جزار أورلاندو وقتل الحرية :طارق الحيدر

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
طارق الحيدر
لم يعد غريباً أن تشهد الولايات المتحدة الأمريكية حدثاً كتلك الكارثة التي وقعت مؤخراً في مدينة أورلاندو في ولاية فلوريدا الأمريكية. دخل رجل مسلم أمريكي من أصل أفغاني لملهى ليلي وبدأ في إطلاق النار. في نهاية الليلة، كان المدعو عمر متين قد قتل ظ¤ظ© شخصاً وجرح ظ¥ظ£ آخرين. من أهم التفاصيل المتعلقة بالحادثة كون النادي خاص بالرجال المثليين. وكون أن رجلاً مسلماً في التاسعة والعشرين من عمره هو مرتكب الجريمة جعل القصة واضحة وبسيطة بالنسبة للبعض: هذا رجل مسلم تلوث عقله بالفكر الجهادي وامتلأ قبله بالكراهية فقرر أن يذبح فوجاً من الأبرياء لإرضاء ميله الأيدولوجي المعوج.أحد الذين كتبوا مثل هذه القصة هو الإعلامي فرانك بروني، والذي كتب في صحيفة النيويورك تايمز مقالاً يعج بالخصوصية الأمريكية– تلك الفكرة التي تزعم بأن الأمة الأمريكية مميزة عن سائر الأمم بتاريخها وبتمسكها الفريد بالحرية. بدأ بروني بالربط بين جريمة عمر متين وبين جريمة أخرى استحوذت على اهتمام الناس أواخر العام الماضي، وهي المجزرة التي حدثت في مكاتب صحيفة تشارلي هيبدو في باريس. من منظور بروني، تعد الجريمتين هجمتين على الحرية ذاتها.في أعقاب مثل هذه الأحداث المؤسفة، يهرع الكثيرون من أمثال فرانك بروني لنسج قصة تفسر لنا المنطق الذي حرك المجرم لارتكاب جريمته. في هذه الحالة، الأمر سهل: المجرم مسلم من أصول أفغانية. الملهى للمثليين. المجرم أعلن ولاءه شفهياً لداعش قبل أن تقتله قوى الشرطة. إذن فلننسج قصة عن حرب كبيرة بين النور والظلام، بين الحرية وعكسها. وصلت نبرة فرانك بروني إلى أسمى درجات الشاعرية وهو يتغنى ببلاده الحرة ويشكر السماء لأنه يعيش في دولة تحتضن التعدد والحب والنور. كما ذكّر بروني قراء النيويورك تايمز بأن هذه الجريمة ليست موجهة لرواد ملهى للمثليين في أورلاندو فحسب، وإنما موجهة ضد أمريكا، ويجب أن ينظر كل أمريكي لنفسه على أنه مستهدف. لماذا؟ لأن حزب الظلام يكرهون الحرية.هناك عدة مشكلات في هذه القصة التي نسجها صاحبنا. فلنسلّم أولا بأن عمر متين تأثر فعلاً بالخطاب الجهادي (رغم أنه لم يكن يعمل مع داعش). فلنفترض بأن جريمة عمر متين كانت موجهة فعلاً “ضد أمريكا” كما يزعم. السردية التي نسجها كاتب النيويورك تايمز تحيّد السياسة تماماً. فلو قام أحدهم بعمل إرهابي أصاب خلالها أهدافاً أمريكية، فيصعب علي تصديق أن دافع ذلك الإرهابي المفترض سيكون “قتل الحرية.” المنظمات الإرهابية مؤسسات سياسية في نهاية المطاف، وتستهدف خصومها لأهداف سياسية، وليس لأجل قتل مفاهيم مجازية مثل “الحرية.” إلا أن المقال المنشور في النيويورك تايمز لم يتطرق للسياسة، وبالأخص لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية.الغريب أن فرانك بروني نفسه يعترف في مقاله بأنه لا يعرف شيئاً عن عمر متين ولا عن دوافعه لارتكاب الجريمة. أعمال العنف كهذه ليست غريبة في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد شهدنا في الأعوام القليلة الماضية أحداثاً مؤسفة في مدارس وجامعات أمريكية بل وحتى في دور السينما. لكن يبدو أن الكثير من الكُتّاب والمراقبين يتجهون بتكاسل لتفسير سطحي ومبسط: فإن كان المجرم أبيض البشرة، فدافعه المرض النفسي المجرد. وأما إن كان أسود البشرة، فدافعه إجرامي والتأثر بثقافة العصابات وما إلى ذلك. وأما إن كان– مثل عمر متين– مسلماً أو ذو بشرة بنية ويمكن ربطه بالإسلام من قريب أو من بعيد، فدافعه أيدولوجي بحت. ولذلك فليس على فرانك بروني وأمثاله سوى النظر في هيئة المجرم ومعرفة اسمه لكي ينسج السردية المناسبة.ليس غريباً أن يقوم كاتب ما بهذا، فهذه الأحداث المؤسفة فرصة للجميع لتصوير الحدث من خلال عدسة أيدولوجية معينة، فهناك جدال قديم في أمريكا حول أحقية المواطنين في اقتناء الأسلحة، فمن المفهوم أن يحاول كل فريق توظيف الهدف لمصلحته. وكما يحاول المحافظون الجدد تعزيز القومية الأمريكية وتثبيت ركائز الإمبريالية عبر التحذير من “خطر أجنبي” يستورد الفكر الداعشي لأمريكا، فهناك من يؤكدون انتماء المجرم للأمة الأمريكية ويصور الحدث على أنه محلي بامتياز. فهذا الكاتب محمد فيروز يهاجم الحزب الجمهوري بسبب رفضهم الدائم لتعديل قوانين حمل السلاح، كون أن رابطة السلاح الوطنية NRA من الحلفاء الرئيسيين للحزب الجمهوري.في الحقيقة، لا أحد يمكن أن يعرف دوافع عمر متين. بعض المعلومات السطحية عن الرجل تبين أنه تزوج في ظ¢ظ*ظ*ظ© ثم طلق زوجته بعد فترة بسيطة، وأن طليقته صرحت بأنه شخص غير متزن نفسياً وكان يضربها ويشد شعرها، وألمحت إلى أنه قد يكون زوجها صاحب ميول شاذة. كما تبين أنه كان من مرتادي هذا الملهى بالذات وأنه كان يأتي ليشرب الخمر وحده أحيانا أو برفقة من تعرف عليهم هناك. صرح بعض من عرفوه بأنه كان سريع الغضب وأنه كان شديد التحسس من أي تعليقات، لدرجة أنه هدد أحدهم بأنه سوف يطعنه. في نهاية المطاف، لا تمدنا هذه اللمحات بما يكفي لننسج سردية دقيقة حول مرتكب الجريمة عمر متين. لا نعرف إلا القليل عن جنسيته وأصوله الإثنية، ونعلم أنه شاب قتل نفسه والعشرات غيره قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره. نعلم أنه كان يعاني من مشكلات نفسية، وأنه كان يعيش صراعاً داخلياً فيما يبدو لأمور تتعلق بميوله الجنسية والبيئة الاجتماعية التي تربى فيها. لا شك أن كونه من عائلة مسلمة أثرت في تكوينه النفسي. ولكني أجد نفسي في نهاية المطاف أقف متردداً وأتساءل: لماذا أشعر بحاجة لنسج قصة حول عمر متين؟ ألا أعلم أن أي قصة أحاول نسجها لن ولم تكن دقيقة ومكتملة؟ يكفي أن أقول بأن أي دوافع نكتشفها أو نخترعها ستكون أكثر إقناعاً من تلك التي ينسجها أرباب الإمبريالية والحرية في واشنطن.