تطبيق الهرمنطيقيا على القرآن!
وصلتني هذه المقالة من أحد الذين نتبادل فيما بيننا بعض الموضوعات المهمة للفائدة والتعليق عليها، وقد رأيت أنها مهمة وتُلقي الضوء على خلفية وحقيقة بعض الموضوعات التي احتد النقاش أو الجدل حولها بين الأعضاء في هذا المنتدى الموقر، وأنه قد يكون في نشرها إضافة وإثراء لثقافة الأعضاء والرواد، وهي جزئين:
الأول المقالة نفسها والثاني ردي وتعليقي عليها الذي أرسلته لمرسلها لي.
تطبيق الهرمنطيقيا على القرآن!
خالد الغنامي
الهرمنطيقيا (Hermeneutics) مصطلح ليس بالجديد على تاريخ الفلسفة، فالمفردة مأخوذة منالإغريقية (hermeneutice)، إلا أن شهرته كانت في العصر الوسيط عندما ارتبط بالثيولوجيا المسيحية، وهو يعني «قواعد التأويل والفهم للنصوص الدينية».
ككثير من المصطلحات الفلسفية، تعرضت الهرمنطيقيا لتطورات وتدرج في تطور معناها، فمرات يضيق المصطلح وأحياناً يتسع بحسب تطور الفكر المسيحي والفلسفي في سياق تاريخ الحضارة الغربية وفي سياق دراسة الإنجيل والتوراة الأصول النظرية التي تعنى بتفسير النصوص الثيولوجية. من تعاريف الهرمنطيقيا أنها أسس تفسير الكتاب المقدس وتطبيقاتها. وهي: العلم النظري والفن العملي المتعلقان بتفسير النصوص القديمة. وهي: نظرية فهم النصوص الدينية والفلسفية والأدبية وتأويلها. وهي: نظرية فهم النصوص الدينية والفلسفية والأدبية وغيرها وتطبيقاتها. وهي: أصول تأويل المدونات المسجلة بالكتابة. وأخيراً صارت فهم حقيقة الوجود من خلال صور الوجود الإنساني وتأويلها: وهو أوسع الدلالات التي انتهت إليها الفلسفة المعاصرة على يد الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر (1889 – 1976)، بحيث تشمل كل الدراسات الإنسانية والاجتماعية.
في العصر الوسيط كانت الهرمنطيقيا أشبه ما تكون بكتب تفسير للإنجيل، إلى أن جاء الفيلسوف الهولندي اليهودي بكتابة: رسالة في الدين والدولة، (رسالة في اللاهوت والسياسة) فقدم تفسيراً مختلفاً للتوراة، فهو ينقد اليهودية واليهود والأنبياء مثل نقده أي ظاهرة طبيعية. ويحاول إرجاعها إلى قواعد ثابتة مستمدة من انفعالات الإنسان وإدراكاته. ويحلل أسفار التوراة سفراً سفراً. فيقول إن الأسفار الخمسة لم يكتبها نبي الله موسى عليه السلام، ويقول إنه لم يكتب سفر التثنية لأنه لم يعبر نهر الأردن قط، ولأنه مكتوب فيها «وكتب موسى التوراة»، ولا يمكن أن يقول موسى ذلك إن كان كاتب سفر التثنية الذي بيد اليهود اليوم. وفي سفر التكوين: «وكان الكنعانيون في هذه الأرض»، مما يدل على أن الوضع قد تغير وقت تدوين التكوين، أي بعد موت موسى وطرد الكنعانيين، وبذلك لا يكون موسى هو الكاتب. ويحتج سبينوزا بأن سفر الأسفار يحكي بضمير الغائب وليس بضمير المتكلم. وبذكر الحزن على موسى ومقارنته بالأنبياء الذين جاؤوا بعده . واستمرار الرواية بعد موت موسى عليه السلام.
هذا الخط الذي سار فيه سبينوزا يراه المعاصرون بداية النقد التاريخي للنص الديني من خلال استخدام العقل الرياضي الهندسي الذي ظهر بصورة جلية في كتابه (الأخلاق مبرهناً عليها بطريقة هندسية)، وهو كان البوابة للدراسات الهرمنطيقية التي توسعت على مر القرون لتدرس كل شيء من آداب وأديان. هذا المنهج قد عمل بفعالية في التوراة والإنجيل لأنه وجد كتباً محرفة مكذوبة، كتبها البشر وزعموا أنها من عند الله، ولذلك كان من السهل على هؤلاء الباحثين إظهار ذلك الكذب والتزييف والتناقض بعد أن تجاوزوا الخوف من عقوبة رجال الدين في تلك الحقب التاريخية.
في عصرنا هذا حاول عدد من الباحثين والباحثات تطبيق هذا المنهج على القرآن الكريم، من مثل محمد أركون وفاطمة المرنيسي، وغيرهما، إلا أن تلاميذهم مضطرون للاعتراف بأنهم فشلوا. ذلك أن هؤلاء الباحثين انطلقوا من أدوات غربية فحاولوا أن يقدموا قراءة جديدة للقرآن بحيث يكون قرآناً غير الذي نعرفه، أو القرآن القابع وراء القرآن الظاهر بحسب تعبير أركون بعد تطبيق المنهج التفكيكي عليه، أو أن هذا القرآن نص تاريخي وهذه المقولة لأركون أيضاً. ومعنى تاريخي: أي كان صالحاً لحقبة تاريخية معينة وقد انتهت تلك الحقبة وتم تجاوزها.
وأما فاطمة المرنيسي، فلها عدد من البحوث التي ترجمت للغات عديدة مثل (الإسلام والديمقراطية) وبحوث عن التاريخ الإسلامي والحجاب وغيره. وبرغم قولها إن القرآن والإسلام لم يظلما المرأة إلا أنها لم تترك آية ولا حديثاً لا يوافق هواها فيما يتعلق بالمرأة إلا وحرّفته عن معناه بحجة أن السياسة قد تلاعبت بالنصوص وغيّرتها وأنها هي من سيقدم الوجه الحقيقي للقرآن.
الجامع لكل ما كتبه هؤلاء في هذا الموضوع هو إغفالهم الكامل العلوم الشرعية التي يفترض أن تكون هي الأساس، أصول التفسير وأصول الفقه والحديث واللغة ليس لها ذكر هنا باعتبارها جزءاً من الرجعية التي يحابونها. الجامع لهم جميعاً أنهم غير مؤهلين وأنهم غارقون في ذاتية التحليل التي تتعارض مع العلم الموضوعي المشاع. كما يغلب عليهم الإعراض عما ألح عليه القرآن من أنه قرآن عربي لا يمكن تجاوز طبيعته العربية وقواعده اللغوية وعلم الدلالة فيه. زِد على هذا أنهم جاؤوا بنتائج قد وضعوها في أذهانهم سلفاً لمطابقة ما تم تقريره في ثقافة أخرى، وهذا ما لا يفعله الباحث الأصيل.
تعليقي على المقالة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا موضوع مهم وخطير وهو جوهر الفكرة التي أراد أن يمررها ذلك في المنتدى الذي سبق أن ارسلت لك رابط الجدال حول موضوعه في محاولة منه ومن أمثاله من تلامذة الغرب ومستشرقيه إعادة إحياء تلك الوسيلة بعد فشلها للتشكيك في ألوهية النص القرآني واعتباره نص تاريخي يخضع للطعن والنقاش والأخذ والرد عليه مثل كل النصوص التاريخية، أو ينطبق عليه ما انطبق على التوراة والأناجيل التي يعتبرها أتباعها وتلامذة المستشرقين أنها كتب سماوية منزلة من عند الله في وضعها الحالي وقد تبين أنها خلاف ذلك!
نعم قد كان اليهود سباقون في تطبيق هذا المنهج الفلسفي والتاريخي على كتبهم وذلك لأنهم هم الذين كانوا في تلك العصور يرسمون مستقبل الغرب الفكري والسياسي والقومي ويشكل عدد كبير منهم رواداً للفكر والفلسفة، وقد أدركوا أنه سيأتي يوماً قريباً ويتمرد العلماء على الكنيسة وستضعف سطوة الكنيسة على أتباعها ولن يكون لها تأثير كبير في مجالات الحياة الغربية ورسم سياساتها، وأنه سيتم اكتشاف كذب مزاعمهم بأن التوراة كلام الله الذي أنزل على موسى وليس من كتابة البشر وهم أكثر الناس معرفة بأنهم هم الذين كتبوه بأيديهم ومازالوا يعدلون عليه بحسب كل مرحلة، وكذلك يدركون جيداً أن الأناجيل هي من كتابتهم أو من تأثيرهم وأنها ليست كلام الله الذي نزل على عيسى عليه السلام، لذلك سارعوا حفاظاً على دينهم وعلى تحقيق أهدافهم حتى لا تهتز صورة التوراة في نظر النصارى المؤمنون بحرفيتها أو الذين يعتبرونها جزء من التاريخ المشترك بينهم وبين اليهود ويتم نزع القداسة عنها من خلال صراع مرير كما حدث بعد ذلك مع الكنيسة والأناجيل وتفقد قدسيتها، بادر فلاسفة ومفكرين يهود قبل غيرهم إلى نقد توراتهم والاعتراف بأنها ليست هي كلام الله تعالى وذلك للفت الانتباه عن فداحة أخطائها وغاياتها التدميرية للعالم وفي الوقت نفسه الحفاظ على قداستها بعيداً عن الجدل حولها وتسليط الضوء عليها!
فكان أسبينوزا الفيلسوف اليهودي من أوائل من قال أن أسفار التوراة هو نصوص تاريخية كتبها حاخاماتهم أو رجال منهم بعد موسى وأنبياء بني إسرائيل وأنها ليست كلام الله الذي نزل على موسى عليه السلام، وأخطر منه كان موسى مندلسون الفيلسوف والمفكر اليهودي الذي أسس حركة الإصلاح اليهودية (الهسكلاه) التي دعت إلى اندماج اليهود في الشعوب التي يعيشون وسطها، ونادى في اليهود أن يبلغوا رسالة التوراة الأخلاقية ويقوموا بدورهم في نشرها وتوصيلها للعالم كما أمروا، وأن جوهر رسالة التوراة ليس العودة غلى صهيون ولكن نشر اخلاقيات التوراة بين شعوب الأرض، ولا أعلم أخلاقيات في التوراة سوى الدعارة والسقوط الأخلاقي والدعوة للقتل والجريمة والإبادة الجماعية لكل مخالفيهم .... إلخ من الأسس الدينية والأخلاقية التي مثلت المبرر الديني والأخلاقي للاحتلالات الغربية وعمليات الإبادة التي ارتكبها ومازال الغرب في كل مكان من العالم لفرض هيمنته عليه، إضافة إلى هدف خطير لا يقل خطورة عن تبرير الاحتلال للغير لدى الغرب وهو: غرس خرافة أن اليهود هم (شعب الله المختار) وأن فلسطين (أرضهم الموعودة) من ربهم الخاص من دون كل الشعوب الأرض (يهوه) وأن على العالم أن يساعدهم للعودة إليها! تلك هي أخلاق التوراة التي نادى مندلسون اليهود للقيام بواجب نشرها بين شعوب العالم وأنها هي رسالة التوراة التي نزلت على موسى وليس الانعزال والتقوقع ورفض الاندماج وسط الشعوب التي يعيشون بينها انتظاراً إلى تحقيق حلم العودة!.
وننوه هنا أن تلك الحركة الإصلاحية اليهودية (الهسكلاه) قد لعبت الدور الأكبر في تهيئة الظروف ليس فقط لنشأة الحركة الصهيونية كأداة سياسية لتحقيق الأهداف الدينية اليهودية فقط بل لعبت دوراً أكبر ومازالت في الضغط على الحكومات الغربية لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين وتوفير الدعم المالي والإعلامي والسياسي وغيره للحركة الصهيونية. وأذكر هنا مثال واحد لأنه ليس موضوعنا أن الحاخامان اليهوديان استيفن وايز وسيلليفر اللذين مارسا أو لعبا دوراً كبيراً في تبني الإدارة الأمريكية وخاصة الرئيس الأمريكي نصف اليهودي ويلسون عام 1917 للموافقة على وعد بلفور والضغط على بريطانيا لإصداره مقابل مشاركة أمريكا التوراتية في الحرب العالمية الأولى كانا من الحركة اليهودية الإصلاحية (الهسكلاه) في أمريكا ولم يكونا صهيونيين!
قد يكون الموضوع انتقل من الفلسفة والتاريخ والفكر إلى السياسة والاحتلال والجريمة السياسية ولكن تلك هي الحقيقة التي تغيب عن وعي وفكر عرابي المشروع اليهودي-الغربي من خلال محاولاتهم هدم أصول ديننا وإضعافه ومن خلال محاولاتهم إسقاط المناهج الغربية التي طُبقت على كتبهم الدينية وحياتهم على قرآننا وسنة نبينا محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم وعلى واقعنا!
مصطفى إنشاصي