• في الغرفة 504 ذات المساحة الثابتة التي لا تزيد ولا تنقص , كنت أتمدد طولاً وعرضاً , فرحتي كانت واسعة كما هو حلمي الذي تحقق . لم يكن في الغرفة سواي فكل شركائي في الغرفة ذهبوا إلى محاضراتهم منذ الصباح . حسان , جاسم , استيقظا لصلاة الفجر ولم يناما وجاسا للدراسة , سهيل كان متضايقاً جداً لأنه خلد للنوم في الثانية والنصف فجراً بعد فوزه بلعبة التركس في الغرفة (503) , أما أنا فلقد كنت فرحاً , وبالطبع لم تبد فرحتي لأحد لأنني خبأت رأسي تحت الغطاء متظاهراً بالنوم منتظراً مغادرتهم .
• المهم كنت وحدي , والموعد كان في الحادية عشرة . والآن الثامنة, ثلاث ساعات تفصلني عن لقاءها, ثلاث ساعات تفصلني عن منال وعن الجهد الذي استغرق مني (4) سنوات مستمرة كي ترضى بالمواعدة معي .
• أحسست بطء الزمن للمرة الأولى ولكني أردت أن أشغل نفسي فأدرت الراديو على صوت الشباب وغنت فيروز وعلي الديك ونانسي وغيرهم , ولكني كنت مشغولاً بكي البنطال والقميص فأنا لأول مرة أهتم بذلك بهذا الحماس .
• فتحت خزانة سهيل ووضعت من عطره واستعرت ماسح الأحذية من خزانة حسان وبدأت بتلميع حذائي حتى صار كالمرآة ولمحت ابتسامتي وراحتي , ونظرت للساعة إذ هي العاشرة . قلت لنفسي على الأقل يجب أن أكون قبل ساعة من الموعد .
• مهرولاً ناسياً إغلاق باب الغرفة ومن قبلها الشباك نزلت الدرج من الطابق السادس ورغم قصر المسافة التي تفصلني عن الكلية , استقليت سرفيس جمعية المهندسين وأمام باب المعهد الزراعي ترجلت ومن جديد مهرولاً باتجاه الكلية ,في الطريق رددت التحية على من صادفته ولم أكترث لمعرفة من ألقى علي السلام.
• وصلت لمدخل الكلية وبسرعة صرت داخلها كدب دخل لكهفه بعد رحلة صيد طويلة.
• المقصف في الطابق الثاني آه يا ليته كان في الطابق الأول وعند وصولي لباب المقصف امتددت بنظري نحو الطاولة التي أبتغيها في الزاوية قرب النافذة كانت شاغرة ..... وبقفزات ثعلب ينقض على دجاجة وصلت للطاولة جلست متعباً فرحاً بمغنمي كمهاجر عاد للتو من المغترب .
• الساعة الآن العاشرة والثلث وعلي أن اطلب مشروباً ما فالوقت مازال طويلاً وصاحب المقصف قد ينزعج , فنهضت لأطلب كأساً من الشاي وعند طاولة الحساب دفعت العشر ليرات وانتظرت الفيش . وإذ بأحد يربت على كتفي
- ويقول : صباح الخير , التفت فإذ هو الدكتور سالم .
- رددت : أهلاً دكتور صباح النور .
- كيف حالك ياصابر وماذا تفعل هنا .
- الحمد لله ..... أتيت لأشرب كأساً من الشاي تفضل يا دكتور .
- انتظر الدكتور سالم برهة ثم قال لا مانع وخصوصاً أنه لدي قليل من الوقت وعلى ما يبدو لا توجد طاولات فارغة سأجلس معك إذاً .
- هنا أحسست وكأن أحداً سكب فوقي دلواً من الماء البارد , فلقد بقي نصف ساعة فقط على مجيء منال ولكني عزيت نفسي بأنه لن يجلس طويلاً .
- لم يقبل الدكتور سالم أن أدفع ثمن مشروبه بل رد لي العشر ليرات ودفع هو ثمن قهوته والشاي الذي طلبته .
- توجهنا سوية للطاولة الجميلة في الزاوية الموعودة وجلسنا . كان المقصف مزدحماً والأصوات تتعالى وصوت الموسيقا المرتفع جعلني والدكتور سالم نتحدث بصوت مرتفع .
- قال لي أتعرف يا صابر منذ زمن لم أجلس في المقصف الأجواء جميلة هنا و أجواء شبابية خبرني يا صابر : عن ماذا يتحدث الطلاب هنا في جلساتهم ؟؟؟
- قلت لنفسي قبل أن أرد : ياحبيبي !!!!!! الدكتور استلطف الجلسة وعلى مايبدو أنه مبسوط وسيجلس مطولاً . سأرد عليه بطريقة مقتضبة كيلا يطيل في الجلوس والكلام .
- يادكتور الطلاب هنا يجلسون لشرب الشاي والقهوة وتناول الصندويش ثم ينصرفون فوراً لأن المحلات محدودة ولا يجوز أن يطيل المرء جلوسه لإفساح المجال لغيره !
- رد الدكتور سالم : هذا خطأ يجب أن يتحول المقصف لساحة حوار , في الاستراحات و أثناء الفراغ , بين الطلبة في كافة المواضيع لديكم الكثير الكثير من الأمور التي يمكن أن تتحدثوا عنها .
- قاطعته وبارتباك شديد: أعرف أعرف يادكتور ولكن ماذا نفعل الوقت غير كاف لدينا الكثير من الدراسة ولا وقت لدينا للنقاش والحوار .
- آه .... ربما معك حق . بالمناسبة هل نجحت في مادتي ؟؟؟
- هنا تذكرت أنني لم أنجح في مادته بعد . والآن هل استمر في المجاملة أم اختلق أي عذر يجعله يحتسي قهوته ويغادر قبل قدوم منال في الحادية عشرة . آه يالخيبتي يا منال .....يالتعاستي يا منال .... أربع سنوات وأنا انتظر هذه الفرصة للقائك , أربع سنوات وأنا أحلم بالجلوس معك منفرداً ... ويأتي الآن الدكتور سالم لينسف لي حلمي من جذوره . لا .. لا .. لا.. غير معقول هو سيذهب ويغادر حتماً قبل الحادية عشرة .
- أجبته بتوتر لم أنجح بعد في مادتك !! هذا الفصل سأتقدم للامتحان .
- ما هي علامتك في الجزء العملي ؟
- أربع وعشرون .
- إذاً بسيطة . ستنجح حتماً هذا الفصل , الأسئلة ستكون سهلة .
- لم أكن مهتماً أبداً .... سهلة ... صعبة لا فرق لدي الآن لقد بقي عشر دقائق فقط للحادية عشرة وصار لزاماً عليه أن ينهض ويدعني في حالي . لأن منال إذا حضرت وشاهدت أن أحداً يجلس معي فلن تدخل أصلاً .
- قاطع شرودي عنه صوته وهو يسألني : هل الطعام هنا جيد ؟
- يا حبيبي ..... يا حبيبي .... سيأكل إذاً والجلسة ستطول وتطول , لقد طارت منال من يدي إذاً ,ماهذا الإحراج ياربي .
- قلت له لا يادكتور الأكل هنا غير نظيف على الإطلاق , وقد يكون قديماً وغير طازج لا أنصحك بالطعام هنا على الإطلاق ... وصليت لله أن لا يأكل كيلا تطول إقامته !!!
- قال لي كنمر جائع أعتقد أن صندويشاً من الجبن وكأساً من الشاي يفيا بالغرض فاليوم لدي عمل كثير وسأضطر للبقاء في الكلية حتى المساء . مارأيك ؟
- كانت أنظاري متوجهة نحو باب المقصف متلهفاً لقدوم منال وطغى صوت دقات قلبي على صوت الضجيج في المقصف ورغم ذلك رددت على الدكتور سالم :
- لاأعلم ربما أنت محق يا دكتور سأذهب لأطلب لك صندويشاً وكأساً من الشاي .
- لا تذهب يا صابر سيأتي الآن عامل المقصف وسنطلب منه لي ولك .
- هنا شعرت بأن الأمر قد قضي أنا استعجل رحيله وهو متلذذ بالبقاء .
- الآن الحادية عشرة تماماً ولا مفر الدكتور سالم يلتهم صندويشه هو يأكل طعامه وعيوني تأكل الباب بحثاً عن منال وعن سبب أنقذ به موعدي الغرامي الأول معها .
- هاهي بانت ... تقدمت من باب المقصف لمحت حذائها الأحمر , ورأيتها تبحث بناظريها عني , كما الظبية الرشيقة تبحث عن جدول الماء لتروي عطشها .
- هاقد رأتني ... وجدتني ... هل ستعود أدراجها ... هل ستكمل أم ماذا لقد عرفت بأن أحداً يجلس معي واني لست وحدي .
- لكنها تقدمت باتجاهي وبدت لي كراقصة أفريقية تتمايل على صوت قرع الطبول ...طبول الحرب التي تمنيت أن أسعرها مع الدكتور سالم لأنه كالقدر ملازم لي في البدء راسب في مادته والآن يعكر صفو لقائي بمنال والله أعلم ماذا بعد آه يا دكتور ...
- نهضت لأستقبل منال وعلى وجهي علامات الآسف الشديد والخجل قلت لها أهلاً منال صباح الخير على الموعد تماماً .
- رفع الدكتور سالم رأسه من فوق صندويشه الذي كان يلتهمه وقال : أهلاً مين منال كيفك يا منال ؟
- أجابت بخجل : أهلاً دكتور صباح الخير الحمد لله ماشي الحال !
- قال الدكتور سالم تفضلي بالجلوس معنا بالحقيقة أنا وصابر كنا نتحدث في بعض المواضيع .
- لحقته بالقول : أهلاً منال صباح النور تفضلي واجلسي . كانت خدودي الحمراء كستائر المقصف ولم أدر ماذا أفعل و ماذا أقول ؟
- جلست منال وكالملاك حطت على الكرسي بجانب الدكتور سالم الذي التفت إلي قائلاً : اطلب لمنال عصير أم تريدين شيئاً آخر ولنفسك أيضا ياصابر ؟
- منال ردت سأكتفي بالعصير يادكتور ؟
- قلت له شكراً يا دكتور سأطلب من عامل المقصف ذلك .
- التفت الدكتور سالم إلى منال وسألها كيف دراستك يامنال ,ماأخبارك ؟.
- جيدة ودراستي بخير ..
- بالمناسبة يا منال هل نجحت بمادتي ظ
- قالت منال :لا
- غير معقول صابر لم ينجح وأنت أيضاً كيف ذلك ألم تكن الأسئلة سهلة ؟
- قالت منال يادكتور لست وحدي عدد كبير من الطلاب لم ينجح !!
- في الحقيقة يا منال أخبرت صابراً أن الأسئلة ستتكون سهلة هذا الفصل .
- صحيح دكتور هذا الخبر مفرح حقاً . ردت منال وعيونها ترقص من الفرح .
- أما أنا فكان كل حزن الأرامل ينتابني . ماهذا الحظ العاثر أهكذا يكون اليوم الأول بعد أربع سنوات منن الانتظار, لكن يجب أن لا يكون حظي هكذا ويجب أن أغيره .
- أخرجت من جيبي القلم وبخفة وبغفلة عن أعين الدكتور سالم كتبت على المنديل الورقي الذي على الطاولة كلمة واحدة فقط ... لنخرج ودفعت المنديل باتجاه منال لتقرأه .
- ولكن منال كانت تجول بعينيها حول الدكتور سالم تسأله ويجيبها ويسألها فتجيبه .
- لم أكن اسمع شيئاً من الحديث الدائر بينهما لأن انشغالي بالمنديل كان أكبر وأملي أن تقرأ كلمة لنخرج .
- وفجأة نهض الدكتور قائلاً: حسناً أن يجب أن اذهب الآن إلى المكتب فلدي عمل أنجزه . شكراً على جلوسكما معي .
- وباستنكار قلت لنفسي جلوسنا معه ....!!!!! أو لم يكن الأمر معكوساًُ ..لا يهم الأهم أنه يريد الذهاب والآن أنا وحدي مع حلمي.... مع منال آه يا منال .
- وقبل مغادرته نظر باتجاه منال وقال لها لا تنسي يامنال الأسئلة ستكون سهلة هذا الفصل ؟؟ إلى اللقاء .
- ودعناه سوية حزني المخفي كان بقدر فرحها المعلن .
- كانت عينا منال تتابعه حتى غادر المقصف نهائياً عندها التفتت إلي وقالت : ظريف الدكتور الم أليس كذلك ؟؟
- قلت لها : ظريف .. نعم ظريف .. لكن أنا آسف يامنال لم أشأ أن يكون حاضراً في الموعد لكنه لا أعرف كيف أقحم نفسه وجلس معي وليس العكس أنا آسف حقاً .
- لا ..لا .. بالعكس لقد فرحت كثيراً بوجوده إنه شخصية مميزة ومحبوبة من قبلنا .
- قلت لنفسي من قبلي لا وألف لا أنا أكرهه كثيراً .
- تابعت منال : بعد نظرت لساعتها في نافذة الموبايل ... آه الساعة الآن الحادية عشرة والنصف يجب أن اذهب لأن لدي عمل مهم يجب أن أنجزه .
- قلت لها غير معقول تذهبين إنك لم تجلسي بعد ( وأقصد معي ) .
- ردت ببرود : كيف أنا منذ نصف ساعة موجودة !!!
- لكن لدي كلام كثير أريد أن أطلعك عليه ؟؟
- سامحني يا سامر عفواً يا صابر رفيقة لي تنتظرني الآن عند مركز التصوير ربما مرة أخرى يجب أن اذهب الآن .
- أأنت إلى هذا الحد مضطرة , طيب متى سأراك ؟
- مرة أخرى يا صابر أعذرني الآن فأنا لا أعرف ظروفي .
- صدمت وأحسست بالذوبان كجبل من الجليد حط للتو في مطار أفريقي ! لكني قلت حسناً سأراك لاحقاً معزياً نفسي أنها لن تكون المرة الأخيرة فهي لربما فعلاً مضطرة للمغادرة .
- حيتني منال وغادرت المقصف مسرعة راقبتها بنظري من حذائها الأحمر وحتى رأسها , راقبتها كي تهبط بسلام للطابق الأول مع حسرتي على فرحة لم تكتمل , لكنها وبعد خروجها من المقصف انعطفت يساراً وسألت نفسي هذا ليس طريق مركز التصوير .... أحسست برائحة الكذب نهضت وتبعتها خطواتي بطيئة حزينة ... خطواتها سريعة فرحة وفجأة انعطفت يميناً ولما انعطفت اختفت وتلاشت . صدمت من جديد هل طارت أم هل ابتلعتها الأرض . استندت للجدار مستغرباً ولما رفعت رأسي من الأرض للأعلى وجدت نفسي وجهاً لوجه مقابل مكتب الدكتور سالم صديقي ومن المتاح من الباب المفتوح لمحت حذائها أحمر عرفته بشدة إنه حذائها ... كانت منال في الداخل وكان مركز التصوير المزعوم هناك .
- عندها تراجعت ببطء السلحفاة ووجل الطفل الفاقد لحقيبته المدرسية تماماً كالمحارب المهزوم . عدت للمقصف دخلت وجلست على أول طاولة صادفتني .
- أخرجت ورقة بيضاء من جيبي وكتبت عليها مايلي :
- حسان سامحني لقد استعملت ماسح أحذيتك بدون علمك, حاولت أن أجعل حذائي جميلاً وصادقاً لكنه كان اليوم الوحيد في صدقه لقد غلبه الحذاء الأحمر !
- سهيل سامحني لقد سمحت لنفسي أن أستخدم عطرك لأزيد من رائحة الحب الذي تملكني أربع سنوات .
- جاسم أعدك أن أنجح بتفوق في مادة الدكتور سالم .