كيف نشأ الإيقاع الشعري/ من قلم غالب الغول
عندما تجلس متأملاً تحت ظل شجرة وأمامك غدير أو شلال , وبركة ماء تسبح فيها الأسماك فرحة متراقصة ذات اليمين وذات الشمال , وصفير الهواء الذي يخرج من بين أفنان الشجرة وأنت تنظر إلى قطوفها دانية , تتساءل ؟ ما هذا الجمال الذي يحيط بي ؟ , وما هذه الأصوات الناعمة التي تحف بي ؟ , ولماذا صُنعت ؟ , ولمن صًنعت ؟ , أسئلة توحي إليك بالاستغراب , تريد منك جواباً, لكنك تميل بطرْفك لتستمتع إلى تغريد العصافير التي تتداخل مع صوت الغدير , ثم يتداخل الكل في الكل مع حفيف الشجر وكأنك أمام أيقونة تخلق أنغاماً متفاوتة في طبقاتها وألحانها , لتشعر برتابتها وانتظامها , تلاحق الطبيعة بجمال أصواتها الفطرية , فتشعر حينها أنك تريد أن تقلد الأصوات بالأصوات , فتبدأ أصابعك تتحرك بانتظام ’ تترنم على هديل الحمام , ثم يتمايل جسمك يميناً ويساراً تتماشي حركاته مع حركات أفنان الشجر المياد , ثم تبدأ بإخراج أحلى الأصوات من ثغرك المبتهج , ليرد على أصوات الطبيعة الخلابة بجمال منظرها وعذوبة لحنها .
لقد انتظمت الحروف بلحنها , وتساوت الكلمات تماماً مع أصوات حفيف الشجرة , وبعضها لاحق أصوات الماء في الغدير , وكأنك تريد أن تصنع شيئاً هو مصنوع أصلاً بالفطرة , تريد أن تحاكي الطبيعة , ولكن كلامك هو من كلام الطبيعة ونسخة متطابقة لما تنطق به الأشجار والأطيار وحركات الأسماك وهديل الحمام , فتعرف عندئذ أن الإنسان هو أول من قلد الطبيعة في حركاتها وسكناتها وأنغامها , بل ستعرف أيضاً أن الإنسان هو نفسه الطبيعة ومن الطبيعة ذاتها ’ له أصوات وحركات فطرية والمنتظم منها بحركاتها وأزمانها, هي التي نسميها إيقاعاً شعرياً .