراته وهو لا يزال في العشرين من عمره: "لم أفعل شيئا ، كم يعذبني ويرعبني إدراكي لكسلي، أن الحياة مع الندم محض عذاب .. سأقتل نفسي إذا مرت على ثلاثة أيام أخرى دون أن أقوم بفعل شيء ينفع الناس".
نهدى هذا الملف لهؤلاء الغرقى في ملذات الحياة الحسية، لا يطمحون في الانعتاق والارتفاع والطفو ليستنشقوا هواء الرفعة والحرية الحقيقية.. نهدى لهؤلاء (تولستوي) الذي أعطى ظهره لثرائه الفاحش وترك أراضيه وضيعاته ومزرعته وأملاكه ولبس الخشن من الثياب على جسد مسكون بنفس زاهدة شفافة شغوفة.
نهدى لهؤلاء (تولستوي) الذي قال:
"أحس بأن حياتي قد توقفت فجأة! لم تعد لدى رغبة في شيء، والحقيقة أن الرجل العاقل يجب ألا يرغب في شيء.
إن الحياة نفسها وهم، وقد بلغت الحافة التي لا أجد بعدها إلا الموت ! أجل هذا صحيح .. الحياة وهم كبير وها أنا ذا المحسود على الثراء وعلى السعادة والشهرة وعلى حبي لزوجتي، بت أشعر بأنه لم يعد من حقي أن أعيش أكثر مما عشت".
نهدى هذا الملف لأثرياء العالم المهمومين باستثماراتهم وشركاتهم وعقاراتهم وأموالهم الطائل والذين نسوا حق الفقراء والجوعى والمطحونين في أموالهم.. نهدى إليهم تولستوي الذي وهب أملاكه للفلاحين وترك النعيم وعاش في الحقول المجاورة يكسب ماله من عرق جبينه.
نهدى أيضا هذا الملف لبعض كتابنا وأدبائنا الذين يهيمون في كل واد والذين يقولون ما لا يفعلون، والذين يتحدثون عن المساواة ويبدعون عشرات القصص والروايات يدافعون بها عن المثل والحرية والقيم والحقوق، وهم في واقع الأمر يحيون منعزلين عن الناس وعن همومهم وقضاياهم كأنهم بشر غير البشر وناس غير الناس .
نهدى إليهم تولستوي الذي ضحى بحبه وسعادته ووهب حياته للفقراء والفلاحين حتى أنه كان يخاطب نفسه أن: "أي فلاح بسيط من العبيد الذين يعملون في أرضك يستطيع أن يصرخ فى وجهك انك تقول شيئا وتفعل نقيضه ، فكيف تطيق ذلك".
ولم يكتف بعشرة آلاف رسالة كتبها يدافع بها عن الفلاحين، ولم يفرح بلقب "محامى مائة مليون من الفلاحين الروس".. بل تخلى عن كل شيء ليصير واحدا منهم.
نهدى (تولستوي) لأدباء العربية المتهتكين الذين يعلون من شأن الرذيلة ويمجدون المجون ويصنعون من اللص والفاسق والأفاق بطلا ً.. نهدى إليهم تولستوي الذي أعلى في رواياته وقصصه من شأن الفضيلة والعفة ودافع عن الشرف والقيم الإنسانية النبيلة.
نهدى لأدبائنا الذين يلهثون وراء الجوائز رجلا رفض (نوبل للآداب) مرتين؛ لأنه كان يرى أن النقد الأدبي المجامل مثله مثل الجوائز والمكافآت الكبيرة تؤدى إلى فساد الخلق الفني والأدبي للمبدع وابتذاله.
نهدى هذا الملف لأناس فقدوا الحد الأدنى من الإنصاف والعدل والاستقلالية في الفكر والرأي وراحوا ينتقصون من قدر الرسول (صلى الله عليه وسلم) وينشرون أكاذيب وافتراءات حول سيرته العطرة.
نهدى تولستوي - الذي كان له دفاع أذهل العالم عن نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) – لهؤلاء حتى يتعلموا منه الإنصاف والموضوعية وأدب الحوار واحترام الرموز العظيمة التي أنارت الأرض بنور الهداية والحكمة.
وأيضا نهديه للمسلمين ليعلموا أن هناك من الجانب الآخر من ينصفنا ويحترم رموزنا ومقدساتنا ويدافع عن حضارتنا وثقافتنا وعقائدنا.