رسائل الأشجان .. لأبي علي الغلبان
الرساله الثالثة : المسمارية
( عندما يأكل الكلام الدماغ،
على اللسان أن يصمت عن الكلام المباح،
.. وغير المباح! )·

عند ربوة عالية، جلست لا أسمع لاغية، أمامي رُقم ٌ دارسة كتبها الغلبان في ليلة قارسة بقلم كالمسمار، تذكرنا بألواح حمورابي وسيرة جلجامش وصاحبه انكيدو·· وشمخة التي جلبته بحيلتها الأنثوية من غابته البكر ..!
لا أعرف كيف أبدأ القراءة وفك الطلاسم، فقد نشفت السنوات العجاف ريق الطين، وذهب كثير من الحروف مع أطراف المسامير الشاردة··
استعنت بصاحبي ( عيدابي) على افتراض أن هناك صلة قربى بطيب الذكر حمورابي ، وكنت أظن أن هناك رابطا بين منطقة ما بين النيلين في السودان ، موطن عيدابي ، ومنطقة النهرين في العراق موطن حمورابي ، وهنا لا يختلف الرواة والمجتهدون كثيراً حول الماء، فهو واحد وأن اختلفت ألوانه وروافده ، لا ضير ، فقد نسخ اليهود المسبيون في بابل فصلا من ملحمة جلجامش وحطوها في التوراة باعتبارها نشيد الأنشاد ..!!
ناولت صاحبي ألواح عدة ليفكها·· فأمهلني إلى حين··
تبادر إلى ذهني أن الأمر أكثر صعوبة مما توقعت من النظرة الأولى لطين تلك الألواح ، وعلى حين غرة، جاءني زاجل من صاحبنا ابن حمدان ، من شارع أبي النواس البغدادي ، قال إنه يفهم المسمارية ويستطيع فك رقاب حروفها·· طلب بعض الألواح·· استبشرت خيراً ، لكن طال الانتظار ، ولم أتلق منه ردا حتى عيد الحبل الكبير ...!
قلت ربما يكون (الحمل لا يحمل همه) وتضيع الألواح كما ضاعت سليمة في سوق الغزل·· أو سوق الحرامية ، فانطويت على الحروف · أفك ما أريد واشتهي من طلاسمها··
قرأت ، حاولت نقل ما كتبه الغلبان ، فكان التالي :
* اللوح الأول:
في الغابة حيوانات كثيرة·
أمعنت النظر حتى كاد أن يصير حديداً··
قرد شارد خير ألف مرة من سلحفاة عمرها ألف عام·
السلحفاة مقيتة ··
تذكرنا بالديناصورات
تهرس بأقدامها الضخمة الحيوانات الرقيقة··
* اللوح الثاني:
معظم سطوره مطموسة باستثناء الأخير الذي قرأت فيه:
... يبقى المفتاح السحري
·· (جرين دولار)
.... كلمة مفقودة
تدوخ الرؤوس وتموت النفوس··
* اللوح الثالث:
مطموس الحروف بالكامل ، ويبدو أن هناك من عبث به تخريباً ومسحاً بأداة صوانية ·· وظهر فقط حرفان في نهاية السطر الأخير هما: الطاء ·· والزاي··!
* اللوح الرابع:
شاحنة ضخمة
1948
مئات العيون الشاخصة
شاحنة ثانية
فوقها ... العيون ...
شاحنة ثالثة
فوقها مئات العيون الشاخصة
شاحنة جديدة·· مكيفة
فوقها مئات العيون الشاخصة
·· تكيّف القوم··
·· المحطة التالية:
في انتظار الإياب ··
.. سطر كامل مطموس ..
* اللوح الخامس:
سكين
سكين حادة··
سكين حادة جداً··
سكين حادة جداً وطويلة ··
·· سكين حادة جدا وطويلة جداً ..
أفضل ألف مرة من مثلومة تحز ليل نهار··!
*اللوح السادس :
حبل
حبل طويل ..
حبل طويل جداً ..
حبل طويل جدا ً وسميك ..
.. حبل طويل جداً وسميك جدا ً ..
أفضل ألف مرة من حذاء جاء من البحر ..!
00
نزلت من ربوتي العالية ··
وسمعت لاغية··
وكرهت الساعة التي قرأت فيها ألواح الغلبان··
سمعت صوتاً من بعيد يصرخ : ما أشبه الليلة بالبارحة ··
كان صوت أبي حيان التوحيدي الذي سأل أيضاً·· ما الفارق بين الصوت والصمت؟!
قلت في نفسي: الترقب ·· لعن الله السلحفاة المختبئة تحت درعها··
ما أجمل أن تبتل الرمال ، أن تخرج حبة عمرها ألف عام لتفلق عيوننا بزهرة برية وسط قيظ لاهب··
كان أبو حيان التوحيدي يصرخ في وجه أبي الوفاء المهندس في ذلك الوقت·· هذا الوقت·
قال:
(يا أبا الوفاء·· خلصني أيها الرجل من التكفف، أطلقني من قيد الضر·· اشترني بالإحسان اعتبدني بالشكر، استعمل لساني بفنون المدح·· أكفني مؤونة الغداء والعشاء·· إلى متى الكسيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية·· والقميص المرقع··؟ قد أذلني السفر من بلد إلى بلد·· وخذلني الوقوف على باب باب ··)·
...
.

حسن سلامة
h_salama_51@yahoo.com