زيد قطريب:
أن تكون مثقفاً...!!
المصدر زيد قطريب
24 / 02 / 2007
أن تكون مثقفاً، فهذا يكفي لإثارة جميع المواجهات المحتملة، ومن كافة العيارات: الخفيفة والمتوسطة والثقيلة أيضاً، حتى ما يتعلق بالشكل الذي تختاره لنفسك، وكذلك أسلوب المشي ولون اللباس، أو خوض الحوارات العابرة مع سائقي سيارات الأجرة، وفي السرافيس أو الحدائق والمقاهي، وأيضاً في الجلسات الخاصة مع الحبيبة أو الأصدقاء والأهل في المنزل، أو سوى ذلك من خطوط التماس الرمادية أو الحمر والصفر وجميع احتمالات الطيف..!....
كونك مثقفاً، فهذا يعني أن تكون الدريئة والسهم في آن معاً، وهو يؤهلك مباشرة لتبنّي عدة مواقف سبق إعدادها كي تلبَسَك تماماً، مثل قمصانك وعلبة سجائرك، وأيضا أقلامك المتواضعة التي تعتزُّ بها كثيراً، لأنها، كما تقول أو تدّعي، تعيد صياغة العالم من جديد مثلما تشتهي.. فبكل بساطة سيتم سكبك في شخصية موازية جُهّزت خصيصاً لك، مادمت اخترت الانضواء تحت لافتة فضفاضة يمكن أن تعني كل شيء ولاشيء في وقت واحد! ومادمت لا تنفكّ عن الحديث على النصوص المغايرة ومرحلة ما بعد الحداثة وضرورات التخطّي والاجتراء على كافة الحدود المرسومة سلفاً، ومادمت تصرُّ على اللعب بالكلمات والحروف باعتبارها خيارك الأوحد بعدما سبق أن قام أحد ما بكبس زرٍّ ما في مكان ما، وكان ذلك كافياً لتغيير قواعد اللعبة برمتها..!!
إذ ذاك، سوف تفشل في علاقتك مع الحبيبة التي صوَّرتها يوماً كإله، وكذلك ستتخاصم مع ألدِّ أصدقائك لأنهم اغتابوك فجأة، وقاموا باغتيال نصوصك، ثم اتهموها بالهراء الفارغ لمجرَّد أنك لم تأت "حيثها" لسبب ما، قد يكون جراء نزلة برد، أو حادث سير، أو أية مواجهة مباغتة مع عيون هي على قدر عال من الجمال، جعلتك تنسى دورك في دفع ثمن الفروج المشوي لأجل سهرة أصدقائك المفترضين أولئك..!!
ستعيد الحبيبة معزوفتها الشهيرة عن فلسفتك الدائمة للأمور، وسوف تحتجُّ على تورطك بالتفاصيل العابرة والرومنسيات المريضة، في زمن يتواطأ عملنا مع الاستهلاك، وستقوم إثر ذلك باقتناص أول فرصة مناسبة للفكاك مما تسميه أسركَ وسطوتك التي توشك أن تتحوَّل إلى قدر يدمر حياتها..
أيضا سيدأب ركاب السرافيس على احتلال واجهة المقاعد، بحيث يضطرونك للانحناء أكثر، والاعتذار عدة مرات قبل أن تصل إلى مكانك المعدّ خصيصاً في الزاوية القصوى، جهة البللور المرشوم بالطين عمداً، مثل أحلامك وأوهامك، ليكون بإمكانك فقط أن تحدق هلعاً عبر الثقوب التي يتسلّل منها المارة الغرباء على الرصيف المقابل للطريق الممتدِّ من أول الميدان إلى آخر المزة..!!
لن يكون بإمكانك أن تعيد الحسابات مجدداً، بل سوف تقف أعزلا وحيداً، وربما محطماً ويائساً، بعد أن قام الجميع بتغيير مهنتك (كحارس قديم عند باب الحزن) كما يقول الماغوط، إلى شيء مغاير تماماً.. فلا تفكر في صفع باب المنزل خلفك، أو عدم إلقاء التحية على السمان الذي يغشّك، وكذلك لا تغامر بالتحديق في الوجوه التي تعبر بسرعة الضوء أمام وجهك.. فقد تغيَّرت كل القضايا الكبيرة التي حملتها دهراً كاملاً مما تسميه اللعب بالنار أو مصارعة طواحين الهواء، وقد قام قادة الفكر وكذلك السياسيون والفلاسفة والقديسون، بإصدار بيان، منذ قليل، يقضي بتنحيتك من كل المهام الموكلة إليك بفعل الإشغار أو التقادم كما يقولون.. حتى القصائد التي كنت تدبّجها لحبيبتك طوال تلك السنين من الحب، سيتكفلون الآن بإرسال ما يشبهها عبر البريد الالكتروني ومحرّكات البحث، فلا تتعب نفسك يا صديقي، وابتسم.. لقد تمت إحالتك على التقاعد، وما عاد لوجودك القديم من معنى..!!
أن تكون مثقفاً، لن يكفي لإثارة جميع تلك المواجهات فقط، بل ربما يدفعنا لأن نكون جميعاً غير ما نشتهيه أو نتمناه..!!
باختصار…
ليس بإمكانك كمثقف أن تعيد حساباتك كل مرة، فأنت تقف أعزلا وحيداً، وربما محطماً ويائساً، بعد أن قام الجميع بتغيير مهنتك (كحارس قديم عند باب الحزن) كما يقول الماغوط، إلى شيء مغاير تماماً.. فلا تفكر في صفع باب المنزل خلفك، أو عدم إلقاء التحية على السمان الذي يغشّك، وكذلك لا تغامر بالتحديق في الوجوه التي تعبر بسرعة الضوء أمام وجهك.…