منقوول عن النت
تحريم الرق وتحرير الرقيق في الإسلام

بقلم: محمد علي شاهين

الأصل في الإسلام الحريّة:

خلق الله جميع البشر أحراراً، وأسبغ عليهم ربهم حقوقاً متساوية، ومنحهم حق الحياة، وحق الحريّة، وحق الملكيّة، وجعلهم متساوين في العبوديّة له، وجعل التقوى أساس المفاضلة بينهم .

وصان الإسلام هذه الحقوق بسلطان الشريعة، وكفل تطبيقها، وفرض العقوبات على من يعتدي عليها، وحرّم ضرب الرقيق وقتله وإهانته وسبّه، حتى أن قاضي مصر Xe "مصر" ابن حجيرة حكم على امرأة من حمير جدعت أنف أمة لها بعتقها أمتها.

وأمر الإسلام بالإحسان إلى الرقيق، والرفق إليه حتى قال الرسول (ص) Xe "الرسول (ص)" : أوصاني حبيبي جبريل بالرفق بالرقيق حتى ظننت أنه سيضرب له أجلاً يخرج فيه حراً .

وفي محكم الكتاب آية تحثّ على الإحسان للرقيق (ما ملكت اليمين) قال تعالى: (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا) . (1)



وأوجب إطعامه مما يأكل، وإلباسه مما يلبس، وألا يكلّفه ما لا يطيق، وأن يعينه، وحضّ على تزويج الأيامى والإماء، وعلى الزواج من ملك اليمين إذا كانوا صالحين، وعدم التفريق بين أفراد الأسر التي تقع في العبودية .

مجتمعات بشرية تسترق فيها رقاب الأحرار:

عاشت البشريّة قبل ظهور الإسلام في ظل مجتمعات وحضارات يشوبها نظم المواطنة الباغية، المستندة إلى النظرة القبلية الضيقة الأفق، والتباين الطبقي الصارخ الذي يقسّم الجماعات الإنسانية إلى طبقات متعددة، يتربع على قمّتها الأحرار المتمتّعون بكافّة حقوق السيادة والسلطان، ويسحق العبيد مسلوبو حق الحرية والعيش الكريم تحتها دون رحمة أو شفقة .

وكان البابليون يسترقون بعضهم بعضاً، فلم يكونوا يبالون أن يكون الرقيق منهم أو من غيرهم، فكان الرجل يبيع ابنه الحقيقي أو المتبنى إذا أجرم في حق أبيه، وكذلك كان الزوج في حل من أن يتخلص من زوجته المشاكسة بأن يبيعها، وكان العدو المأسور عندهم يعامل معاملة العبد . (2)

وعرف اليهود الرق الناجم عن ارتكاب الخطيئات المحظورة، وكان اليهودي يسترق به يهودياً مثله عسى أن يذل هذا الرق نفسه، ويكره إليه المخالفة والعصيان والخطيئة، وعرف اليهود أيضاً نوعاً آخر من الرق بسبب الحرب كانوا به يستعبدون أسراهم، ويبيعونهم بيع السلع، سواءً أكانوا من عبيد المزارع والحقول، أم من عبيد المنازل والبيوت . (3)

وتسترق المدينة حتى إذا صالحت اليهود، ففي سفر التثنية: (حين تقترب من مدينة لكي تحاربها فاستدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك، للتسخير ويستعبد لك) (التثنية 20/10)

وجاء في سفر الخروج: (إذا اشتريت عبداً عبرانياً فست سنين يخدم وفي السابعة يخرج مجاناً . إن دخل فوحده يخرج . وإن كان بعل امرأة تخرج امرأته معه . إن أعطاه سيده امرأة وولدت له بنين أو بنات فالمرأة وأولادها يكونون لسيده . وهو يخرج وحده) . (خروج21/1 ـ 4)

وتفنّن الرومان في تسويغ صور Xe "صور" الرق المتعدّدة، وأقروه في مجتمعهم كنظام اجتماعي صارم، يضع العبيد في سلطة أسيادهم، فكان من واجب الروماني أن يبيع الماشية المسنّة، وحيوانات الجر المريضة، والصوف والجلود، والعربات القديمة، والعبيد المسنّين، والعبيد المرضى، وكل شيء آخر لا لزوم له، ومن المباح له تسمين أسماكه بالدم البشري، وإلقاء عبده في حفرة الثعابين، ومعاقبته بالإحراق والتشويه إذا أخطأ، وبقر بطنه إذا كان نهماً، وقطع لسانه إذا كان ثرثاراً، وعمل أهل ذلك الزمان النكد بنصيحة (شيشرون Xe "شيشرون" ): إنه من الأفضل لتخفيف حمل سفينة معرّضة للغرق أن يلقى في البحر بعبد مسنّ بدلاً من حصان جيّد . (4)

وكثر العبيد في الدولة الرومانيّة، حتى بلغ عدد الأرقاء في الممالك الرومانيّة ثلاثة أمثال الأحرار .



وجرت سنّة البيزنطيين على ذلك، وكان الرقيق يشكّل أدنى الطبقات الاجتماعيّة وأحطّها في عهد الفراعنة والبابليين والفرس، كسائر المجتمعات القديمة المتعددة الطوابق، رغم الجهود المضنية التي بذلتها هذه الطبقة المسحوقة في رفع بناء الأهرام وتشييد أبراج بابل .

ولم يكن الرقيق في المجتمع الإغريقي أسعد حالاً من غيره في المجتمعات الأخرى، عندما عاش محروماً من كافة حقوق المواطنة، وقد عبر عن هذه النظرية القديمة للمواطنة فيلسوف اليونان (أرسطو Xe "أرسطو" ) حيث قال: إن العبد شيء من المتاع، ويشبه أثاث المنزل، ولصاحبه حق تأجيره وبيعه، بل وقتله إذا شاء . (5)

ولم يكن الإنسان في تلك المجتمعات يعامل بأفضل من الرقيق، فقد كان سلطان الرجل على زوجته في روما مطلقاً، وكانت تعد أمةً لا قيمة لها في المجتمع، ولم يكن لها قاض سوى زوجها الذي بيده حق حياتها وحق موتها، ولم تعامل الشريعة اليونانية المرأة بأحسن من هذا، ولم تعترف لها بأي حق، ولا حق الميراث . (6)

وجاءت النصرانية تدعو العبيد إلى طاعة أسيادهم، ففي رسالة بولس Xe "بولس" الرسول إلى أهل (كولوسي): (أيها العبيد أطيعوا في كل شيء سادتكم) . (3/22)



وسوغ القدّيس (أغسطين Xe "أغسطين" ) الرق، واعتبره جزاءً عادلاً للخطايا التي يقترفها المسترقّون، كما فعلت اليهوديّة من قبل .

وينقل الأستاذ جلال مظهر Xe "جلال مظهر" عن المؤرخ (جورج دورسي Xe "جورج دورسي" ) قوله: يبرر النصارى (البروتستانت) استرقاق السود بأنه جاء بإرادة الله، لأن نوح لعن سلالة ولده حام، وليس نتيجة للحرب الوحشية، وأن الواجب الأخلاقي الأول للرقيق الأسود هو الطاعة العمياء المذلة، وإن ثورة الزنوج من أجل الحرية في نظر هؤلاء الدينيين ليست جريمة، وإنما هي خطيئة . . . خطيئة ضد الله . (7)



وفي مجتمعات الجاهليين كانت تسترق رقاب الأحرار على نطاق واسع، فقد جرى على (إفلاطون Xe "(إفلاطون" ) الفيلسوف اليوناني الرق، في إحدى رحلاته في جزر البحر الأبيض المتوسط Xe "البحر الأبيض المتوسط" .

واشتدت نزعة الاسترقاق قبل ظهور الإسلام، حتى أن عمر بن الخطاب Xe "عمر بن الخطاب" رضي الله عنه، استرقّه رجل في إحدى رحلاته إلى الشام Xe "الشام" ، فاستسلم له عمر ابتداءً حتى تمكن من الانفراد به فقتله .

وجاء الإسلام وحال العبيد كما بيّنا آنفاً، والدنيا كلّها من أقصاها إلى أقصاها تغصّ بالعبيد، وكان الرق من مصادر الرزق، وبسط النفوذ والسيطرة، لهذا تمسّك به الناس، واعتبروه حقاً لا تجوز المنازلة فيه، وكانت جزيرة العرب Xe "جزيرة العرب" إحدى البقاع التي انتشرت فيها هذه البضاعة، وقامت فيها أسواق متعدّدة .

فنهض بهم نهضة ردّت إليهم إنسانيتهم أولاً، ثم رد إليهم حريّتهم، وكانت آخر شيء يمكن لهم أن يتصوروا حصوله أو يتوقّعوه، ما فعله الإسلام وهو لا يزال في سنواته الأولى يواجه العقبات ويصمد للتحدّيات، حتى يخيل لمن يعلم حقيقة تلك النهضة أن مهمّة الإسلام الأولى هي تحرير هؤلاء العبيد الذين أوقعهم حظّهم العاثر في أيدي الحمقى المستهترين وإن كانوا أشراف القوم وسادتهم . (8)

ولا يعني هذا أن كل المجتمعات العربيّة، وخاصة البدويّة منها قد استوعبت حكمة الإسلام ومقاصده السامية في تحرير العبيد، بل كانت تمارسه بعيداً عن سلطان الشريعة، فقد وقع الأزهري النحوي المتوفى سنة 370/980 في سهم قوم من البدو الرحّل، فصبر دهراً طويلاً على محنة الرق، وتعلّم منهم الفصاحة، وأخذ عنهم نوادر كثيرة منثورة في كتبه، وذكر صاحب الأغاني أن بشار بن برد Xe "بشار بن برد" الشاعر وأمّه كانا لرجل من الأزد، تزوّج امرأة من بني عقيل، فساق إليها بشّاراً وأمه في صداقها .

وكان القراصنة الأوروبيون يتعرّضون للسفن في عرض البحر، فيقهرون ركابها، ويحملونهم إلى أسواق النخاسة فيبيعونهم ويأكلون ثمنهم، فقد وقع في يد قراصنة البندقية Xe "البندقية" الرحالة العربي المغربي الحسن بن محمد الوزان Xe "الوزان" ، أثناء عودته من مصر Xe "مصر" بطريق البحر إلى بلاده، وأرسلوه رقيقاً إلى البابا (ليون Xe "ليون" العاشر) وقد أمضى في روما زهاء عشرين عاماً باسم (ليون الأفريقي Xe "ليون الأفريقي" ) وأجبر على اعتناق المسيحية، وعندما فرّ من الأسر عاد إلى تونس وتوفى بها مسلماً، ومن الجدير بالذكر أن (ليون الأفريقي) صاحب (رسالة في تراجم المشهورين من العرب) ظل المصدر الوحيد في أوروبا Xe "أوروبا" للمعلومات الطبيّة التاريخيّة .

وكانت تجارة الرقيق التي ارتبطت بالنظام الاقتصادي القديم تحظى بتشجيع ملوك أوروبا Xe "أوروبا" ، ربما لأنها كانت تشكّل أحد مصادر دخل الدولة، أو القوة المحركة في العمل الجماعي في حقول الشاي والبن ومزارع قصب السكر، والمناجم، واليد العاملة في المدن، والخدم في المنازل .

فقد كافأت الملكة (اليزابيت Xe "اليزابيت" الأولى) تاجر الرقيق (سيرجون هوكنس Xe "سيرجون هوكنس" ) على نشاطه المتميّز في مضمار هذه التجارة الملعونة، بمنحه درعاً نقشت عليه صورة زنجي أسود مصفّد بالأغلال فصار هذا شعاراً له ولأسرته، واختارته الملكة بعد ذلك وزيراً للبحرية .

وكان الروم يسترقّون المسلمين الذين يقعون في الأسر، إلا أن دولة الخلافة كانت تفتدي هؤلاء الأسرى بالمال، أو تطلق ما يقابلهم من أسرى الروم .

منابع الرق:

قديماً كانت الأمم غير المسلمة تسترق أعداءها المغلوبين في الحروب، وتسبي نساءها، وتخطف أطفالها، أما بعد ظهور الإسلام فقد جرى العمل حتى العهد العباسي بأن سبب الرق هو وقوع الكافر أسيراً في يد المسلمين عند الحرب، حيث نظّم الإسلام علاقته مع الدول المحاربة له على أساس المعاملة بالمثل، وعلى أنه ضرورة في الحرب فقط، إنقاذاً للأسير من القتل الذي كان أعداء الإسلام يمارسونه بحقه عند انتصارهم تشفيّاً وانتقاماً، وقياماً بواجب تبادل الأسرى لتحريرهم من قبضة آسريهم، وترك لإمام المسلمين حريّة التصرّف في الأسرى، إما بإطلاق سراحهم من الأسر، وإما بدفع فدية مالية عن كل أسير، وإما باسترقاقهم.

ويأتي الفقر بالدرجة الثانية بعد الحرب، ليكون منبعاً غزيراً للاسترقاق، فقد كان اليهود يبيعون أولادهم الصغار غير البالغين، بسبب الفاقة والحرمان، أو يصبح المدين رقيقاً للدائن بسبب عجزه عن تسديد الدين، كتاجر البندقية Xe "البندقية" ، وهو ما نهى عنه الإسلام .

وكان عبيد الأرض تحت حكم الفرس والروم يباعون مع الأرض، وتنتقل ملكيتهم لصاحبها الجديد .

ومما ساعد على ازدهار هذه التجارة، انتشار الطاعون في حوض البحر الأبيض المتوسط Xe "البحر الأبيض المتوسط" ، فرغب الأهالي في إنقاذ أولادهم من الموت المحقّق عن طريق إبعادهم، وبيعهم للتجار .

ونقل الدكتور أحمد عدوان عن صاحب (تاريخ المماليك البحرية) قوله: إن ثراء الدولة المملوكيّة، وتواتر الأخبار بأن في وظائفها وسلطنتها ميداناً فسيحاً لكل ذي موهبة وقدرة، ويقال إن ما وصل إلى تركستان Xe "تركستان" من القصص والروايات عن أحوال المماليك في مصر Xe "مصر" ، وما يذاع عن ظروفهم الطيّبة بالقاهرة كان باعثاً للكثير من أهالي تلك البلاد عن بيع أولادهم وبناتهم ليكونوا من حاشية سلطان مصر . (9)

مصادر تجارة الرقيق العالمي وأسواقه:

أما المناطق التي كانت توفّر الرقيق فهي: بلاد الصقالبة وكانت أمارة كييف تتولى تصديره إلى العالم الإسلامي، وبيزنطة، وكانت قوافل العبيد تجتاز بلغاريا Xe "بلغاريا" إلى خوارزم Xe "خوارزم" ، ومن أسواق العبيد فيها كانت تتجه قوافل العبيد إلى آسيا الوسطى Xe "آسيا الوسطى" ، والعراق، وإيران .

وفي الاتجاه الغربي كانت تجارة الرقيق تجري على يد الفرنج، ولا سيما التجار اليهود الذين ينتمون إلى أعالي الدانوب والراين، ومن بوهيميا حيث كانت مدينة براغ مركزاً للخصي، يتجه العبيد إلى مدينة (راتسبون Xe "راتسبون" ) في ألمانيا Xe "ألمانيا" ، ومن هناك يوزع الرقيق على الأسواق الجرمانية، ويصل إلى (فردان Xe "فردان" ) التي كانت سوقاً كبيرة للعبيد ومركزاً للخصي في نفس الوقت، ثم مدينة (ليون Xe "ليون" ) حيث يقوم التجار اليهود بتوزيع سلعتهم البشرية، ومن هناك يتجه إلى إسبانيا Xe "إسبانيا" ، وعن طريق البحر مباشرة إلى مصر Xe "مصر" وسورية .

وتتجه تجارة العبيد إلى الجنوب، نحو البندقية Xe "البندقية" التي تعتبر قاعدة أساسية لهذه التجارة، وبعد ذلك يقوم البحريّون البندقيّون بتصدير هذه التجارة البشريّة إلى موانئ المشرق في البحر الأبيض المتوسط Xe "البحر الأبيض المتوسط" . (10)

وذكر (دوزي Xe "دوزي" ) أن لفظ الصقالبة يطلق في الأصل على الأسرى الذين تأسرهم الشعوب الجرمانية في حروبها ضد الأمم الصقلبية ثم يبيعونهم إلى مسلمي إسبانيا Xe "إسبانيا" ، ولكن ما لبث هذا الإسم أن انسحب على أناس من أجناس أخرى، حتى شمل جميع الأجانب الذين كانوا يستخدمونهم في الحريم أو الجيش أياً كان أصلهم .

ونقل عن المقري Xe "المقري" صاحب (نفح الطيب) أن أغلب هؤلاء كانوا من صغار السن عند وصولهم إلى إسبانيا Xe "إسبانيا" ، فقد كان من اليسير عليهم اعتناق ديانة سادتهم، والإلمام بلغتهم، والتشبّه بهم في طباعهم، وأصاب الكثيرون منهم حظاً وافراً من التعليم المتقن حتى لقد بلغ الأمر بهم أن كانت لهم مؤلّفات وفيهم من نظم الشعر، وهناك كثير من الأدباء الصقالبة منهم صبيب الذي ألف كتاب (الاستظهار والمبالغة على من أنكر فضل الصقالبة) درس فيه أِخبار الصقالبة ورحلاتهم . (11)

ومن الرقيق الأسود يجلب النوبيين من أعالي النيل Xe "النيل" عن طريق أسوان Xe "أسوان" التي هي المدخل الجنوبي للبلاد المصريّة، والتي كانت مركزاً للخصي، ولا سيّما في الأديرة المسيحيّة التي تقع فيها، وأما الرقيق الحبشي، فيستورد عن طريق النيل الأزرق، أو عن طريق موانئ البحر الأحمر Xe "البحر الأحمر" إلى مصر Xe "مصر" وشبه الجزيرة Xe "الجزيرة" العربيّة، والعبيد الصوماليّون يأتون عن طريق الزيلع إلى عدن Xe "عدن" ، حيث ينقلون إلى سوق زبيد Xe "سوق زبيد" ، وأما الزنج الذين يأتون من شواطئ أفريقية الشرقيّة فيشكّلون مورداً هاماً لتوفير اليد العاملة في حقل التجارة الإسلاميّة، وهؤلاء العبيد السود يقعون في الأسر أثناء الغزوات أو يشترون مقابل بضائع زهيدة القيمة من الملوك ورؤساء القبائل الزنوج، وكانت المناطق الغربيّة في السودان Xe "السودان" من موارد العبيد، وكانت تتجه إلى المغرب Xe "المغرب" الأقصى والأندلس . (12)

التمتع بالإماء:

ورغم أن المسيحية لم تجز لأتباعها التمتّع بإمائهم، وفرضت على من يشتغل بتجارة الرقيق الحرمان، إلا أن المسيحيين مارسوا الرق ضد مخالفيهم من أهل الأديان، واعتبروا التمتّع بالأمة زنى، وحمّلوا ابن الأمة عار أبيه الزاني.

وجاء الإسلام ناهياً عن إكراه الإماء على البغاء، كما درجت عادة الجاهليين على هذه العادة الذميمة، ولم يعتبر الأمة زانية إذا تسرى بها سيّدها، ويحق للرجل المسلم التسري منهن ما شاء من العدد وإن كثر، سواءً أكان متزوجاً بواحدة أو أربعاً، وإذا ما ولدت من سيدها سميّت أم ولد، وألحق الإسلام نسب ابنها بأبيه، وأجرى عليها أحكام الحرائر بعد وفاته .

ديوان الرقيق:

وكان على تجار الرقيق (النخّاسين) عامل من عمال الحكومة يشرف على أعمالهم ويراقب تجارتهم يسمى قيّم الرقيق، وكان للرقيق أسواق خاصّة في المدن الإسلاميّة بعد انتشارها في عالم ذلك الوقت، وتحوّلها إلى تجارة واسعة، ومن أشهر تلك الأسواق دار الرقيق في بغداد Xe "بغداد" ، وسوق الرقيق في سامرّا Xe "سامراء" ء .

أما الموالي والغلمان الأتراك الذين كثر عددهم في عهد المعتصم Xe "المعتصم" العباسي فقد استحدث لهم ديوان خاص يتولّى القيام بشؤونهم المختلفة، سمّي بديوان الموالي والغلمان .

دفاع لوبون عن الرق في المجتمع الإسلامي:

وينقل (غوستاف لوبون Xe "غوستاف لوبون" ) عن (المسيو شارم Xe "شارم" ) دفاعه عن الرق في المجتمع الإسلامي: يبدو الرق في مصر Xe "مصر" أمراً هيّناً نافعاً منتجاً، ويعد إلغاؤه مصيبة حقيقية، ففي اليوم الذي لا يستطيع فيه وحوش أفريقيا الوسطى أن يبيعوا فيه أسرى الحرب، ولا يرون فيه إطعامهم، لا يحجمون عن أكلهم، فالرق وإن كان لطخة في جبين الإنسانيّة، أفضل من قتل الأسرى ، وأكل لحومهم، إذا ما نظر إليه من وجهة نظر هؤلاء الأسرى، وذلك على الرغم من رأي محبي الإنسانيّة من الإنجليز الذين يقولون: إنه أجدر بكرامة الزنوج أن يأكلهم أمثالهم من أن يسودهم أجنبي .

رفع الإسلام شأن الأرقاء:

وجاء الإسلام فساوى بين المخلوقين كأسنان المشط، وجعل مبدأ التقوى هو علّة المفاضلة بين بني البشر، وحطّم الرسول بعد فتح مكة Xe "مكة" فوارق اللون والجنس، وقضى على التمميز العنصري قضاءً تاماً عندما رفع على ظهر الكعبة Xe "الكعبة" بلال بن رباح، صادحاً بكلمة التوحيد، وآخى بين عمه حمزة ومولاه زيد.

وفي العهود الإسلاميّة ارتقى الإسلام بالأرقاء من العبوديّة إلى قمّة السلطة السياسيّة والعسكريّة، وما دولة المماليك التي حكمت العالم الإسلامي فترة طويلة امتدت من نهاية العهد الأيوبي إلى بداية العهد العثماني عن الذاكرة ببعيد .

وبلغ الكثير من الأرقاء وخاصّة في مصر Xe "مصر" أرقى المناصب، ولا سيما البيض، ويعد ابن الأمة في مصر مساوياً لابن الزوجة في الحقوق، وإن كان ابن الأمة هذا بكر أبيه، تمتع بكل ما تمنحه البكريّة من الامتيازات، ولم تكن من غير الأرقاء زمرة المماليك، التي ملكت مصر زمناً طويلاً .

وفي أسواق النخاسة اشتري علي بك Xe "علي بك" ، وإبراهيم بك، ومراد بك الجبّار، الذي هزم في معركة الأهرام، وليس من النادر أن ترى رجلاً في مصر Xe "مصر" كان سيده المصري قد تبناه، وأحسن تعليمه، وزوجه ابنته . (13)

وقام الرقيق على اختلاف أنواعه بأعمال كثيرة في الدولة الإسلاميّة، واشتركوا في الحياة السياسيّة والاجتماعيّة، فمنهم من كانوا جنوداً و قواداً تستعين بهم الدولة في حروبها، وقد وصل كثير من الأرقاء في الدولة الإسلاميّة إلى مراكز سامية، فمنهم من تولّى قيادة الجيوش مثل مؤنس الخادم في العراق Xe "العراق" ، وجوهر الصقلي في المغرب Xe "المغرب" ومصر، ومنهم من حكم الولايات مثل كافور بن عبد الله الإخشيدي Xe "كافور بن عبد الله الإخشيدي" في مصر Xe "مصر" ، وسبكتكين التركي في بلاد الأفغان Xe "بلاد الأفغان" ، ومنهم من الرجال من قام بالأعمال الصناعية والتجارية لسادتهم . (14)

وتحمّل الرقيق الأبيض (المماليك) في الدول الإسلاميّة التي خضعت لسلطانه، شرف الدفاع عنها، وكان أميناً على مقدّراتها، عندما قهر أعداء البلاد، وحقّق انتصارات ساحقة على المعتدين، مثل انتصار المماليك البحريّة في المنصورة Xe "المنصورة" على الخطر الصليبي، وانتصار عين جالوت Xe "عين جالوت" على المغول بقيادة المظفّر قطز، بعد أن دب اليأس والقنوط في القلوب .

وفي الأندلس Xe "الأندلس" نبغ عدد من المماليك الصقالبة في الإدارة والجيش وخاصّة في عهد الناصر Xe "الناصر" مثل نجدة الصقلبي قائد الجيش، والدري صاحب الشرطة، وأفلح صاحب الخيل، وخلف مدير الطراز، وقتد حاكم طليطلة Xe "طليطلة" ؛ وكان لفائق وجؤذر دور كبير في عهد المستنصر وابنه هشام Xe "هشام" .

ولعب الصقالبة دوراً هاماً في الحياة السياسية بالأندلس حيث تدخّلوا في تولية الأمراء وعزلهم، وشاركوا مثل البربر في غمار الفتن والمؤامرات التي اندلعت في قرطبة Xe "قرطبة" وغيرها، وكان من أشهر زعمائهم فيها خيران الصقلّبي Xe "خيران الصقلّبي" .

كما كان لهم دور أيضاً في الحياة العلميّة حيث برز من بينهم بعض العلماء والأدباء والشعراء مثل فاتن الصقلّبي الذي برع في الأدب وناظر صاعداً العالم اللغوي عند المنصور Xe "المنصور" بن أبي عامر، فأفحمه وأعجب به المنصور، وألّف الأمير مجاهد الصقلبي Xe "مجاهد الصقلبي" صاحب دانية Xe "دانية" كتاباً في العربيّة يدلّ على قوّته فيها .

أما تأثيرهم في الحياة الاجتماعية فقد جلبوا معهم من بلادهم الكثير من عاداتهم وتقاليدهم وفنونهم . (15)

تجفيف منابع الرق:

أعطى الإسلام الإمام الحق في المن على الأسرى، وإطلاق سبيلهم، أو أخذ فدية مالية منهم، أو يفتدي الرجل المسلم بالرجل المحارب .

وخطا خطوات واسعة في سبيل التطوّر نحو تحرير الرقيق، وحدّ من استخدام مبدأ الضرورة، الذي يهدر الحقوق، ويعطّل النصوص التشريعيّة، فقدّر الضرورة بقدرها، وجعل علّة الإباحة منع الضرر الأكبر .

فلا يجوز استرقاق المسلم بأي حال من الأحوال، أو غير المسلم الذي دخل بذمة المسلمين يهودياً أو مسيحياً، ومنع الخليفة الفاروق استرقاق العرب، فقال: لا سبأ Xe "سبأ" في الإسلام، ولا رق على عربي في الإسلام، وحرّم الإسلام بيع الدائن مديونه استيفاءً للدين، وحرّم قتل الأولاد أو بيعهم خشية الإملاق (الفقر) .

وقال أئمة الإسلام بعدم حلية نكاح المستولدات بدون صداق، إذا كن قد صرن ملك يمين بالاسترقاق غير المشروع .

وحرّم بيع أمة صغيرة لرجل حر بالغ خشية أن يغيرها بالفسق، أو أن يطأها زان، لأن الأخلاق والآداب في دولة الإسلام هي التي ترسم حدود القانون.

وجعل الطفل الذي يولد للمسلم من أمته حراً، ولم يجز أن يبيع المسلم أمته بعد أن ولدت له، وحوّلها إلى امرأة حرّة بعد وفاته، وكثيراً ما كان يعهد إلى أبناء الخلفاء من الجواري بالخلافة دون اعتراض، فقد تولى أبناء المهدي Xe "المهدي" العباسي، من جاريته الخيزران Xe "الخيزران" ، موسى الهادي Xe "موسى الهادي" ، وهارون الرشيد Xe "الرشيد" الخلافة، بكل ثقة واقتدار .

ولا يجوز في الشريعة الإسلاميّة أن يشترك رجلان في ملكيّة أمة في وقت واحد، وقد حدث أن عاقب الخليفة رجلين اشتريا أمة فوطئاها .

ومكّن الإسلام العبيد من استعادة حريّتهم بالمكاتبة، وأوجب إعانة المكاتبين، لأن الأصل هو الحريّة، أما العبودية فطارئة، وحض على مكاتبتهم كرماً، أو لقاء مال يدفع إلى المالك فيما بعد، وإعطائهم من مال الله، ولم يمنع الإسلام وصيّة المسلم لمن ملك يمينه بثلث ماله .

وخصص الإسلام قسماً من مصاريف الزكاة على تحرير الرقاب، وجعله كفّارة لبعض الذنوب كالقتل الخطأ، والظهار، وجرت عادة كثير من المسلمين على عتق بعض عبيدهم بعد وفاتهم، تقرّباً إلى الله بصالح الأعمال، وسمي هذا النوع من العتق بنظام التدبير .

وكان الكرماء في الجاهليّة والإسلام يعتقون عبيدهم كرماً، وفي هذا المعنى يروي صاحب بلوغ الأرب أن حاتم الطائي قال لغلامه: أنت حر إن جلبت لي ضيفاً .

تصحيح ما يفترى حول ضريبة الغلمان:

زعم جماعة من المستشرقين أمثال (بروكلمان Xe "بروكلمان" ) و(جب Xe "جب" ) و(جيبونز Xe "جيبونز" ) أن السلطان أورخان Xe "أورخان" عندما أسّس الجيش الإسلامي الجديد (ييني شاري) انتزع أطفال النصارى من بين أهاليهم بموجب ضريبة الغلمان، وأن هذه الضريبة كانت تشكّل خمس عدد أطفال كل مدينة أو قرية نصرانيّة باعتبارهم خمس الغنائم، وهي فرية كبيرة تحتاج إلى التحقيق .

والحقيقة أن السلطان أورخان Xe "أورخان" خصّص خمس الغنائم للانفاق على هذا الجيش الجديد (ييني شاري) وكان جيشاً دائماً، يشكّل المسلمون الجدد وأبناؤهم من البلاد المفتوحة مادته، حيث يربّون تربية دينيّة جهاديّة، وكان من الطبيعي أن ينضم إلى هذا الجيش الأطفال الذين شرّدتهم الحروب من أبناء المسلمين والنصارى، ليتمتعوا بالمزايا التي وفرتها التربية الجهاديّة الخاصّة، والتدريب العسكري العالي في معسكرات أقيمت لهذا الغرض، ويصلوا إلى المناصب العليا في الدولة العثمانيّة .

تعليم الرقيق الشريعة والفنون العسكرية والآداب:

نقل الدكتور العدوان عن خطط المقريزي Xe "المقريزي" في معرض حديثه عن ثقافة الرقيق في عصر المماليك قوله: فإذا قدم المملوك تاجره، عرضه على السلطان فيشتريه ويجعله في طبقة من جنسه، ويسلّمه إلى المختص برسم الكتابة، فأوّل ما يبدأ به تعليمه ما يحتاج إليه من القرآن الكريم، ولكل طائفة فقيه يأتيها كل يوم، ويأخذ في تعليمها القرآن الكريم، ومعرفة الخط، والتمرّن بآداب الشريعة الإسلاميّة، وملازمة الصلوات والأذكار، وكان الرسم إذاك ألا تجلب التجار إلا المماليك الصغار، فإذا شب الواحد منهم علّمه الفقيه شيئاً من الفقه، وأقرأه فيه مقدمة . (16)

كما كان المماليك يتلقون علومهم العسكريّة، وفنونهم القتاليّة تحت إشراف ديوان الجيش، حيث يتولى ناظر الجيش هذه المهمّة .

وكان النخّاسون يحرصون على تعليم الرقيق ألوان الفنون الشائعة في عصرهم، حتى اشتهر عدد كبير منهن في رواية الشعر وقرضه، وإجادة فن الغناء والموسيقى، والإلمام بالأدب، وكانت قيمة الجارية المتعلمة تفوق قيمة أقرانها من الأميّات الجاهلات، فالغناء والأدب يرفع من ثمنها ويضاعفه أضعافا، ومن الطريف أن رجلاً اشترى جارية تحسن النواح في العزاء بثلاثين ألف درهم، وكانت الجواري الفاتنات تهدى إلى الخلفاء للتسرّي .

وكان من الآثار السيئة لانتشار القيان في المجتمع الإسلامي، نشر الخلاعة واللهو والمجون، وانتشار شعر الشعراء الخلعاء، وما نتج عنه من ردود أفعال كالتصوّف والزهد .

ورأى الأستاذ أحمد عبد الباقي Xe "أحمد عبد الباقي" أن تاثير الجواري والقيان في الحياة الاجتماعية كان شديداً وواضحاً، فقد كنّ وسيلة لنشر الفنون الجميلة، وما يتبعها من رقي الذوق الفني والشعور بالجمال وتقديره، فنشرن أنواعاً من الظرافة في أزياء الملابس وألوانها ومناسبات لبسها، وفي حب الزهور وتعشقها، وكتابة الأشعار الرقيقة والجمل الظريفة على العصائب والمناديل وأكمام الملابس وجيوبها وعلى الوسائد، كما نشرن بعض أساليب التجميل كالعناية بتصفيف الشعر وترقيق الحواجب، ومن الجدير بالذكر أن بعض الجواري أقمن على الدين الذي كن عليه كالنصرانية والوثنية، وكان مواليهن حتى من الخلفاء يحترمون دينهنّ، ويسمحون لهنّ بالفروض والطقوس الخاصّة في الأعياد وغيرها، الأمر الذي يظهر مدى التسامح الديني الذي كان من مميّزات الحضارة العربيّة الإسلاميّة . (17)

يصف صاحب (حضارة الإسلام في دار السلام Xe "دار السلام" ) في معرض حديثه عن سوق الجواري ببغداد نقلاً عن (الأغاني) أن من بين الجواري التي شاهدها بسوق النخّاسين، الغانيات اللاتي يعرفن بما عليهن من اللباس الفاخر الذي لا غاية بعده، ويقول: ولقد يخال الناظر لأول وقوفه بهذه السوق أن بيعهنّ إنما هو جار عليهن من قبيل الظلم والاسترقاق، غير أنه لا يستقر في هذا الوهم الطارئ بعد أن يرى تطارحهن على أهل النعيم، ولقد سمعت أن بعض الغواني المترفات يتخلصن سراً من حيث لا يحببن المقام، ثم يأتين السوق متواريات عن عيون الرقباء إلى أن يقع سوقهن على أحد من الناس، ومواليهن بهن غير عالمين، فيتصرّف النخّاسون في بيعهنّ مثل تصرف التجار ببضائعهم، وإذا وقع سوقهنّ على رجل قبض بيده على يد النخاس كما هي العادة المألوفة في البيع والشراء . (18)

دور أمهات الأولاد في الحياة السياسية:

واستطاعت بعض الجواري الوصول إلى مركز التأثير في الدولة، ولعب دور رئيسي في الحياة السياسية، حيث تمكّنت سلطانة مصر Xe "مصر" (شجر الدر Xe "شجر الدر" ) من إخفاء موت السلطان الصالح نجم الدين أيوب Xe "نجم الدين أيوب" ، بينما كانت البلاد تخوض حرباً ضد الصليبيين بقيادة (لويس التاسع Xe "لويس التاسع" )، وتجنيب مصر الفوضى والهزيمة فيما لو أظهرت وفاته، ثم في توليها سلطنة مصر، بعد مقتل ابن زوجها توران شاه Xe "توران شاه" ، رغم معارضة الخليفة العباسي ببغداد، وتحدي الأيوبيين في بلاد الشام Xe "الشام" ، حيث ضربت السكّة باسمها، وخطب لها على المنابر، ولا ينكر دورها في تهيئة الظروف لرحيل بقايا الحملة الصليبيّة عن دمياط Xe "دمياط" ، ونقل الحكم من البيت الأيوبي إلى المماليك .

وكان من شدّة نفوذ الخيزران Xe "الخيزران" زوجة المهدي Xe "المهدي" العباسي البربريّة الأصل أنها كانت تتدخل في شؤون الإدارة والحكم، حتى برم بها ابنها موسى الهادي Xe "موسى الهادي" ، وقال مخاطباً إياها كما وردت القصّة في رواية ابن طباطبا في كتابه (الفخري): لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد قوادي أو أحد خاصّتي، أو خدمي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله، فمن شاء فليلزم ذلك؛ ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك كل يوم، أما لك مغزل يشغلك ؟ أو مصحف يذكّرك ؟ أو بيت يصونك ؟

وأنجبت أمهّات الأولاد الأجنبيّات في قصور الخلفاء العباسيين رجالاً كان لهم نصيب كبير في حكم الدولة، حيث أنجبت المنصور Xe "المنصور" أمة بربريّة، وأنجبت المأمون Xe "المأمون" أمة فارسيّة، وأنجبت الواثق Xe "الواثق" أمة يونانيّة، وأنجبت المنتصر أمة حبشيّة، وأنجبت المعتصم Xe "المعتصم" أمة صربيّة، وأنجبت المتوكل Xe "المتوكل" أمة خوارزميّة، وأنجبت المقتدر Xe "المقتدر" والمستكفي أمة روميّة، وأنجبت المطيع أمة صقلبيّة .

وكان من أثر هذا التنوع في اختيار أمّهات الأولاد اعتماد الخلفاء على العناصر الأجنبيّة ذات الكفاءة في تولي الوزارة والإدارة والجيش، وظهور أسر كالبرامكة الفرس، وكقادة كالإفشين وبغا وأشناس الأتراك .

واستخدم الغلمان لأعمال الخدمة والسخرة والجيش، حيث كانوا يتعلمون فنون الحرب، واستعمال السلاح، وقيادة الجيوش، وكانوا يبدون ضروباً من الإخلاص في الخدمة، والتضحية لإرضاء أولياء أمورهم .

وكان يطلق على الجواري البيض أرستقراطيو العبيد، بسبب ما يتمتعن به من حسن طبيعي وجمال أخّاذ، فمنهن الروميّات واليونانيّات والأرمنيّات والصقلبيّات، وكن يستخدمن كزوجات أو محظيات .

ولم يكن باعث الاسترقاق في المجتمع الإسلامي ما ينافي مبادئ الإسلام الفاضلة، أو الانتقام من الأعداء بأي حال من الأحوال .

المسلمون الأفارقة ضحيّة الرق:

دخلت أمريكا Xe "أمريكا" القرن العشرين بخمسة عشر مليون رقيق إفريقي، وحقّق النخّاسون البرتغاليون والهولنديون من هذه التجارة الملعونة، عبر الأطلنطي Xe "الأطلنطي" على مدى عدة قرون أرباحاً خياليّة، على حساب حرية الإنسان وسعادته .

وكانت دول أوروبا Xe "أوروبا" الاستعماريّة تمد مستعمراتها في القارة الأمريكيّة بزنوج أفارقة معظمهم من المسلمين، وخاصّة في البرازيل Xe "البرازيل" .

وكانت شركات الرقيق تأخذ حق الحصول على الرقيق الأفريقي وحق توريده إلى المستعمرات، وكثيراً ما كان هذا الترخيص الرسمي يحدّد عدد الرقيق الذي يدخل ضمن هذه العمليّات .

أما المجموع الكلي للرقيق الذي تداولته الشركات الأوروبيّة عام 1790 فقد بلغ مقداره 74 ألف رأس، فإن نصيب الإنجليز قد بلغ أكثر من نصف العدد في تلك المدّة .

وقد برّر مفكرو الغرب وفي مقدمتهم (مونتسكيو) في كتابه (روح القوانين) الذي يعتبر شريعة الغرب، مبدأ استعباد الزنوج ذوي البشرة السوداء قائلاً: إن شعوب أوروبا Xe "أوروبا" ، وقد أفنت سكان أمريكا Xe "أمريكا" الأصليين، لم يكن أمامها إلا أن تستعبد شعوب أفريقيا، لكي تستخدمها في استصلاح أرجاء أمريكا الشاسعة، وما شعوب أفريقيا إلا جماعات سوداء البشرة من أخمص القدم إلى قمة الرأس، ذات أنوف فطساء إلى درجة يكاد من المستحيل أن نرثي لها .

ويشير الأستاذ زكريا هاشم Xe "زكريا هاشم" زكريا في كتابه (فضل الحضارة الإسلامية والعربية على العالم) إلى أن هذا اللون من الفكر لم يكن مقصوراً على مفكري أوروبا Xe "أوروبا" وفلاسفتها، وإنما امتدّ منهم إلى بعض رجال الدين في أوروبا في ذلك العهد، ثم يقول: ومن المتواتر في بعض الكتب التي تستعرض الاستعمار الأول، أن نفراً من أولئك الذين كانوا يتصدّون بغير حق إلى قيادة حركة الاستعمار والتوسّع باسم الدين، كانوا يصفون الهنود الحمر بأنهم من سلالة الشيطان، بل كانوا يأمرون بالقضاء عليهم بمختلف الوسائل، ومن ذلك نشر الأمراض الجديدة ونقل عدواها إلى أولئك الهنود الحمر، فتحصدهم أوبئتها، وتطهر البلاد منهم في غير شفقة ولا رحمة . (19)

استرقاق المسلمين الأندلسيين:

يتحدث الأستاذ عادل البشتاوي عن مأساة الأندلسيين المواركة، بعد أن يئست قشتالة في إدخالهم صف الكاثوليكيّة، وإجبارهم على التخلي عن دينهم ودين أجدادهم، ونفي مئات الألوف منهم، إذ بقيت أعداد كبيرة جداً منهم تعيش في الأندلس Xe "الأندلس" ، فيقول: كان الأندلسيّون والأفارقة يشكّلون السواد Xe "السواد" الأعظم من العبيد في شبه جزيرة إيبيرية Xe "شبه جزيرة إيبيرية" بعد قرون من الاستعباد، وحروب كثيرة خصّصها الملوك لأسر المزيد من الأندلسيين وإجبارهم على النهوض بأعباء خدمة مجتمع كرّس نفسه للحرب والعبادة .

ويقول: أما حروب قشتالة فأوجدت المسوّغ لاستبقاء العبيد عبيداً حتى ولو تنصّروا، وأوقعت الكنيسة في تناقض واضح مع مبادئها وكأنّ ذلك لم يكن مهمّاً طالما أن الطاعون والهجرة إلى المستعمرات الجديدة في أمريكا Xe "أمريكا" فرضا على قشتالة الاحتفاظ بأكبر قدر من العبيد وإبقائهم كذلك . (20)



التنكيل بالعبيد الأرقاء :

واتسمت طريقة اقتناص الرقيق بوحشيّة وقسوة، وكانت عملية نقلهم بالسفن عبر الأطلنطي Xe "الأطلنطي" إلى أسواق الرقيق المشهورة تتم بطريقة تفتقد إلى أدنى درجات الرحمة، حيث يفنى عدد كبير منهم خلال هذه الرحلة المروّعة، وتلقى جثثهم المتعفنة لتكون طعمة لحيتان البحر، ولم يتورّع تجار الرقيق عن وسمهم كالماشية بوسمهم الخاص كعلامة فارقة، لا يمكنهم التخلص منها إلى الأبد .

أما أهم أسواق الرقيق فقد كانت المستعمرات الإسبانيّة، قبل أن تتحوّل شهرتها إلى ولاية فرجينيا Xe "ولاية فرجينيا" أعظم أسواق الرقيق في العالم الجديد .

وبفضل طرق الري Xe "الري" المنتظم في وادي العراق Xe "العراق" الأدنى، واستخدام الدواليب والعجلات في رفع المياه، وازدياد الطلب على الحاصلات الزراعية بعد اتساع رقعة الدولة العباسيّة، اقتضت الحاجة استقدام أيد عاملة رخيصة من الهند Xe "الهند" ، و بسبب الطمع والجشع والاستغلال الذي يمقته الله، أوكلت إلى العبيد من الزنج والزط في منطقة البصرة Xe "البصرة" كسح السباخ، وتجفيف المستنقعات، مما جعلهم وقوداً لحركات التمرّد على الدولة، وحقلاً خصباً للحركات الثوريّة التي يلتقي فيها المنبوذون اجتماعياً بالعبيد الآبقين، مع دعاة المزدكيّة والقرمطيّة التي سفكت الدماء في الحرم، واسترقّت أبناء المسلمين، وهدّدت أمن واستقرار المجتمع الإسلامي .

وكان الرقيق يستخدم لتنفيذ الأعمال الشاقّة، التي يعجز الرجل الأبيض عن تحملها، في الظروف الصعبة، فقد باعت هيئة فرسان مالطة Xe "مالطة" المسيحية خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر للملاحة الفرنسية آلاف الرقيق لتجديف مراكبها، وكأنهم آلات صماء لتحريك عجلة البحريّة الفرنسيّة .

رق من نوع جديد :

وكان الأرقاء لا يستطيعون التنقل بحرية في العالم القديم، حيث أن أبرز معالم الرقيق أنه لم يكن بإمكانه الذهاب إلى حيث يرغب، بخلاف الإنسان الحر.

لكننا في العصر الحديث عاصرنا حكومات فظّة، حرمت مواطنيها من السفر إلى حيث يرغبون، وذلك بحرمانهم من وثائق السفر، وكأنّ الرق مضروب على أعناق العباد الذين أوكل إليهم ربهم مهمة رعاية حقوقهم، ذلك لأن كثيراً من الأنظمة الخائفة تؤمن بأن صيانة الأمن لا تتم إلا بقمع الحريّة المنافية للرق والعبوديّة .

وقبل أن يتشدّق الناس بشعارات الوحدة والحريّة، كان من حق المسلمين في ظل دولة الخلافة أن يتجوّلوا بحريّة، من كاشغر Xe "كاشغر" في أقصى المشرق، إلى السوس الأقصى Xe "السوس الأقصى" في المغرب Xe "المغرب" ، وأن يتمتّعوا بحقوق المواطنة والأمن، بحيث لا يجرؤ أحد على استرقاقهم، أو سؤالهم عن مسقط رأسهم، ذلك لأن الإسلام دين التوحيد، ضمن لمعتنقيه حق العمل، وحريّة الإقامة، والتمتع بثمرات هذا العالم الإسلامي المترامي الأطراف وخيراته .



ومارس الاستعمار الأوروبي تحت مسميّات الوصاية والحماية على دول آسيا وأفريقيا، سياسات استرقاقيّة شديدة الوطأة على الشعوب المستعمرة، فاحتكر انتاجها الزراعي، من قطن، ومطاط، وعنب، وتبغ، وقصب سكر، وسيطر على آبار النفط، وخطوط النقل، وموانئ الشحن، ومحطّات الضخ، والتكرير، والتوزيع، واستغل مناجم الذهب والفضة والحديد والنحاس واليورانيوم والفوسفات والبوتاس وغيرها من المعادن والخامات .

وفرض الاستعمار حضارته الماديّة، وفكره الرأسمالي، ولغته اللاتينيّة، وثقافته العلمانيّة على الشعوب المستعمرة، بآلته العسكرية القمعيّة، وحمى بها احتكاراته ونهبه المنظّم، مستعيناً بجيش من المنافقين والعملاء والجواسيس .

وتعرّض الأحرار في ظل الاستعمار، وحكومات العملاء، للإبادة، والقمع، والسجن، والتشريد، والتجويع، أما الأكثرية الصامته فكانت تغرق في مستنقع الفقر والحرمان، والتبعية السياسيّة كالعبيد .



العبيد الخصيان

كانت عادة خصي الأعداء، وسمل العيون شائعة في الدولة البيزنطيّة، ولم تكن مخصوصة بالعبيد وحدهم، بل كانت هاتان العقوبتان الظالمتان تطالان الأحرار.

فقد خشي ميخائيل العموري Xe "ميخائيل العموري" ، وقد أخذ الناس يسحبونه من زنزانته إلى عرش الإمبراطوريّة البيزنطيّة، بعد اغتيال الإمبراطور (ليو الخامس Xe "ليو الخامس" الأرمني) يوم العيد في الكنيسة، أن يحاول أولاد (ليو) المطالبة بعرش أبيهم، فأمر بخصيهم، وكانوا أربعة، وقد مات أحدهم أثناء العمليّة .

أما الإمبراطور (باسيليوس الثاني Xe "باسيليوس الثاني" ) فقد أمر بسمل عيون خمسة عشر ألف أسير بلغاري بعد انتصاره عليهم، قبل ردّهم إلى أهلهم . (21)

وعرف العالم قديماً خصي العبيد، لاستخدامهم في خدمة النساء، داخل جدران القصور والبيوت، وكأنّ الحرص على عفّة النساء لا يتم إلا بخصي الرجال، وأن هذا الحرص يبرّر للأقوياء حق انتزاع الذكورة من هذه المخلوقات التي سقطت في الرق مسلوبة الحريّة .

وذكرت المصادر أن الملكة (تيودورا Xe "تيودورا" ) أرملة (بلدوين الثالث Xe "بلدوين الثالث" ) ملك القدس Xe "القدس" اللاتينيّة، أبّان الحروب الصليبيّة، كان في حاشيتها من الخصيان عدد غير قليل منهم، وأنها اصطحبتهم معها عندما عزمت على الاعتزال في دير القديسة حنة في القدس .



ولم يدخل نظام الخصيان إلا في عهد الوليد الثاني حفيد عبد الملك أي في عام 743 ميلادية، وكانوا يأتون بالخصيان إلى دمشق Xe "دمشق" من الإمبراطورية البيزنطية، ويبدو أن فرض العزلة على النساء، وإبعادهم عن مجالس الرجال، لم يقع إلا في العهد العباسي، حيث ساد الميل العام إلى اقتباس الأوضاع الشرقية . (22)

ونقل (دوزي Xe "دوزي" ) عن (لودرابرند) قوله: استخدم الأمويون في الأندلس Xe "الأندلس" الخصيان للخدمة في الحريم، ويؤتى بهم من فرنسا Xe "فرنسا" التي كانت فيها أسواق الخصيان الضخمة التي يصرّف أمورها اليهود، وأشهرها جميعاً سوق (فردان Xe "فردان" ) وغيره في الجنوب . (23)

واشتهر في عهد الحكم المستنصر Xe "الحكم المستنصر" كبيرا خصيانه: فائق، وجؤذر، حتى أنه لفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيهما، ولم يعلم أحد سواهما بنبأ موته، الذي آليا أن يبقى سرّاً مكتوماً حتى يتم الاتفاق بينهما على الخطّة التي يسلكانها، وهمّا بتنصيب المغيرة، عم الطفل هشام Xe "هشام" بن الحكم، قبل أن يتخلص الحاجب المنصور Xe "المنصور" منه . (24)

وتحدّث الدكتور حسين دويدار Xe "حسين دويدار" عن الصقالبة الذين دأبت القبائل الجرمانية المتبربرة والقراصنة على سبي الكثير من أفراد تلك الشعوب، وبيعها إلى المسلمين في الأندلس Xe "الأندلس" ، وعن تربيتهم العسكريّة، وتدريبهم الخدمة في القصور، وإدخالهم في سلك الجنديّة ليكونوا جنوداً في الحرس أو الجيش فقال:

وكان معظم تجار الرقيق من اليهود، ولهم معامل خاصّة للخصاء في أوروبا Xe "أوروبا" ـ وخاصة في فرنسا Xe "فرنسا" ـ ومن أشهر معاملهم فيها معمل (فردان Xe "فردان" ) بمنطقة (اللورين) وكذلك في الأندلس Xe "الأندلس" ـ وخاصّة في مدينة خلف بجانة عاصمة إقليم البيرة Xe "البيرة" ـ وكان معظم أهلها من اليهود ؛ وعليهم تقع تبعة هذه العملية الشنيعة التي يحرّمها الإسلام .

وذكر ابن حوقل Xe "ابن حوقل" : أن جميع من على ظهر الأرض من الصقالبة الخصيان من جلب الأندلس Xe "الأندلس" لأنّهم عند قربهم منها يخصون ويفعل ذلك بهم تجار اليهود .

وتحدث الجاحظ Xe "الجاحظ" عن الصفات التي يتميّز به هؤلاء فقال: والخصي أجود خدمة وأفطن لأبواب العطاء والمناولة، وهو بها أنفق، ولها أليق، ونجده أيضاً أذكى عقلاً عند المخاطبة، والصقلبي سلس القياد لبراءته من وعورة العصبية ؛ وأضاف قائلاً: إنهم لا يتقنون من الصناعات إلا صغارها، ويجيدون الضرب على الأوتار، وشبهّهم بالحمام الأبيض، وشبّه الزنج بالحمام الأسود . (25)

ثورة العبيد الأرقاء:

تعتبر ثورة (سبارتكوس المقدوني Xe "سبارتكوس المقدوني" ) بمقاييس الثورات إحدى أشهر ثورات العبيد على أسيادهم في أوروبا Xe "أوروبا" ، حتى أنها كادت أن تحطّم الدولة الرومانية، وكان شعارها تحرير العبيد .

وتحت وطأة عصا النخاس، وقساوة ظروف العمل في مزارع قصب السكر والكاكاو، واستبداد الرجل الأبيض، قام الأرقّاء بعدّة ثورات، فقد تمرد في جزيرة مالطا عام 1749م نحو عشرة آلاف رجل من العبيد المسلمين، استطاع (نابليون Xe "نابليون" بونابرت Xe "نابليون بونابرت" ) تحرير نحو ألفين منهم .

وفي البرازيل Xe "البرازيل" قامت ثورات دامية بين عامي (1807 ـ 1835) سقط ضحيّتها الآلاف من العمال الأرقاء.

وتمرّد القرامطة على النظام السياسي والاجتماعي القائم في القرن العاشر الميلادي، وقوّضوا جميع الحواجز، وقالوا بإلغاء الرق، وألقوا الرعب في جزيرة العرب Xe "جزيرة العرب" بأسرها، وفي مصر Xe "مصر" والشام والعراق العربي، وتصدّوا لقوافل الحجيج بالقتل، وقوافل التجارة بالنهب، وحاصروا مكّ Xe "مكة" ة ودخلوها عنوة، وقتلوا الحجاج Xe "الحجاج" في الحرم، وألقوا جثثهم في بئر زمزم Xe "بئر زمزم" ، وانتزعوا الحجر الأسود Xe "الحجر الأسود" من جدار الكعبة Xe "الكعبة" ، وضربوه بالنبابيت، ونقلوه إلى البحرين Xe "البحرين" ، فلما اغتنوا من النهب انهمكوا في الدعارة معرضين عن المبادئ التي وضعها زعيم مذهبهم مستحقين للازدراء .

وأثار الزنج وهم طائفة من عبيد إفريقية القلق والرعب في حاضرة الخلافة العباسية، وكان مسرح هذه الثورات الجامحة العنيفة التي دامت أكثر من أربع عشرة سنة هذه المستنقعات الممتدة بين البصرة Xe "البصرة" وواسط، وانضمّت إليهم جماعات من العبيد الهاربين من القرى والمدن المجاورة تخلّصاً من حالتهم، وكانوا لا يتقاضون من الأجر شيئاً، بل كانوا يقتاتون بقليل من الدقيق والتمر والسويق، مما جعلهم إزاء هذه الحالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة السيئة على أتم الاستعداد للخروج على ولاة الأمر فيهم . (26)

وبسبب التغاضي عن انتهاك حقوق المحرومين الذين أمر الله بمؤاخاتهم ورعايتهم داخل المجتمع الإسلامي، فقد أعطت الدولة العباسيّة رؤوس القرامطة والزنج الفرصة لاستغلال هؤلاء ودفعهم لارتكاب أعمال عنف حمقاء أشاعت الخوف والرعب والقلق في النفوس، تكبّدت الدولة العباسيّة خلالها مزيداً من الأموال والأرواح، وتعرّض أمنها الاجتماعي للخطر .

تحرير الرقيق:

وفي القرن الحادي عشر الميلادي، قلّ عدد الأرقاء بانتهاء عهد الفتوحات الكبرى، ودخول الصقالبة المسيحية، والأتراك الإسلام، وتقلّص عدد الرقيق الأسود بسبب إنتشار الإسلام بينهم .

وكان الإسلام على الدوام يحضّ المؤمنين على عتق العبيد، ويحسّن إطلاقهم، ويسميه منّاً وعفواً، ويعتبر العتق من أجلّ الأعمال، ويدعو المؤمنين إلى تحرير الأرقاء بأموالهم الخاصّة، ويجيز للأسير أن يشتري نفسه، وجعل لعونه نصيباً من أموال الزكاة، تنفقه الدولة من خزينتها، وجعل كفّارة ظلم المملوك أو ضربه إعتاقه، وندب عتق المملوك، وجعل تحريره كفّارة لجناية القتل الخطأ، والظهار، والحنث في اليمين، والإفطار في رمضان، وأمر بمساعدة من طلب المكاتبة من الأرقاء، وجعل في الرقاب أحد مصارف الزكاة، وحرّر أم الولد بعد وفاة سيّدها، وجعل حراً من ملكه ذو رحم محرم، وأوجب عتق العبد إذا أعتق جزءاً منه، أو إذا حصل الشرط الذي علق العتق عليه .

ويمكن تلخيص خطة الإسلام الحكيمة في معالجة هذه المشكلة الإنسانيّة على النحو التالي: فقد سد الإسلام منابع الرق وحرّمه سوى رق الحرب، ووسّع مصارف العتق، وصان حقوق الرقيق بعد الإعتاق .

وجاء الرسول يحثّ المسلمين على عتق العبيد وتحريرهم، ففي الأثر عن أبي هريرة Xe "أبي هريرة" رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً في النار، حتى يعتق فرجه بفرجه) . رواه مسلم .

ولم يكتف الرسول (ص) Xe "الرسول (ص)" بالحث على عتق الأرقاء بل كان عليه الصلاة والسلام قدوة في العتق، حيث أدى عن جويريّة بنت الحارث ما كوتبت عليه وتزوّجها، فلما سمع المسلمون بزواجه منها أعتقوا ما بأيديهم من السبي وقالوا: أصهار رسول الله (ص) فأعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق .

وأحصى صاحب التراتيب الإدارية ما أعتق رسول الله (ص) وأصحابه من الأرقاء، من غير عتقاء أبي بكر Xe "أبي بكر" الصديق، واحداً وثلاثين ألفاً وثلاثمائة واثنين وعشرين عبداً قد حرروا في صدر الإسلام . (27)

ولم تتوقّف حركة تحرير الرقيق على مستوى الخاصة والدولة في عهود الدولة الإسلاميّة، فقد اكتشف الأستاذ محمد حسن عواد Xe "محمد حسن عواد" ، أن تحرير الرقيق وحمايته فكرة عربيّة إسلاميّة وأن بطلها ملك عربي مسلم هو الخليفة الأموي سليمان Xe "سليمان" بن عبد الملك Xe "سليمان بن عبد الملك" ، وأنه حرر في يوم واحد ما لم يحرره ملوك مجتمعون في سنين متعددة، وأنه لم يقتصر على التحرير حتى اهتم بإيجاد أعمال حرة لهؤلاء المحرّرين تؤمن معايشهم، وتسلكهم في عداد إخوانهم من الآدميين المتمتّعين بحريّة العيش، وذلك بعد تأمين طعامهم المؤقت، وإعانتهم بالكساء، واتهم المؤرخين بالتقصير فقال: إن تأريخ العرب قص كثيراً من إبراز فضل هذا المحرر الكبير، إلى درجة أنه لم يكد يصله هذا الفضل إلا لماماً .

وقدّر عدد من حرّرهم سليمان Xe "سليمان" من العبيد والإماء بسبعين ألف نسمة، وقدّره البعض الآخر بأكثر من ذلك، وكان جده مروان بن الحكم Xe "مروان بن الحكم" ، أو الحكم بن أبي العاص قد أعتق سبعمائة عبد وجارية في يوم واحد . (28)

ذكرت بعض المصادر العربية أنه كان بالأندلس عند فتحها طبقة من العبيد ورقيق الأرض، رحّبوا بالعرب الفاتحين ليخلّصوهم من قيود سادتهم القوط، ثم اعتنق كثير منهم الإسلام، واستمتعوا في ظلال الحكم الإسلامي بحقوق دنيوية كانت محظورة عليهم، فصاروا يزرعون الأرض لحسابهم، ويؤدّون عنها خراجاً للدولة(29)

يقول المستشرق (ستانوود كب Xe "ستانوود كب" ) في كتابه (المسلمون في تأريخ الحضارة): لم يكن انتصار العرب مصاباً لإسبانيا، لقد قدم مزيداً من العدالة، والفرص لجمهرة الناس، وغدا أولئك الفلاحون الذين طالما كانوا أقناناً تحت وطأة الإقطاع السائد عند القوط الغربيين ملاّكاً أحراراً للأرض، وخفّضت قيمة الضرائب المفروضة عليهم فصارت العشر بدلاً من الثلث .

وتابع (ستانوود كب Xe "ستانوود كب" ) قائلاً: والحق أن عبء الإقطاع الثقيل الذي ظلت بقية أوروبا Xe "أوروبا" تتردى به في مهاوي العصور المظلمة قد تحرّرت منه الأندلس Xe "الأندلس" الإسلاميّة تماماً، مما كان عاملاً بارزاً في رخائها الزراعي . (30)

حرّر الخليفة العثماني عام 1830 كل العبيد البيض الذين هم من أصل مسيحي .

وأصدرت تونس قراراً بتحرير العبيد عام 1846 م وأصدرت حكومة المغرب Xe "المغرب" مرسوماً بتحرير الرقيق عام 1922م .

وعندما أصدر الرئيس الأمريكي (لنكولن Xe "لنكولن" ) إعلانه بتحرير الرقيق في أمريكا Xe "أمريكا" ، أشعل حرباً أهليّة بين شمال أمريكا وجنوبها، دامت أربع سنوات ؛ وعارض البيض الإصلاحات التي تقدم بها الرئيس الأمريكي (روزفلت Xe "روزفلت" ) وقام الرئيس (كيندي Xe "كيندي" ) بإصدار قانون إلغاء التمييز العنصري بين البيض والسود، إلا أن هذه الإصلاحات بقيت حبراً على ورق .

ولكن مما يدمي القلب أن يتحول الرق في أمريكا Xe "أمريكا" والغرب بعد إلغائه إلى تمييز عنصري بين أبناء الوطن، وإلى نظام طبقي مستغل، وإلى تعصب عرقي، وإلى فصل عرقي بين البيض والسود في الكنائس، والمدارس، والمطاعم، ووسائل النقل، وإلى إهمال شامل للمرافق العامة في أحياء الزنوج، وأن يبلغ التعصب ببعض المشرّعين الأمريكيين إلى القول ببطلان الزواج بين البيض والسود، وفرض السكنى على السود في أحياء خاصة بهم، وعدم جواز دفن السود في مقابر البيض.

* * * * *

المراجع :

1 ـ قرآن كريم، سورة النساء، الآية 36 .

2 ـ الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ص 281 آدم ميتز Xe "آدم ميتز" .

3 ـ النظم الإسلامية ص 465 د. صبحي الصالح Xe "صبحي الصالح" .

4 ـ حقوق الإنسان مدخل تاريخي ص 107ـ 117 د. محمود سلام زناتي Xe "محمود سلام زناتي" .

5 ـ بحوث في تاريخ الحضارة الإسلامية ص 169 إبراهيم أحمد العدوي Xe "إبراهيم أحمد العدوي" .

6 ـ حضارة العرب ص 408 غوستاف لوبون Xe "غوستاف لوبون" .

7 ـ أثر العرب في الحضارة الأوروبية ص 129 جلال مظهر Xe "جلال مظهر" .

8 ـ المدينة المنورة Xe "المدينة المنورة" عاصمة الإسلام الأولى ص 61 د. محمد السيد الوكيل Xe "محمد السيد الوكيل" .

9 ـ العسكرية الإسلامية في العصر المملوكي ص 18 أحمد محمد العدوان Xe "أحمد محمد العدوان" .

10 ـ الإسلام في مجده الأول ص 293 موريس لومبار Xe "موريس لومبار" .

11 ـ المسلمون في الأندلس Xe "الأندلس" ص 37 رينهرت دوزي Xe "رينهرت دوزي" .

12 ـ الإسلام في مجده الأول ص 299 موريس لومبار Xe "موريس لومبار" .

13 ـ حضارة العرب ص 377 غوستاف لوبون Xe "غوستاف لوبون" .

14 ـ الحضارة الإسلامية ص 96 عطية القوصي Xe "القوصي" .

15 ـ المجتمع الأندلسي في العصر الأموي ص 55 د. حسين يوسف دويدار Xe "حسين يوسف دويدار" .

16 ـ العسكرية الإسلامية في العصر المملوكي ص 19 أحمد محمد العدوان Xe "أحمد محمد العدوان" .

17 ـ معالم الحضارة العربية ص 58 أحمد عبد الباقي Xe "أحمد عبد الباقي" .

18 ـ حضارة الإسلام في دار السلام Xe "دار السلام" ص 98 جميل نخلة المدور Xe "جميل نخلة المدور" .

19 ـ فضل الحضارة الإسلامية والعربية على العالم ص 112 زكريا هاشم Xe "زكريا هاشم" زكريا.

20 ـ الأندلسيون المواركة ص 238 عادل سعيد بشتاوي Xe "عادل سعيد بشتاوي" .

21 ـ إمبراطورية العرب ص 437 جون باجوت جلوب Xe "جون باجوت جلوب" .

22 ـ امبراطورية العرب ص 224 جون باجوت جلوب Xe "جون باجوت جلوب" .

23 ـ المسلمون في الأندلس Xe "الأندلس" ص 38 رينهرت دوزي Xe "رينهرت دوزي" .

24 ـ المسلمون في الأندلس Xe "الأندلس" ص 85 رينهرت دوزي Xe "رينهرت دوزي" .

25 ـ لماذا تراجع العرب ص 98 أ.د. أحمد يوسف التل Xe "أحمد يوسف التل" .

26 ـ المجتمع الأندلسي في العصر الأموي ص 53 د. حسين يوسف دويدار Xe "حسين يوسف دويدار" .

27 ـ المدينة المنورة Xe "المدينة المنورة" عاصمة الإسلام الأولى ص 66 د. محمد السيد الوكيل Xe "محمد السيد الوكيل" .

28 ـ محرر الرقيق ص 115 محمد حسن عواد Xe "محمد حسن عواد" .

29ـ فضل الحضارة الإسلامية والعربية على العالم ص 317 زكريا هاشم Xe "زكريا هاشم" زكريا

30 ـ المسلمون في تأريخ الحضارة ص 63 ستانوود كب Xe "ستانوود كب" .



منقول