عين .... ألف .... دال
بقلم: شامل سفر
جلس إلى طاولة مكتبه؛ يدوّن ملاحظاته .. يفكر، ويده تحاول اللحاق بقطار أفكاره السريع ... «للعودة إلى دراسة جدوى المشروع» .. ضغطت أصابعه على القلم عند كلمة: (جدوى) تحديداً ... «إعادة التأكد من سلاسة التدفق النقدي» .. تفشّى الحبر عند كلمة: (تدفق) وكأنه هو الذي يسيل، لا النقود ... «معاودة المحاولة مع شركة الشحن .. لعرض أفضل» .. هذه المرة خفَّ الضغطُ على الورقة أثناء كتابة كلمة: (عرض) .. نوعٌ من التفاؤل ... رن جواله بنغمة وصول رسالة: «موعد رجوع الأولاد من المدرسة .. أحبك» .. قرأ رسالة زوجته دون أن يكتب على الورق أي شيء .. نادى على السائق .. أمره بإحضار الأولاد، ثم تابع ... سمع نغمة رنين جوال سكرتيرته من الغرفة المجاورة .. «وأعودُ إلى طاولتي .. لا شيء معي .. إلا كلمات» .. شتمَ في سره ذاك الذي اخترع تحويل نغمات رنين الهواتف إلى أغانٍ .. حاول استعادة تركيزه .. لكن رسالةً أخرى وصلته على الجوال: «على فكرة .. وعودك كلها كاذبة .. لن تطلقها .. ولن تتزوجني» .. الاسم الوهمي الذي اختاره لعشيقته على الجوال، يضحكه أحياناً .. (مديرة العلاقات علامة) .. قبل شهرين كان هنالك اسم مطابق تماماً، لكن مع رقم 2 بعده .. التنويع ضروري .. لكل واحدة منهن قشرة .. أو قشور .. والمضمون واحد ..... حذف الرسالة .. وضع الجوال جانباً، وتابع .. «عائدات الشهر الماضي أقل» .. «جدولة مواعيد المدفوعات» ... رسالة ثالثة جاءته من مديرة العلاقات العامة رقم: 2 .. «ستعود إليَّ .. لن أقطع الأمل .. ما زلت أحبك» ... حجب الرقم على الواتس بلمسة: block وهو يبتسم نصف ابتسامة صفراء .. تذكر أين تعرف عليها .. مهندسة الديكور التي تولّت إكساء عيادة ابنه .. الطبيب المتخرج حديثاً .. عوّاد .. يا له من اسم .. اضطر لتسمية ابنه البكر على اسم أبيه .. هكذا العادات .. تذكر أن اللافتة لم يتم إعدادها بعد .. فكتبت يده ملاحظة أخيرة .. «عيادة الدكتور عوّاد» ... توقف فجأة .. تأمل حروف الجملة الأخيرة .. عيادة .. الدكتور .. عوّاد ......... ما بالُ حرفِ العين يلازم حرفَ الدالِ، وبينهما حرف صوتي؟! .. عيادة .. عوّاد ... شيءٌ ما لمع في رأسه .. إضاءةٌ ما .. إشارةٌ ما جعلته يراجع ورقة ملاحظاته كلها .. ذُهِل .. جمدت عضلات وجهه كلها، إلا تلك التي حول العينين .. عينيه اللتين صارتا تمران على حرف العين إذ يتكرر .. وبقربه حرف الدال المتكرر هو الآخر .. وبينهما حرف صوتي يتحوّل .. يتغير .. من الألف .. إلى الواو .. إلى الياء ... وجناحاه ـ العين والدال ـ لا يتغيران ..... كل ملاحظة كتبتها يده، لم تخلُ من هذه الخلطة العجيبة ... «للعودة إلى دراسة الجدوى» .. «مواعيد المدفوعات» .. «معاودة المحاولة مع شركة الشحن» .. «إعادة التأكد من ..» ...... «عائدات الشهر الماضي» .. «مواعيد المدفوعات» ..... حتى رسائل الجوّال التي جاءته .. «عودة الأولاد من المدرسة» .. «وعودك كلها» .. «ستعود إليَّ» .. بل حتى كلمة: (عيادة) نفسها ...
«يا إلهي» .. قالها في سره وهو يتأمل اسم ابنه، وكأنه يراه أو يسمع به لأول مرة .. عوّاد .. صيغة مبالغة من اسم الفاعل: عائد .. كثير العودة .. وكلها .. كل ملاحظاته اليوم، دون استثناء .. مشتقة من: عاد .. يعود ..... عينٌ .. و دالٌ .. وبينهما حرف صوتي .. تارةً ينادي .. ألف .. وتارةً يتأوه .. واو .. وتارةً يئن .. ياء ...... وأما المصدر بالتحديد: (عودة)، فيقتصر على الواو .. الواو التي تضم .. وتعطف ..
هو رجل أعمال .. رجل أرقام ومبالغ .. كل شيء لديه تقريباً يتلخص في كلمتين: اقبض .. ادفع ... فإلى أين يعود؟ ... إلى مَن يعود؟! .. ولماذا؟ ...... لماذا؟! ...... تلبّس صوته الداخلي بالسخرية وهو يضع إشارة التعجب بعد الـ (لماذا) الثانية .... تساؤلٌ استنكاري .... فكرر صوتُه الداخلي مع الصدى:
ـ فعلاً .. ولماذا أعود؟! .. و لِمَن؟! .. وكل شيء عندي .. ثروة .. بيت وزوجة وأولاد .. وسلسلة لا تنقطع من مديرات العلاقات العامة .. فلماذا؟! ....
وضعَ ورقةَ ملاحظاتهِ في درج طاولة المكتب .. تناول المفاتيح والجوّال، وهمَّ بالمغادرة .. وما إنْ قام من جلسته .. حتى بادرته غمزةٌ صغيرة في صدره .. مشى خطوتين .. فعادوت الغمزةُ مرةً ثانية .. ثم ثالثة .. ثم ضغطت مع الاستمرار ... امتد الألم بسرعة إلى الظهر والذراع اليسرى ... استدار باتجاه الطاولة .. الحبة المعدة للوضع تحت اللسان، هناك ... لم يصل إلى الطاولة .. ارتطم بالأرض ... حاول جاهداً الزحف نحوها .. لم يفلح أيضاً .. فُتِحَ الباب فجأة .. تراكض الموظفون والسكرتيرة ... هرع أحدهم نحو حبة الدواء الإسعافي ....... وآخر اتصل بالإسعاف.
في لحظاته الأخيرة .. أثناء محاولة المادة الفعالة في الحبة الذوبانَ تحت لسانه .. على أمل أن تفلح في تفجير الجلطة ... ارتخى جسده مستسلماً ... وأذناه تلتقطان صوت الراديو الآتي من غرفة السكرتاريا ...... كان المذيع يقول:
ـ نعاود الآن الاستماع إلى الحلقة الماضية من برنامج: .. العودة إلى الله.
#Shamel_Safar