نازك العابد الدمشقية التي تحدت بأعمالها اليأس والهزيمة

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيإن طريق المجد والعظمة مملوء بالعقبات، إما وهاد وحفر تحذر من الوقوع، وإما صخور وقمم تعرقل السير، والعبقري الماهر هو ذاك الذي يحمل الصخور الكبيرة المنثورة على قارعة الطريق والتي كانت عوائق ليضعها في حفر الطريق ووهاده أي يمهد بها الطريق، هذا الذي لا تثني عزمه عائقة، ولا تكِّدر صفوه شائبة، من هؤلاء الأبطال العباقرة كانت نازك العابد...

ولدت في دمشق عام 1887 والدها مصطفى العابد من أعيان دمشق، ووالدتها السيدة فريدة الجلاد من النساء الفاضلات، عمها أحمد عزة باشا العابد، كان من رجالات السياسة العثمانية، وهو عبقري فذ تمكن من السيطرة على مقدرات الدولة العثمانية الداخلية والخارجية...


في هذا الجو من الوجاهة والنفوذ نشأت نازك العابد، وإن نفسها العظيمة جعلتها تعزف عن مظاهر الوجاهة والنفوذ.
درست نازك العابد مبادئ العربية والتركية في المدرسة الرشيدية بدمشق، وكانت تنفر من المعلمات المتعاليات على اللغة العربية، ثم درست الفرنسية والإنكليزية والألمانية في معاهد خاصة، وأخذت تتردد على فطاحل اللغة العربية وأئمتها، فتعلمت منهم النحو الصرف وأصول الكتابة...
قامت نازك بأعمال جليلة كثيرة كانت تتحدى فيها اليأس والهزيمة، حاولت نازك العابد أن تؤلف أول جمعية نسائية في دمشق في العام 1914 غير أن الحرب العالمية الأولى أوقفت كل نشاط اجتماعي، وقام الوالي التركي المسمى جمال باشا السفاح بنفي أسرتها كلها إلى مدينة إزمير، فما كان من نازك العابد إلا أن قدمت خدماتها للمشافي التي كانت تغص بالجرحى والمصابين والمشوهين في المعارك الحربية، وأخذت تقوم بأعمال التمريض والإسعاف، وخلال الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين عام 1916 كانت نازك تساعد أولئك النسوة اللاتي فقدن أزواجهن وآباءهن، وأسست من أجل ذلك جمعية (نور الفيحاء) من سيدات دمشق ومناضلاتها، ثم أنشأت جمعية (مدرسة بنات الشهداء العربية) ثم أصدرت في كانون الثاني عام 1920 مجلة (نور الفيحاء)، وهي مجلة نسائية أدبية تهدف إلى نهضة المرأة السورية وتحررها، ثم أسست (النادي النسائي الشامي)، بعد ذلك شاركت بتأسيس فرع للصليب الأحمر الدولي في سورية باسم (جمعية النجمة الحمراء )، ولاحظت الحكومة جهدها المستمر والدؤوب، فأسندت إليها إدارة ملجأ اليتامى، بعد ذلك وضعت نازك العابد حجر الأساس لمشفى يضم مئة سرير، وراحت تختار أطباءه وممرضيه وموظفيه...
وماذا بعد، جاء الاحتلال الفرنسي، فهل كان لنازك دور في هذا، وهل لشخصية كهذه أن تتنحى في هذا الموقف العصيب، خرجت نازك مع الجيش العربي الذي قرر الصمود في وجه المحتل في ميسلون، وكانت تتفقد الجنود بلباسها العسكري، وكلها ثقة وإيمان برسالتها، وكان من ثمرات ذلك أن منحتها حكومة الملك فيصل رتبة نقيب فخرية في الجيش، وبذلك كانت نازك العابد أول امرأة سورية تحارب مع الجيش السوري في معركة ميسلون ضد الاحتلال الفرنسي... بعد ميسلون لم تتوقف نازك عن المقاومة، فقد اتخذت لنفسها طريقاً جديداً في النضال، فأخذت تحرض الأوساط ضد المستعمر وتزرع الشوك في طريق مخططات الاستعمار، تجاه هذا العداء لم يجد المستعمر الفرنسي مخرجاً سوى إبعادها فقام بنفيها إلى استانبول، فاغتنمت هذه الفرصة وانتسبت إلى الكلية الأميركية للبنات وتابعت دراستها للغة الإنكليزية، ثم عادت إلى دمشق فنفاها المستعمر مرة أخرى إلى الأردن، ثم سُمح لها بالعودة إلى دمشق شريطة ألا تمارس أي نشاط سياسي معاد للسلطة الفرنسية، فتظاهرت بالقبول، وأكدت أنها ستعمل بالزراعة في إحدى ضواحي دمشق... لكنها لم تتوقف عن النضال ضد المستعمر الفرنسي.
ثم انتقلت نازك إلى بيروت حيث تزوجت من الكاتب والمؤرخ اللبناني محمد جميل بيهم الذي كان معجباً بنشاطها ووطنيتها، بعد الزواج لم تتوقف نازك عن نشاطها الاجتماعي والوطني، فأسست في بيروت جمعية (عصبة المرأة العاملة )، ثم (جمعية إخوان الثقافة ) بالاشتراك مع زوجها، ثم أسست جمعية (تأمين العمل للاجئي فلسطين )، ثم أسست ميتماً لبنات الشهداء في لبنان، يتم تعليمهن فيه العلوم الابتدائية والخياطة والتطريز، ويحوي هذا الميتم مكتبة ونادياً أدبياً...
ظلت نازك العابد مثالاَ حياً للمرأة العربية المكافحة طوال سنوات حياتها...
وافتها المنية في عام 1959، ودفنت في بيروت...
لم ترزق نازك بأبناء وبنات، فكان من مآثرها أنها هذبت وأرشدت مئات من بنات الوطن، وقامت بتربية عشر بنات في بيتها.
بعد وفاة نازك العابد أقامت لها جمعية الهيئات النسائية في بيروت بعد رحيلها حفلاً تأبينياً كبيراً، ونسيتها دمشق في ذلك الوقت، وإنني أرجو أن يقام لها في دمشق حفل تأبيني تُبيَّن فيه خدماتها الجليلة لسورية والوطن حتى تكون هذه الإنسانة مثالاً يُقتدى به لدى الأجيال القادمة.
وهكذا نجد أن أصحاب الهمم العالية إذا أرادوا صعود الجبل من ناحية فتعثروا وسقطوا، حاولوا من الناحية الأخرى، فإن لم يفلحوا أعادوا الكرة، والجبل كبير ونواحيه كثيرة، ودوماً الإرادة تقهر الصعاب.