. عندما تنتظر من ابنك أن يغني أغنية لأمه, ثم تصاب بالدهشة بعد ذلك، لأنه يردد أغنية الأمس على التلفاز التي تدعو إلى شراء العلكة, أو أي شيء استهلاكي آخر, لابد من أن تفكر, ولو لحظة في خلفية هذا الموضوع, لأن أهميته تنبع من مسألة الوعي العقلي, والكثير من العادات والقيم, لتصل في نهاية المطاف إلى استنتاج أن وعي طفل اليوم أصبح مرتبطاً بثقافة استهلاكية أخرى
محمود، طفل في الثامنة من عمره, اعتادت أمه على صراخه اليومي, وتخريب الكثير من أثاث المنزل, وضربه المتكرر لإخوته دونما سبب, يجلس لساعات طويلة دون أن يحيد ببصره عن شاشة التلفزيون متجاهلاً نداء والديه المتكرر, فضلا عن توجيه العبارات السيئة لهما بسبب رفضهما شراء ما يرغبه، لاسيما الألعاب التي تروج لها الإعلانات المتلفزة.
سلوك محمود اليومي يشبه الكثير من الأطفال الذين أصبح لديهم إدمان على مشاهدة التلفاز وتقليد الإعلانات، بل أصبحنا نرى أن هذا الطفل يحلم بأن يصبح في المستقبل، سوبر مان، أو أحد مقاتلي سلاحف النينجا، وحسب التحليل النفسي للإنسان، نجد أن الطفل يبدأ باكتساب عاداته وتقاليده بل سلوكه اليومي مما يصادفه أمامه، فأي نعمة تحملها الإعلانات التلفزيونية الخاصة بالطفل لأجيال المستقبل؟ أم أن الأمر يتعلق بالوالدين؟.
¶ إهماله المتكرر
منال ( 30 عاما ، ربة منزل)، ترى أن هناك مشكلة حقيقية في التعامل مع طفلها الذي يبلغ من العمر سبع سنوات, وذلك بسبب إهماله المتكرر لوظائفه اليومية, ومكوثه الدائم أمام شاشة التلفزيون, ومتابعته الدائمة للفقرات الإعلانية التي ما إن يشاهدها حتى يبدأ بالإلحاح, والبكاء, والصراخ من أجل أن أشتري له ما قد رآه في الإعلان, والمشكلة تتفاقم عندما لا أستطيع تلبية كل ما يطلبه مني لأنها أشياء قد تكون غالية الثمن أو مضرة بصحته.
لكن سامر (40 عاما ، موظف)، يعتقد أن المشكلة تكمن في الإعلانات المقدمة على شاشات التلفزيون، ويقول: "نحن في النهاية لا نستطيع أن نمنع أطفالنا من الجلوس أمام شاشة التلفزيون, وتقييدهم بحضور برامج معينة, لاسيما أن الإعلانات مكثفة, ومن النادر أن تجد برنامجاً يخلو من فقرة إعلانية، فما الذي بوسعنا نحن كأهل أن نقوم به في ظل سيطرة التلفزيون وبشكل حتمي على حياتنا جميعاً, وليس على أطفالنا فقط".
¶ الوضع المعيشي
لكن ماذا سيحل بالأب، إذا رفض أن يشتري لطفله لعبة ظهرت في إعلان تلفزيوني؟ رامي (35عاماً، مهندس)، يقول: "ابني عمره ست سنوات يطلب مني الكثير من الألعاب التي تظهر في الإعلانات, وعندما أرفض طلبه بسبب وضعي المعيشي الصعب يتهمني بأني لا أحبه ويستخدم عبارات قاسية معي, وفي كثير من الأحيان كنت أضطر لكثرة إلحاحه أن أحقق له جزءاً مما يطلبه".
أما عامر ( 28 عاماً- موظف)، يرى أن أغلب الإعلانات لا تتطابق مع الواقع, ومحرضة لعقل الطفل من ناحيتين, الأولى تتضمن الكثير من العنف, والثانية تتضمن الإثارة, وغرس القيم غير الاخلاقية, وهذه الإعلانات لا تمثل إلا تقليداً أعمى للغرب ولوحظ أن معظم قنوات الأطفال لاتوجه الإعلانات إلى الأطفال فحسب، بل إلى جيوب الأهالي, ومضمونها فيه الكثير من السطحية, وغير مدروس بشكل جيد.
¶ نوع الإعلان
أصحاب الاختصاص يفسرون هذه الظاهرة بتقسيمهم الإعلانات إلى عدة أنواع، الدكتور أحمد الأصفر(باحث اجتماعي)، يقول: "إنه يوجد أنواع عدة للإعلان، الأول له تأثير سلبي على مستوى الاستهلاك بالنسبة للطفل مثل المأكولات, والألبسة, والألعاب, مما لا يتوافق, وظروف الأسرة المعيشية, وهذه الإعلانات تدفع بالطفل إلى البحث عن سلع, ومواد استهلاكية لها تأثير سلبي عليه, وما يترتب على ذلك من تعزيز الميل الاستهلاكي الترفي أحياناً، فيصبح التفكير لديه مشغولاً بما سيحصل عليه دون النظر الى ضرره. أما النوع الثاني من الإعلان وهو الأكثر خطورة من حيث العادات, والتقاليد المرتبطة بشغل أوقات الفراغ (مثل عرض بعض الإعلانات لألبسة لا تليق بمجتمعاتنا العربية مما يكسب الطفل رؤى, واعتقادات تخالف ماوجد عليه مجتمعه )".
إرشاد الطفل
السؤال الذي يبقى محلّ اهتمام الأهالي، ما الحل للقضاء على الظاهرة أو على الأقل التخفيف من أثر هذه الإعلانات ؟؟، يقترح الدكتور الأصفر حلولاً لذلك قائلاً: "إن حل هذه المشاكل يجب أن يبدأ من الأهل، لأن لهم دوراً مهماً في توجيه وإرشاد الطفل بطريقة تجنبه كل مساوىء هذه الإعلانات، لأن الإهمال فيها يعرض الطفل لمشاكل قد تفقده توازنه النفسي والعقلي والجسماني، فضلاً عن أنه يجب ألا نعتبر أن التلفزيون هو الملجأ الوحيد لتسلية الطفل، لأن الانغماس الكلي للأطفال في مشاهدة التلفزيون في العديد من البرامج قد يعلم الطفل عادات سيئة، كالتدخين، وتعاطي المخدرات، واستخدام العبارات السوقية في تعامله مع الآخرين، واستخدامه أسلوب العنف في التعامل مع زملائه، ومن يعيشون في محيطه الاجتماعي".
¶ الخطر المحدق
ما يؤكد عليه الدكتور الأصفر، ويصفه بالخطر، مسألة تسخير الأطفال للإعلان، وأن يصبحوا كدمية تحرّك وفقاً لأهواء وأمزجة المعلنين، في سبيل تحقيق غاياتهم، ويقول: "الأمر الأكثر خطورة هو استخدام الطفل في الإعلان، حيث أن لهذا تأثيراً سلبياً على الطفل المستخدم في الإعلان والطفل المتلقي، أما على مستوى الطفل المستخدم في الإعلان فهذا يعزز لديه قيماً تبعية وأخلاقية لاتتناسب مع استقلاليته، وتعيق تفكيره في بناء الشخصية المستقلة، لا سيما إذا طلبت منه أدوار تجارية، مثل الطفل الذي يمثل دور اقتنائه سلعاً غالية الثمن، فلا يستطيع من ثمّ الاستغناء عنها، أما بالنسبة إلى الطفل المتلقي فيتمثل الأثر السلبي في أن الطفل المستخدم في الإعلان يصبح قدوته، ومن ثمّ يصبحون أطفالاً غير مستقرين، ومن الطبيعي أن تكون هذه مشكلة".
¶ هيستيريا الامتلاك
أما تحليل هذه الظاهرة عند اختصاصيي علم النفس فشكل آخر، فالإعلانات قد تصيب الأطفال بهيستيريا الامتلاك، هذا ما أشارت إليه المرشدة النفسية شآم عباس، قائلة: "لاشك في أن الإعلانات التي تعرض يومياً على شاشة التلفزيون لها تأثير سلبي وكبير جداً على الطفل، فالأطفال يرون في هذه الإعلانات تحقيقاً لأحلامهم على أرض الواقع، وذلك يسهم في إثارة الخيال لديهم، فالإعلان الذي يتضمن مثيرات تتعلق بالألعاب مثلاً تصيب الطفل بهيستيريا الامتلاك، وتجعله مدمناً على اقتنائها دون أن يقتنع بفكرة رفضها أو تأجيلها، كذلك الإعلانات التي تقدم سلعاً غذائية، فهذا النوع من الإعلان له تاثير سيّئ على صحة الطفل، ومثال ذلك الإعلانات عن منتجات غذائية تحول الأطفال إلى أبطال لهم قوة خارقة، بالإضافة إلى خلق مشاكل بين الآباء والأبناء لعدم قدرة الأهل في بعض الأوقات على شراء كل مايطلبه هذا الطفل".
كل ما سبق له تأثير سلبي من نوع آخر مفاده قلب سلطة الآباء على الأبناء، تقول المرشدة النفسية: "ستخلق هذه المشاكل هوّة كبيرة في تعامل الآباء مع أبنائهم، فضلاً عن تبنّي الطفل أسلوب العنف في فرض مايريده وبالقوة، وابتعاده من ثمّ عن السلوك السوي والمتزن، وسيطرة السلوك المنحرف على شخصيته، وهذا من شأنه أن يعيق النمو العقلي والوجداني والكثير من المواهب، فالاستجابة العقلية عند الطفل سريعة، فبمجرد ظهور المثير أو المنتج تحدث الاستجابة الفورية لدى الطفل، فإذا كان الإعلان عن أحد الأغذية نجد الطفل وقد شعر بالجوع مباشرة، وغير ذلك من الإعلانات الأخرى".
¶ التربية السليمة
لكن ما الحل من وجهة نظر علماء النفس؟، تقول عباس: "الحل يتمثل في التربية السليمة للطفل التي تتطلب إكسابه أنماطاً استهلاكية تتسم بالاتزان، فضلاً عن أن استهلاك الطفل للمنتجات يجب أن يكون بالقدر الذي يفي بحاجاته الضرورية دون زيادة أو نقصان، وللأهل دور في ذلك لأنهم يمثلون قدوة لأبنائهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر الأسرة المعتادة على الاستهلاك العشوائي غير المنظم للعديد من المنتجات غير الضرورية قد تنقل بذلك عدوى التبذير إلى الطفل" .
وتضيف عباس أنّه يجب التقليل من عدد ساعات مشاهدة الطفل للتلفزيون، أياً تكن البرامج التي يراها الطفل، وأن يكون هناك بديل أقوى وأكثر تأثيراً، كتعويد الأطفال على ممارسة الرياضة، ومطالعة الكتب ..الخ، وبذلك نضمن وجود مثيرات أكثر إمتاعاً ينجذب إليها الطفل.
وجهة نظر
مما لاشك فيه أن التلفزيون يلعب دوراً مهماً في حياة المجتمع، سواء كان هذا الدور سلبياً أم إيجابياً، إلا أنه أصبح واقعاً حتمياً، هذا الغزو التلفزيوني ـ إن صح التعبير ـ الذي اجتاح غرف المعيشة، وتمكن من السيطرة على حياة أبنائنا، أدى إلى تغيير نمط حياة الكثيرين، ولكن يبقى فيه الأطفال الحلقة الأضعف، لأن التلفزيون يشكل مصدر اكتساب بالنسبة إليهم، كونه وسيلة من وسائل تمضية وقت الفراغ، ولا يخفى على أحد أن العديد من الإعلانات التلفزيونية وما تتضمنه من مواد لها تأثير كبير على سلوك الطفل، فهي تؤثر في فكره، وفي صقل العديد من القيم لديه.
وعلى الرغم من ظهور الكثير من القوانين التي تحظر على المعلنين استخدام الأطفال في إعلاناتها، وعدم عرض ما يضر بفكر الطفل من مواد تتضمن الإثارة والجنس والمشروبات الروحية... الخ، إلا أن الإعلانات التي تعرض يومياً على شاشات التلفزة لا توصف إلا بأنها خرق قانوني وأخلاقي للأعراف والتقاليد الاجتماعية، فمن المسؤول؟