مصطلحات ادبية: النقد السياقي..تحليل النص دون ضغوط خارجية
النقد السياقي: Contextual Criticism
شبكة النبأ: ليس النقد السياقي، في أساسه، سوى تسمية أخرى لما يعرف بـ النقد الجديد في الولايات المتحدة خاصة، أي النقد الشكلاني الداعي إلى قراءة النص وتحليله بمعزل عن أية عناصر خارجية ومن ضمنها النصوص الأخرى. لكن تبلور النقد السياقي في كتابات الناقد الأمريكي مري كريغر يشير إلى نوع من الانعطاف نحو مناهج نقدية ظهرت بعد النقد الجديد، أي إلى محاولة توفيق بين التوجه الشكلاني المتمثل بالنقد الجديد وما ظهر بعده، خاصة النقد الظاهراتي، أو الفينومينولوجي، والنقد الوجودي، ففي بعض كتابات كريغر (كما في مقالتيه: الأساس الوجودي) للنقد السياقي) و"التأمل، اللغة والرؤية في قراءة الأدب" يتضح أن المسعى الأساسي لدى النقاد الجدد مثل جون كراو رانسوم وكليانث بروكس، كان رومانطيقيا في أساسه من حيث هو ينتصر للخيال الإنساني ضد المد التقني العلمي، بعقلانيته الصارمة، وهذا المنحى الإنساني هو ما يربط النقاد الجدد، كما يقول كريغر، بالظاهراتيين وغيرهم من الداعين إلى نقد إنساني يهتم بتناول النصوص مستشعراً كونه تجربة ذاتية أو معايشة بين الذات من جهة وما تصوره النصوص الأدبية عبر اللغة، التي تتحول بدورها إلى وجود شفاف.
متعلقات
طرق نقد الفنون التشكيلية(1)
طرق النقد
هناك عدة طرق للنقد الفني المعاصر كما أورد (قزاز،1423هـ) ومنها:
1- النقد بواسطة القواعد والمعايير الخاصة بالقيمة وله ثلاثة أنواع (الطريقة الاستقرائية – الطريقة الإستنتاجية أو الاستدلالية – والطريقة التداخلية ) .
2- النقد الانطباعي أي هو الحالة النفسية للمتلقي أو الجمهور وله طريقتين ( الإعتناقية – الظواهرية ) .
3- النقد الشكلي وله طريقتين ( الطريقة النقدية الاكتشافية – الطريقة الوصفية ) .
4- النقد السياقي ويعتني بالسياق الذي ظهر فيه العمل الفني والظروف المحيطة به . وهو على طريقتين ( القصدي – المبني على سيرة الفنان ) (1)
خطوات النقد
يوضح لنا قزاز أن النقد يمر في مراحل وخطوات وهي :
1- الوصف وهو إجراء لعمل قائمة جرد لعناصر العمل الفني ، أو ملاحظة ما هو مرئي فيه مباشرة .
2- التحليل من ناحيتين ( شكلي – معاني ) . زمان الجاسم
3- التفسير وهي عملية إيجاد المعنى الشامل للعمل الفـني الـذي تعرض له الناقد بوصفه وتحليله شكلياً وضمنياً .
4- الحكم وهو إعطاء مرتبة معنوية أو قيمة مادية للعمل الفني مقارنة بأعمال أخرى مشابهة له أو من نفس الاتجاه والنمط .
المناهج النقدية في اتجاهين(2)
لست من المتحمسين لمنهج ثابت في النقد، مع أن هناك كثيرين يلحون علي وعلى سواي بالسؤال: أي منهج نقدي تبنيتم في هذا المقال أو ذاك؟
وقد زعمت ( بالمعنى الإيجابي ) أنني أنهج منهجًا وسطيًا يأخذ من الأكاديمي الدقة في الاستشهاد والحذر في الأحكام ، ويأخذ من الذوقي ذاتية جمالية أستشفها من خلال التجربة ، ولست أزعم أنني أشق طريقـًا في المناهج النقدية ، لكني أسلك دربًا يبعدني عن جفاف الأول وانزلاق الثاني ( انظر كتابي : عرض ونقد في الشعر المحلي، مطبعة الشرق- 1976،ص3
وعلى كثرة ما قرأت كتبًا تتناول المناهج النقدية المتباينة إلا أن مقالة نشرها الدكتور مرشد الزبيدي ( مجلة الأقلام العراقيه ، العدد 1-4/1997، ص26 ) وافقتني أو وافقتها – أصح-، فقد أجمل المناهج النقدية في اتجاهين : اتجاه سياقي حيث تدرس النصوص الأدبية في ظروف نشأتها والسياقات الخارجية لها ، والتأثيرات التي يتوقع للنص أن يؤثر فيما يحيط به، ويمكن أن يشمل هذا كل الدراسات النقدية التي لا تجعل النص الأدبي وحده مدار اهتمامها – أي أنها تتوسل بوسائل خارجية ليست من داخل النص نفسه .
ولعل الكاتب استقى هذا المصطلح السياقي " Contextual " من الناقد جيروم ستوليتر حيث تحدث عن الظروف والسياقات الخارجية عن النص.
ومن هذه المناهج التي تقع في دائرة السياقية أذكر بعضًا بإيجاز :
المنهج التاريخي:
حيث الاهتمام بالسياقات الزمنية للنصوص ومنتجيها بعيدًا عن الأحكام والمعايير التي ارتضاها الكلاسيون. ومن رواد هذا المنهج ( تين- 1828- 1893 ) الفرنسي . ومؤثراته الثلاثة هي : الجنس، البيئة والعصر .
المنهج الاجتماعي:
حيث يتساوق وما طرحته فلسفة هيجل ( 1770- 1831 ) التي ربطت بين الأنواع الأدبية والمجتمعات، وكانت الواقعية إفرازًا بينًا فيه، كما أن الماركسية تُداخِل فيما بين المنهجين التاريخي والاجتماعي.
المنهج النفسي:
وفيه الاهتمام بشخصية الأدباء ودوافع الإبداع؛ يرى فرويد ( 1856-1939 ) أن الأدب تعبير مقنع يحقق رغبات مكبوتة قياسًا على الأحلام .. هذا يعنى النقد بتفسير الأدب لا الحكم عليه .
وهناك من يضيف إلى هذا المنحى : المنهج السِيري ، الأيديولوجي، الوجودي، الفلسفي، الديني، الأخلاقي، الأسطوري، وغيرها من التسميات طرحًا ورؤية.
أما المنحى/ الاتجاه الثاني فهو النصي ( Textual ) حيث ينصبّ النقد هنا على دراسة النص بذاته، ويسعى إلى الكشف عن العلاقات التي تتحكم بها من غير أن تعير أهمية كبيرة للسياقات الخارجية ، ومن أهم هذه المناهج النصية :
المنهج الشكلاني :
أسسته عام 1915 حلقة موسكو اللغوية ، وكان ياكبسون ( 1896 - ؟ ) أنشط أعضائها ، حيث قال : " إن هدف علم الأدب ليس هو الأدب في عموميته وإنما أدبيته، أي تلك العناصر المحددة التي تجعل منة عملا أدبيًا ( انظر كتاب صلاح فضل : نظريه البنائية، ص23 ).
النقد الجديد:
وقد برز في أمريكا، حيث كان الاهتمام بالشعر من غير أي سياق خارجي ، وأبرز نقاده إيليوت ( 1888- 1965 ) ورتشاردز ( 1893-1979) وألن تيت ( 1899- 1979 ) ورنسوم ( 1888 – 1974 ) وبروكس ( 1906- 1990 ) وهذا الأخير تناول بمثابرة مسألة دراسة القصيدة واستيعاب شكلها الفني .
المنهج البنائي :
يرى صلاح فضل ( 1938 ) أن التعريف الأول للبنائية يعتمد على مقابلتها بالجزئية الذرية التي تعزل العناصر ، وتعتبر تجمعها مجرد تراكب وتراكم، فالبنائية تتمثل في البحث عن العلاقات التي تعطي للعناصر المتحدة قيمة وضعها في مجموع منتظم ( ن.م، ص195).
ويتفرع من الاتجاه النصي المنهج التفكيكي وهو بعكس البنائي، يقوض أولا البناء النصي ، ثم ينظر في المركبات من جديد لإعادة التشكيل والبناء ، وهناك المنهج اللغوي، والبلاغي، والألسني،والأسلوبي، ولا تتوقعوا مني الاستفاضة في هذا المقام.
لكني أعيب على بعض الباحثين ممن يتشبثون بمنهج ما من غير معرفة دقيقه بمركبات مادته، فالناقد اللغوي مثلا عليه أن يكون خبيرًا في نحو اللغة وصرفها وفصيحها وعاميها قبل أن يقرر هذه لغة عليا وهذه لغة وسطى ، وقبل أن يصول ويجول على حصان اللغة.
مجمل القول : في النقد اتجاهان سائدان : سياقي ونصي . وفي رأيي أن ليس هناك ضرورة للبقاء في خانة واحدة، فعلى الناقد أن يكتب كما يحس لا كما يتطلبه منهج - أيًا كان، يكتب كما تمليه عليه رسالة الكتابة ( Message ) ، إذ لا بد للنقد من رسالة، ولا بد من طرح أسئلة: لماذا النقد ؟ ومتى ؟ لأي شيء أصبو ؟ وأين ؟ وماذا أبغي هنا ؟ وكيف ؟ وإلا فإن الناقد – من غير رسالة - يهذي أو يعبث أو يتسلى، أو على الأقل يملأ صفحات " تدوخنا " بمربعات وأشكال وجمل أسهل علينا أن نفهم جملة باللغة الصينية من أن نفهم هذه
الصفحات .
إشكالية الخطاب النقدي... في ضوء جدلية الأصالة والمعاصرة(3)
يرتبط المنجز النقدي العراقي خلال العقود الثلاثة الأخيرة بالمنجز الابداعي بشكل مباشر (شعر.. قصة.. رواية.. تشكيل.. مسرح)، وقد أخذت الكتابات النقدية تتفاوت (صعوداً وهبوطاً) بما جاءت به من مؤثرات سياسية واجتماعية وفكرية..
عكست على المنجز ذاته.. فتضاربت الافكار والتوجهات الايديولوجية وخلقت تضادا مشحوناً على جميع الاداب والفنون، وأخذت تشق طريقها وفق أنفرادية (المنظر/ الناقد).. حتى اننا وقعنا في متاهات التقييم الحقيقي لعنوان الابداع ونقده..
وما ان ولدت اسماء كبيرة رسخت قدراتها في الساحة المحلية والعربية في العراق، انبثقت ادوات التعطيل او التأخير للعقل العراقي من خلال المواجهات الانهيارية التي تمثلت في (الحروب)، فالشعر الناضج والنص النثري المكتمل يسحب النقد الادبي والنقد الفني الى منطقة سليمة في عملية الطرح، وبذلك فتحنا باب الحوار النقدي امام نخبة من الادباء والفنانين:
د. محمد أبو خضير: (ناقد واكاديمي):
تشاغلت الثقافة العربية بشكل عام والعراقية بشكل خاص وطوال عقود حول وجود (جدوى وكيفية) الاخذ بالمناهج النقدية السياقية والنسقية الوافدة من منظومة (الآخر) في وقت كرست جميع المناهج بالقوة والفعل في فضاءات ثقافاتنا العربية تنظيراً وتطبيقاً/ نظرية ومنهجاً.
فمثلما شغفت عقود الستينيات والسبعينيات في الالتفات الى (رفاة) موروثنا الابداعي (مسرح/ رسم/ قصة/ رواية) ورفعه الى درجة المضاهاة.. والاسبقية والاجتراح مع خطابات (الآخر) المغادر ابدأً للذات العربية/ الاسلامية.. تتجدد ذات الدعوات والمؤتمرات وتوصيتها في تقليب (خزانة) الثقافة العربية وخطابها النقدي المناظر لـ (الآخر/ المهيمن).. ومحاولة التباري معه.
ونجد ذات النهايات التي انتهت بها محاولات البحث عن (الهوية) في النصوص الابداعية، حاضرة ومتنامية في خطابات (التتريث) وحجز الريادة النقدية، فثمة عراك لمشاطرة الاخر في خطاباته الحداثوية وما بعد الحداثوية، فاذا ما دشن (الاخر) منهجيته النقدية ودفع الى الفضاء النقدي مقولات نظرية وتطبيقية تخص (سيميائيته/ وتأويليته/ وبنيويته) تعجل قطار التعريج النازل الى (امصار) التراث عائداً بمحمولات التأصيل ودرجها في المشهد النقدي دونما مسندات نظرية، لذا بات العقل العربي منتجا للافكار (الواقعية/ السريالية/ الوجودية/ الالسنية) مع التحفظات المبطنة في درج الافكار الماركسية لطابعها المادي!! (وهذا له دور كبير في توجيه النقد الفكري الى ما وصل اليه).. والذات النقدية العربية ليست لها الا بنونتها للذات الجمعية في تقويضها لكل ما هو قائم خارج مدياتها الوجودية بيد أنها تضمر مفارقة ذاتية حين تعتاش في البدء على وجود (الآخر) لتنتفض عليه بعد اشواط المنفعية والتلذذ.. لتصحو رافعة معاول التهشيم لضرب مشتركاتها ومغذياتها الوافدة، ويبقى للذات النقدية خطاباتها وتوثينها للمرجع النقدي دون تساؤل جدلي، فما نقش في مسلات النقدي العربي القديم بشكل عام والنقدي العراقي بشكل خاص.. له مشروعيته في الانتعاش في مشهدنا النقدي الحديث، دونما تغيرات ملحوظة تذكر داخل سياق الاتجاه النقدي ذاته.. فما عرف عن الخطابات النقدية ذات المرجعيات الماركسية مثلا، انها في جدلية ذاتية/ موضوعية، فمقولات اللاحق تتجادل مع السابق لذا بات لنا واضحا تراتب آراء النقاد الماركسيين وفقا للمشهدية المعرفية (بليخانوف/ جدانوف/ لوكاتش/ ماركوز/ وليماز/ ايغتلون/ مدرسة فرانكفورت/ غارودي (قبل الاسلمة)).
ان للخطاب النقدي تجربته مثلما للخطاب الابداعي في تخطيه لمقرورات تقليدية سليلة.. عصور تاريخية بعدت تلك المقولات او تعايشت واياه، فالخطاب النقدي في تكوكب ومشهده (الابستمولوجي)، بل ان للمناهج النقدية اثراً في تشكل المشهد الابداعي والجمالي، ويحمل في ذاته بنيته الفنية والجمالية لتأكيد موازناته الابداعية/ المعرفية، باعتباره قراءة للقراءة، وليكون بعد موضوع رصد نظري/ تطبيقي وفق مسميات (نقد النقد) او (قراءة الخطاب النقدي)..
د. غالب المسعودي: (فنان وناقد).
ان سبل التصدي للخطاب الابداعي في ضوء جدلية الاصالة والمعاصرة من ناحية تنظيرية لابد ان يتوافر بمتسع من الوقت وفي صفحات واسعة للنشر، لكن في العجالة ستكون هناك عملية احتواء مختصرة من ناحية منظومية، كون الرجوع الى (الكوزمولوجيا) ـ زمن البدايات ـ لهو عسير رغم انه متاح لو تصورنا انه حلم او وهم. ان الماضي لحظة، والمستقبل دهر.. ونحن نعيش بين وهمين، لقد تكونت وتطورت حركة التاريخ والتنظير بفعل اسهام كبير قدمه مجموعة من المفكرين، والذي يحتوي وضعا معقدا قائما على وجود منظومة متعددة الاطراف، وكانت طروحات الاصالة والمعاصرة والحداثة.. والحداثة الجديدة قمة انزياحات ورأس الهرم الخطي لهذا التصاعد الدراماتيكي للحدث المؤجل في تضاعيف الاطر الحضارية، وكرس بذلك الهيمنة الشاملة لمجموعة من الخطابات، افرزتها (ايديولوجيات) متعارضة سحبت معها كل اشكال الصراع وان لم تكن بمنأى عن قانون التغايرات الاجناسية وقانون تثبيت اللحظة القدسية.. اذ أن ثمة قانوناً يسير كل عملية تكريس، وهو بحد ذاته عملية انتقال من حال الى حال او من مرحلة الى اخرى. فعندما يكون الظرف الموضوعي وهو خارج فعالية الذات غير مناسب لهذه المعادلة، سيكون هناك نوع من الحوار (المونوكرامي) الذي قد يجهز على المنجز الابداعي على مذبح العدم، لذا على المبدع الفنان ان يعمل على كشف الواقع التأريخي مميزاً اياه بدقة عن تفسير وتقييم التيار الارثذوذكسي، بالرغم من الاشكالات والصعوبات التي تنشأ عن ذلك، فحينما نستعيد في اذهاننا بداية متماسكة لكتابة تاريخ التحولات الكبرى بمداد الفن والفن التشكيلي بشكل خاص، والذي يجب ان يقترن بتوطيد اركان الخطاب الجديد وتخصيب الهوية بالحراك المعرفي الذي يمنح العمل الفني عنصر نماء دون تضبيب.. فجواد سليم من ناحية سيميائية تمثل هذه المعادلة الصعبة وانجز نصبه في ساحة التحرير، وكان عملا تفتخر به الحضارة ولم يكن الا شهيدا في محراب الفن العام.
وهو بالتالي نموذج في الانفتاح على الاصالة المتمثلة بركام تاريخي عظيم وهي حضارة بلاد الرافدين وما تمثله من تقنيات العصر، على الفنان ان ينشط كل الحواس كي يصل الى انسجام ما.. كانسجام البن واليانع في الرؤية الطاوية، وهو بذلك يخوض تجربة كلية.. وهنا لابد من الاشارة بأن الواقع التي يكتب عنها في الحاضر هي نتاج احداث وممارسات خطط لها في حقبة سابقة، ونعمل في ضوء عصرها.. وهذا ما يجعل الوصول الى النتيجة التالية امراً ضروريا ومشرعا يمثل الحصيلة الحضارية العامة، وهو بحد ذاته قد يبدو اشارة لوجود مفارقة بين الواقع العيني والاستخدام الطوبولوجي للرمز، فهناك من يسعى الى رفع التعمية عن الكلام وتجريد المرموز لاظهار المعنى.. والذي يؤدي بالتالي الى عقلنة المطروح والتي قد لا تخلو من تسطيح.. وعلى النقيض من ذلك هنا ما اصطلح عليه (ايتالوجيا) المعرفة التي تؤدي بالتالي الى تناقض ظاهري، ويكون تجاوزه وارداً حالما تتمثل امام الفنان طبيعة العلاقة بين الواقع والفكر عموما، فهذه العلاقة ليست بسيطة ومباشرة، وبالتالي فهي لا تتم على نمط الصورة المرآتية، بل تتطلب من الفنان، كي يحيط بأبعادها يقظة جدلية.. اي انها ستجسد الحصيلة الاكثر تماسكا وعمقا في التعبير عن الوعي التأريخي، والتي يستطيع الباحث فض اقنعتها واعادتها الى مصدرها الانساني..
في العالم لا يوجد تقدم يسير بخط مستقيم، لذا وفي نطاق المطروح المتقدم يمنحنا الشرعية بأن نقول وعبر النتائج التي يصل اليها (الفنان ــ المفكر) في تخمين واستقصاء الملامح البعيدة غير المباشرة لطروحات الاصالة والمعاصرة والخروج بحصيلة مستقلة عن الاحتياجات وبوصف هذه الاستقلالية نسبية نوعا ما.. يمكن ان نقول ان استلهام الاصالة وصهرها في اناء الحاضر هي كلية تمثل انجازاً بأوعية غاية في التقدم ذات كفاءة عالية محورها الفنان الاصيل.. (اذ ليس الجمال عذباً الا لشدة مرارته.. كما ان النعيم لا نحس به الا في اعلى درجات الوهم)..
ان لجدلية الخطاب النقدي الحديث يفتح لنا ابوابا واسعة في جميع الاختصاصات الادبية والفنية، ولكننا سنركز موضوعنا هذا في مجال التشكيل العراقي وما يحمله من حداثة موضوعية واضحة.. ولكي تكون هناك نهايات محددة، فأن تحديد الاتجاه الحداثي للخطاب النقدي الفني ـ حصراً ـ اجتاز حدود الاسلوب وخصائص الثبات.. انه لمن الصعب شرح مغزى الحداثة بعد ان ارتبطت بعوامل لا يمكن عزلها وتفكيكها الا بصعوبة قد لا تفضي الى اغناء البحث.. ان التجارب المعاصرة منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى مطلع الالفية الثالثة تترك وهما عميقا بعدد من الافكار والاراء.. انه وهم يماثل كل خبرة مستعارة لم تكتسب شرعيتها.
ولكن ما هو شرعي في الاسلوب والاسلوبية بعد ان شهد القرن الماضي سلسلة من التحولات والصدمات، بمعنى ان الباحث لا يتحكم بالمصائر وهو ذاته في عمق المتغيرات الابداعية في عملية الطرح النقدي الحديث.
ولكن ما الذي تتوخاه التقسيمات الاسلوبية لمراحل الابداع الفني وعملية طرح خطابها النقدي، خصوصا وان هناك عناصر مشتركة اكثر من المنظور التقليدي لدراسة اثار الفن، والنظر اليه نظرة زمنية متعاقبة... بدءاً بالتقسيم الذي وضعه نزار سليم او شاكر حسن ال سعيد، فالاول منح الاوائل سمة الريادة الزمنية وذكر اسماء مهمة في هذا المجال ثم جاء الرواد وما بعدهم. كما ان درس جماليات الابداع الفني بصفته يمثل مرحلة النضج في تاريخ التشكيل المعاصر في العراق، وكنت في كتبي قد أثرت المحركات السياسية والاجتماعية في دراسة الاجيال.. انها كانت بصورة عامة، تهمل اثر الزمن الاخر، المؤجل غالباً، واثره في الحداثة، فالاخيرة بالمنظور الذي ظهرت عليه، هي من صنع الضرورات والارادات البشرية، فحداثة الخطاب النقدي قاومت الغياب والمخفي وتوقفت عند الدلالة التاريخية، وسيكون مفهوم (التحديث) تعاقبيا وسرديا، له مقدماته ونتائجه، بعيدا عن الاحتمالات والفلسفات المغايرة..
لقد كان مرئيا وله اسبابه، كأثر الواقع الحضاري في الفن بكل تفاصيله السببية، كأثر الوضع النفسي والاحداث العالمية والمحلية، ومن النادر التوقف عند وثبات ومحركات مغايرة في صياغة الرؤية (وهذا بحد ذاته له تأثيره النقدي المباشر)..
ومن جانب آخر، لم تكن التجارب التي حصلت في الساحة الابداعية اكثر من مرآة لمسار متصدع ومقسم يسعى الى بلورة خصائصه عبر التجريب والفردية، وهو المسار الذي لا يغادر منطقه الزمني وعوامله التأريخية..
حتى ان في تجارب فاتحة الالفية الثالثة لا تمتلك مسوغات ان تكون صريحة، كما في الحداثات الاوروبية او عبر ما بعد الحداثة. لان الزمن الذي اشتغل عبرها لا يمكن ضبطه.. لكن هذا لا يلغي مفهوم الزمن الآخر، الذي يصر قوة فاعلى في التجارب بل كان الزمن التاريخي، او زمن المرئيات اكثر فعالا.. هو الزمن المستعار، القائم على انظمة لها حدودها وتقاليدها.. ومثل هذا المأزق ستكون له اثاره في وظائف الابداع (الفن)، وفي انشطاراته المتوالية، بيد ان الزمن الواقعي/ التاريخي، ضمن خطاب الحداثة السياسي لم يتوغل في مكونات النص ومفاهيم الفن بأنواعه كافة..
وبعيدا عن تفحص المراحل والحقب والعصور، فأن تعريف التقنية لا يمكن عزله عن المسيرة الخاصة بتاريخ الانسان وتاريخه الابداعي/ الفني..
لقد ولدت تجارب فنية خارج زمنها.. ولم تتحقق تلك التجارب الا لانها ولدت داخل زمنها، اوضح:ان الزمن لا يصبح الا مثل الجاذبية، او انحناءات الزمن (هناك ازمنة.. اي هناك تقاطعات في الانحناءات: زمن المجرة.. زمن الكوزرات.. زمن الثقوب السود، الخ) كلها كانت تتحرك داخل الوعي المقدس والاسطوري الذي رسم علاماته بعلامات خضعت للتحليل (والتحليل هناك يدخل من منظور نقدي)..
بيد ان اي عصر بفعل هذا المصير المتواصل للتقنيات له اثره ومميزاته، وهو الذي دفع بالتحليل الى اراء متباينة.. ووظائف تبدو مختلفة.. حتى صار اللا معنى او الشيء في ذاته او العلامة التي بلا دلالة.. الخ، معنى لهذا التداخل في الابعاد والاشكال والمخفيات، فهل كانت تجارب المبدع/ الفنان، تدرك انها بصدد مصائر اسلوبية تناسب هذه الوثبات؟.. ام كان الفن وهو يراقب عصر التحرر الوطني، يلقى ويولد بدافع الضرورات، بينما كان المبدع/ الفنان في اعماقه يتوقف عند قناعات راسخة.. او لا تقبل الدحض؟..
ولكن ما الذي تريد ان تكتشفه الحداثة في ظل التنظيرات النقدية وغيرها، وهي تكف ان تكون مستقلة في خصائصها، ومعالمها الداخلية، اليست هي نزعة مواكبة لمصائر اخرى على صعيد عصر مختلف.. لان نزعة الاستهلاك بما تتضمن من فراغات وفجوات غير مشغولة، مازالت مغرية وقائمة على التجريب، كما انها صارت لا تنظر الى الماضي الا بوصفها اثراً، او محركا مطموراً.. حذف.. او يتم حذفه في سياق بدايات بلا نهاية..
النص الأدبي والمساءلة النقدية - النظرية والمنهج(4)
لقد استطاع الانفجار النقدي الحداثي خلال العقود الثلاثة الأخيرة. أن يقلب الكثير من المفاهيم والمناهج التي سادت خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وأن يعيد صياغة الرؤية النقدية على ضوء جديد بفضل الكشوفات التي حققتها الدراسات الألسنية والسيميولوجية والأسلوبية في مجال النقد الأدبي والتي تمثلت في اتجاهات كالبنيوية والتفكيكية والهيرمنيوتيكية واتجاه نقد القراءة والتلقي والنقد السوسيولوجي الجديد وما إلى ذلك.
إنّ الاهتمام الكبير بمفهوم النص وعلاقاته المتعددة بدءاً بأدبيته وشعريته إلى العناصر الخارجية ما زال يثير كثيراً من الجدل والتركيز خصوصاً بما يتصل به من عناصر كالمرسل والمتلقيّ والتلقيّ والسيّاق والمرجع والتأويل والتناص والتفسير وباللسانيات، كما أثرى الممارسة النقدية بالمفاهيم والأفكار وخصوصاً في مجال الكتابة الشعرية. ذلك أنَّ الإعلاء من سلطة النص في ظلّ هذا المفهوم الواسع غير المحدَّد الذي ينفي كل إجناسية ينتج جنساً خاصاً بالنص الشعري المعاصر فيه كثير من المزالق التي لا يتفطن إليها كثير من الشعراء من خلال هدر طاقات شعرية حقيقية وتعريض بعض التجارب الشعرية إلى الاضطراب بسبب التفريط في قيم الشعر الجوهرية تحت ستار النص. بينما يدفع مصطلح النص الفضفاض بالقصيدة، الحديثة إلى متاهات خطيرة يمكن أن تفقد فيها أجناسيتها وبالتالي شعريتها وهو ما يمثل خطوة ارتداد على مستوى الشعرية- إلى الوراء وليس خطوة إلى الأمام.
هذا التنبيه من باحث وناقد يدلّ دلالة واضحة على أهم إشكالات الكتابة الجديدة التي واجهت النقد وجعلته يتخذ في أفضل حالات المواجهة موقع الوسط في الترحيب بهذا الجديد وفي الوقت نفسه إحاطة ذلك بنوع من الحيطة والحذر خوفاً على ضياع المألوف.
في الثقافة العربية المعاصرة وفي خطابها النقدي تتضارب المبررات والمسوغات في قراءة النص الإبداعي بين إقصاء المؤلف وقتله وبين الاهتمام به وبسيرته وحياته في الدراسة والتحليل كما قدمته القراءة السياقية وجعلته مدخلاً لفهم وتفسير العمل الإبداعي. وتقودنا الدراسة إلى البحث عن خطوط التقاطع مع الثقافة الغربية وأطروحاتها النقدية في مشروعية الاشتغال النقدي بما تقدمه هذه الثقافة من مقولات وخطابات لها مرجعيتها الفلسفية المشكلّة للعقل الغربي في واقع أنتج مسار التطور الطبيعي من قراءة لأخرى، قد لا نجد مبررات هذا الواقع في فضاء الثقافة العربية، ومن ثمّ تساءل عن دوافع ومسوغات القراءة النقدية. المعاصرة للإبداع العربي سواء السياقية منها أو النسقية بكل اتجاهاتها.
وماهي الإجابات التي قدمها الناقد العربي لتبرير انفتاحه إلى درجة الخضوع. لسلطة المفهوم الغربي للمنهج والإجراء التطبيقي؟.. وهل ذلك كان استيعاباً أم استهلاكاً؟ وماهي البدائل التي يطرحها للخروج من مأزق المساءلة التي أبانت عن كثير من الفجوات في الرؤية النقدية والتعسف في تطبيق المنهج النقدي تحت تأثير عدم التمثل الكامل لفلسفة المنهج وخلفيته المعرفية وعدم القدرة على تبييء المفاهيم والمناهج النقدية الغربية في حقل ثقافتنا العربية؟...
بعض الكتابات النقدية المعاصرة استنسخت الجانب التطبيقي وراحت تمارس عملها النقدي دون الوقوف على النظرية وظلالها وفلسفتها ومناقشة خلفياتها ومبررات نشوئها في مرحلة معينة من تاريخ النقد الغربي، وكأنّ ما توصلت إليه هذه النظرية من نتائج أصبح من المسلمات التي لا تناقش وإنما يكفي الاشتغال النقدي على النصوص الأدبية مهما كانت هويتها، فمثل هذه القراءات العربية لم تشترك في الجدل النقدي حول مسألة موت المؤلف وإنما اكتفت بتقديم تحليلاتها للنصوص خالية من الإشارة إلى مبدعيها وسيرهم إيماناً منهم بسلطة النص وعدم جدوى الالتفات إلى حياة المبدع تحقيقاً لقراءة نسقية.
وإذا رحنا نتتبع التأثيرات الثقافية والنقدية التي وقع تحت سلطتها كثير من النقاد العرب، فتباينت اتجاهاتهم في الممارسة النقدية ابتداء من العصر الحديث الذي سادت فيه القراءة السياقية بتعدد أبعادها ومستوياتها كما أشرت سابقاً نجد آثار هذه المناهج متسللة بشكل واضح في البنية الثقافية للنقاد الذين قرؤوا الأدب العربي قراءة إسقاطية، فكانت الدراسات التي أرخت للأدب العربي انطلاقاً من نظريات سانت بيف التي جعلت من حياة المؤلفين وانتماءاتهم وأعراقهم مرتكزاً في تحليل النصوص الإبداعية، وعلى هذا النحو سار جرجي زيدان في كتاباته الأدبية التاريخية، أما العقاد والنويهي فقد اتخذا من نفسية الأديب ومواقفه السلوكية متكأ في فهم العمل الأدبي تأثراً بالمنهج النفسي مما دفع بالناقد مصطفى ناصف إلى الدعوة إلى تحرير النص الأدبي من الظلال النفسية لصاحبه: الاهتمام بالشاعر أو الإنسان له مخاطر جمة، وبعض الدارسين –مثلاً- يعنيه من أمر بشار إيمانه أو إلحاده، ويعود فيقرأ الشعر من أجل الإجابة عن هذا السؤال. حقاً قد يكون في هذا الشعر ما يثير السؤال عن إيمانه، ولكن اهتمامنا، بالشعر-أولاً- سوف يجعله أكبر من مجرد الإجابة عن أي سؤال من هذا القبيل وليس ضرر العناية بحياة المؤلف، وعقائده مقصوراً على إهمال الشعر من حيث هو شعر، ولكنه يتجاوز هذا كما وضحنا إلى خلط الشخصية وظروفها بالأحكام التقييمية.(1).
وفي هذا القول إشارة إلى إقصاء المؤلف، وإن لم تكن دعوة صريحة فإنّ آثار التأثر بمقولات النقد الغربي جلية وخاصة في تفريقه بين المقاربة النصية والقراءات السياقية، غير أنَّ الدعوة الجديدة إلى الأسلوبية التي اعتمدت في التحليل على حياة المؤلف، انطلاقاً من تلوّن الأسلوب بملامح شخصية الكاتب، وبالتالي يمكن تصنيف مثل هذه القراءة ضمن الإطار العام للقراءات السابقة، والتي تعاملت الوثيقة. مع النص/ أما الناقد عبد السلام المسدي المتأثر بالبنيوية الأسلوبية فقد رأى في النص الأدبي وإن كان وليداً لصاحبه، فإنّ الأسلوب هو وليد النص ذاته، لذلك يستطيع الأٍسلوب أن ينفصل عن المؤلف المخاطب، لأن رابطة الرحم بينهما حضورية في لحظتي الإبداع والإيقاع، وهذا المنظار في تحديد ماهية الأسلوب يستمد ينابيعه من مقومات الظاهرة اللغوية في خصائصها البارزة ونواميسها الخفية(2).
لم تنتظم الممارسة النقدية العربية المعاصرة بشكل كامل في وعينا النقدي والثقافي وإنما انتزعت من أسيقتها المعرفية، وجرّدت من خلفياتها الفلسفية، ودخلت إلى حقل النقد كأدوات وطرق إجرائية، فمقولة موت المؤلف في التفكير العربي وليدة التأثير الغربي في الثقافة النقدية العربية، هذه الثقافة التي احتفت بالإنسان وأولته العناية الفائقة في الدراسات بمختلف موضوعاتها بوصفه محور الكون بعد الإرادة الإلهية، أما في الثقافة المعاصرة فإن هذه المسألة تبقى في مجال التساؤل وخصوصاً في الدراسات التي اهتمت بالجانب التنظيري.
ومن الدراسات التي احتضنت فكرة موت المؤلف رأت في الأعمال الإبداعية التي بقي مؤلفوها مجهولين خالدة وعظيمة، وغيابهم رسّخ حضور أعمالهم، هذا الغياب ينسي جانباً هاماً أ ثناء القراءة التي تبقى مفتوحة على التأويلات دون الخضوع لسلطة التوجيه المسبق من خلال البحث عن هوية المبدع. ومن هنا بدأت الثقافة النصية تجد طريقها إلى نقدنا المعاصر مع التأثر بأعمال رولان بارت ونقاد مابعد البنيوية الذين أشاعوا مفهوم الكتابة الذي يقصي أي علامة خارجية ويكتفي بذات النص وبالقارئ بدلاً من الكاتب.
وإلى جانب المثاقفة النقدية، كانت المبالغة في تأكيد الصلة بين المبدعين وأعمالهم بشكل لا يخلو من تعسف، وبدون دوافع حقيقية تمت إلى الإبداع بصلة قرئت الأعمال الأدبية تحت سلطة تأثير حياة مبدعيها في هذه القراءة النقدية، إلى جانب المبرر السلطوي المؤسساتي الذي أقلق الشاعر بإكراهات الإغراء أو الإقصاء مما جعل الشاعر يختار التخفي والغياب ضماناً لحريته الإبداعية، ومن هنا كان موت الشاعر في الثقافة العربية أمراً واقعياً.
وقد كانت الإبدالات التي تحققت في بنيات القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة كالتخلي عن شعر المناسبات أزاح حضور الشاعر والإعلان عن هويته وإنما كتبت القصيدة للقارئ العنصر الحاضر في بنائها ولا قيمة لمبدعها الذي أشرك في عمله صوت قرائه، وهنا يتحقق موت المؤلف الذي يعرّفه إلياس خوري بقوله: شيء يموت وينقرض، علاقة غامضة بين الذي كان واحتمالاته، وهو لذلك لا يتكلم عن نفسه إلا في اللحظة التي يلغي فيها ذاته، ولا يكتب إلا حين ينكتب في النص المفتوح الشارع(3) الملقي في مع جماعة الديوان يختلف تلقي المتن الشعري الإحيائي عن التلقي في النقد الكلاسيكي، الذي وجد في حياة المؤلف مطية لتأكيد شعرية النص وبالأحرى تفوّق الشاعر وعبقريته إذ كان الشاعر مقدّماً على شعره ومن ثمّ اتجه هذا النقد إلى إلحاق الألقاب بالشعراء كأمير الشعراء وشاعر النيل و.. فكان رد فعل نقد جماعة الديوان استجابة لهذا التلقي السياقي، فانعطف بالدراسة نحو النص بحثاً عن جمالية الشعر دون أن يأبه بالشاعر في كثير، وليس ذلك تقليداً لأطروحات النقد البنيوي في الثقافة الغربية، فإن النقد العربي كان متقدماً عليه ولكن بمبررات أخرى ودوافع أملتها السياقات الثقافية العربية لا علاقة لها بالخلفية المعرفية للنقد البنيوي، وبهذا المفهوم فإن النص الخالد والحداثي بخاصة، ليس في حاجة إلى أب يمنحه شهادة الميلاد، ويعلن انتسابه إليه، وينفي عنه أن يكون لقيطاً، ويدفع عنه تهمة التهجين(4).
وفي المؤلفات التي اهتم أصحابها بجمع ما أبدعته قرائح الآخرين دون ترك لمسات من قرائحهم تتجلى فكرة موت المؤلف الذي يهمش ذاته أثناء الكتابة ليفسح فضاءها للآخرين، وهذا ما يؤكده الناقد أدونيس الذي يرى بأنّ فكرة موت المؤلف قضية دخيلة لا مبرر لها في ثقافتنا النقدية العربية بل على العكس من ذلك فحضور الإنسان بارز في تراث هذه الثقافة وفي أدبياتها الروحية بالخصوص التي تمجّد منزلة الإنسان العالية في الوجود. يقول أدونيس: الإنسان جوهرياً أعظم من ماضيه وحاضره، لأنه خالق لمصيره يضع نفسه –باستمرار- ويصنع العالم كذلك باستمرار..(5).
وباعتدال في الرؤية النقدية لم ينسق الدكتور عبد الملك مرتاض وراء الطرح الغربي لمقولة موت المؤلف، بالرغم من تبرّمه من القراءة السياقية التي أبعدت النص الأدبي عن عناصره الجمالية وأغلقت أمام النقد مجالات رحبه للمساءلة التي تثري القراءة النقدية وتغني النص في حدّ ذاته، فبقدر ما يدعو إلى استقلالية النص الإبداعي نراه يعطي للمؤلف مكانته في العملية الإبداعية إدراكاً منه لخطورة الانسياق وراء أطروحات النقد البنيوية في هذه المسألة التي لا تجد مسوغاتها الفلسفية في ثقافتنا العربية، ومن جهة أخرى فهو يدرك خصوصية السند الثقافي العربي كمرجعية في إعطاء المؤلف حقه في العملية الإبداعية والنقدية على السواء. يقول: فالمبدع سيد إبداعه وصاحبه لا ينازعه فيه مجتمع ولا زمان، ولا بشر على الرغم من إيماننا بفكرة التناص(6).
ونفس الاتجاه يدعمه الناقد فاضل ثامر الذي يؤكد على انتماء النص الأدبي إلى صانعه وأن مقولة موت المؤلف ليست سوى مغالطة نقدية غير متماسكة أبداً، فالنص الأدبي ظاهرة معقدة مرهونة بمجموعة من العوامل السوسيولوجية والتاريخية والسيكولوجية والثقافية معرض حديثه عن الممارسة(7). وفي السياقية التي لا يمكن اختزالها إلى عامل واحد النقدية أثناء مواجهتها للنصوص الأدبية، ويرى أنَّ العملية النقدية يجب أن تتحرك بيقظة ومرونة بين مختلف مقومات الظاهرة الأدبية وعناصرها وبشكل خاص بين المؤلف والنص والقارئ –دون أن تهمل السياق والشفرة وقناة الاتصال- من أجل استخلاص الرؤيا الإبداعية للنص أو للمبدع وأنّ أية معالجة مغايرة سوف تسقط لا محالة أسيرة الفهم الأحادي القاصر والنظر بعين واحدة.(8).
التناص هذا المصطلح الذي عمق من مسألة قتل المؤلف وإقصائه انطلاقاً من تعريف النص بأنه مجموعة من النصوص المتداخلة فيما بينها، لا وجود لبداية أولى في الكتابة الإبداعية، ولا وجود لكتابة تبدأ من نقطة الصفر، فالنصوص سابقة للنص ومتداخلة فيه مما يزيح سلطة المؤلف ويلغي ادعاءه بانتماء النص إليه أو تبنيه. فالتناصية Intertextualite تذهب إلى أن فهم النص يحتاج إلى الرجوع إلى عشرات النصوص التي سبقته، وأسهمت في خلقه ودور القارئ ينحصر في عملية الاستحضار لمجموع النصوص المتداخلة مع النص المقروء، وتبرز فاعلية القراءة في إحالتها على قراءات أخرى سابقة عليها وفق جدلية الغياب والحضور بين الدال والمدلول.
تباينت الرؤى في الكتابات العربية المعاصرة حول قضية موت المؤلف وخصوصاً التي آمنت بالمنهج البنيوي إلى درجة تبني الموقف المعارض، نجد في دراسة الشعر الحداثي ما يؤكد هذا التوجه، وعلى هذا النحو نلفي ديزيره سقال وهو يقارب نصاً شعرياً حداثياً يصرح: إننا لا نؤمن بفصل النص عن الذات، أو التاريخ على النحو الذي قال به البنيويون. وينطلق ماجد السامرائي من الخلفية الحياتية(9) للشاعر السياب وهو يدرس شعره قائلاً: نستطيع فهم روحه القلقة، كما نستطيع فهم تطورات شعره، وتحولاته على نحو يهدينا إلى أغوار تجاربه، ويساعدنا على تفسير إبداعاته تفسيراً دقيقاً وصحيحاً، وبالتالي يمكننا من التعرف على الركيزة الأساسية لحياته الشعرية(10).
في النقد الأدبي العربي الحداثي برزت النصانية التي اتخذت من تحليل النصوص منهجاً بديلاً عن البنيوية، كما نجد ذلك عند الغذامي الذي يتبنى هذه النصوصية انطلاقاً من النقد الألسني، ويتوسل التشريحية كأداة إجرائية في مقاربة بنية النص الداخلية، وقد برّر الغذامي موقفه ودافع عنه إلى درجة تبرير مسألة المثاقفة مع النقد البنيوي الغربي بأنها تمتلك مشروعيتها لأن الإبداع عمل إنساني وتبقى مهمة الناقد منحصرة في تبييء المصطلحات الوافدة إلى ثقافتنا حتى تأخذ دلالات جديدة. فإقصاء المؤلف من العملية النقدية هو تأكيد على النصوصية وليس البنيوية كما يرى ذلك الغذامي، فالنصوص هي التي تفسر بعضها ومن ثمّ وجب إبعاد العوامل، الخارجية عن النص، فالسياق الخارجي لا يمكن أن يحدد علاقات النص الداخلية لأن النص قد تجاوز هذا الخارجي، ومن ثمّ فقد تحرر منه، واستقل عنه بوجود جديد ينبني عليه عالم جديد(11).
ومما تقدم تطرح جمالية التلقي سؤالها حول التفاعل في القراءة –متى يصير فعلاً-؟.. حينما تندمج ذات القارئ بالمقروء وينتقل النص إلى شعوره يكون بذلك قد عبّر القارئ عن تفاعله، وتحققت لديه متعة التجاوب مع النص في عملية اللعب بشبكة نسيجه اللغوي والبنائي، وبهذا يساهم فعل القراءة في تحريك أشكال المعنى تبعاً للمتحكمات التي تجعل فعل القراءة لا ينجز مرة واحدة ومنها العاملان الأساسيان القراءة بوصفها إجراء تواصلي وتتعدد في فترات تاريخية، فهي قائمة –على التعدد والاختلاف، فهي تقتضي أفعالاً متعددة.
أظهرت التحليلات في مجال نظرية القراءة أن الظروف النفسية والاجتماعية –والبواعث التي تحيط به هي التي توجه القارئ أثناء القراءة، فهي التي تنشئ الاختلاف من قارئ إلى آخر، وتعطي للقراءة مستويات.
وانطلاقاً من ثنائية الذاتي والموضوعي في علاقة القارئ بالنص الجمالي اقترحت وهذا جمالية التلقي مفهوم Intersubjectivité التأكيد دور الذوق والذاتية التذاوتية في عملية التأويل تأثراً بفلسفة هو سر الذي يتبنى قصدية المعرفة، ومن هنا يستند المتلقي على تجربته الجمالية في فهمه للعمل الأدبي.
إن ما تدعوه جمالية التلقي بالتذاوتية هو مفهوم مرادف للتأويل في نظر –ياوس-، وعليه فإن القارئ قد ينفي استعداداته الفردية في فترات لاحقة من قراءة النص وأن تأويلات القارئ مرتبطة بأفقه وبحاضره الحاضر في النص.
وعليه فإن التفاعل المتولد من التحام النص بقارئه، فإن الواقع نتيجة لهما فهو يمثل الإضاءة التي تنير معاني النص كما يرى ذلك ياوس، وبالتالي يحدث التقاطع بين أفق النص وأفق تجربة القارئ ومن هذا التقاطع يتحقق الواقع.
ومن خلال جدلية المقول والمسكوت عنه في النص يكابد المتلقي معاناة السؤال والاكتشاف فهو ينتقل من مستوى التجربة المماثلة حينما يستعيد تجربة المبدع ويتمثلها وكأنه وجد نفسه في النص، ثم ينفتح على أوقاع أخرى تتوالد من مساحات البياض أو الفراغ الباني والتي تجعل المتلقي في توتر وقلق السؤال.
مفارقة السياق نحو حراك ثقافي جديد(5)
ثمة حراك آني يستوعب هذا التغير في مفهوم العمل الثقافي من التخصص إلى الموسوعية ، ومن العلمية إلى المعرفية ، ومن المتن إلى الهامش ، ولكننا مازلنا ننظر بكثير من الحذر لهؤلاء الوافدين إلى الثقافة من حقول غير مرسمة أو متخصصة ، فثمة تاريخ هائل من الترسيم الثقافي نجح في نقل المفهوم من السطح إلى العمق ، ومن العمومية إلى التخصص ، بحيث يبدو لنا أن مفارقة هذا السياق بمثابة قفزة إلى فراغ مخيف .
لقد تركت النظرية الأدبية ورائها تاريخاً من العلمية يطمئن إليه الناقد ، ويمنحه يقينا باذخاً ، ومع البنيوية التي ادعت قدرتها على تفسير العالم وصلت النظرية الأدبية إلى أوج مركزيتها وانشغالها بذاتها عن مواكبة الحراك الإبداعي الذي يتخلق يومياً في صياغات مجتزأة تحدوها رغبة واحدة .. وهي مفارقة السياق ، في حين ـ وياللمفارقة الساخرة ـ سعت البنيوية إلى إحكام الحلقة العلمية على النص الأدبي وإخضاعة للقوالب النقدية التي تخضع بطبيعة الحال إلى فكر سياقي .
لقد أنشأ السياق العلمية ، وأنشأت العلمية طريقتها في تفسير الأدب ، لقد كان هذا واضحا في ذهن (مورس بكهام) بصدد كلامه عن (مشكلة التفسير) يقول بكهام : (يبدو واضحا لي أن التفسير التاريخي للأدب مبني على غرار العلم ، على معيار التفسير ، وأن الأثنين متلاقيان ثقافياً ، ينبثقان من جانب التفكير السياقي).
أما( بول ريكور) فيرى أن ثمة خطورة تستوجب الثورة على التفسير السياقي ، وعلى العكس من ذلك يدعوا إلى تفاسير متعارضة لا تستند إلى مركز ، أو نظرية ، مشيرأ في مقال له بعنوان (تعارض التفاسير) إلى أن الشكلانية النقدية الجديدة والشكلانية البنيوية دفعتا الدراسات الأدبية الحديثة إلى مأزق مماثل لمأزق الفلسفة ، وهو مايشير إليه (هيدجر) بأنه اللاهوت الغربي من أفلاطون والقديس توما الآكويني حتى هيجل ونيتشة والعلم الحديث إنه المأزق الميتافيزيقي ،حيث ثمة جوهر سابق على الوجود يشكل مركزاً أو معنى يمكن الرجوع إليه ، ولكنه يعتقد أن البنيوية وإن شكلت إنجازاً هامًا للفكر الغربي ، إلا أنها في نفس الوقت تبدو( نهاية للتقليد الأدبي الغربي ،) ، ومن بعدها يكون التفكيك هو الصيغة التي تمثل تاريخاً جديداً يبدأ من نقطة انطلاق أولى نحو قهر الميتافيزيقا ، أو بتعبير آخر ، (تاريخ يضع الأدب في خدمة الوجود بدلاً من أن يضع الوجود في خدمة الأدب) إن هذا المعنى الظاهراتي في عبارة (ريكور) ، يرفض وبشكل واضح هيمنة المعنى العميق على الخطاب الأدبي ، ذلك الذي لايحظى به سوى ناقد من جنس الآلهة ، ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا ، أن تفكيك المركزية البنيوية ، مطلب ظاهراتي ، كما هو مطلب لكل النظريات التي تتابعت بعد البنيوية .
لقد لفت البنيويون ـ أنفسهم ـ الانتباه إلى ما وصلت إليه النظرية من عماء يستوجب إزاحته ، كحالة قصوى من حالات التفكير العلمي المركزي ، ومن ثم يلتفت (رولان بارت) إلى أن النص الأدبي يتأبى على التفكير المركزي (لأن النص ليس سطراً من الكلمات يطلق معنى (لاهوتياً) واحداً (رسالة ـ المؤلف) بل حيزاً متعدد الأبعاد فيه مجموعة منوعة من الكتابة ، ليس منها ما هو أصلي يتآلف ويتحالف ، النص نسيج من المقبوسات المستمدة مما لا يحصى من مراكز الثقافة).
لقد حسم الأمر عند (بارت) بإعلان موت المؤلف (المركز) ، ومنح القارئ فرصة أكبر في إنتاج الدلالة ومن ثم النص ، وبظهور دور القارئ في إنتاج النص بدأ دور الناقد المتخصص كما بدأت النظرية الأدبية نفسها في التداعي ، ولكن ذلك مشروط بدور حقيقي وراسخ في المعرفة الجمالية للقارئ ، ليكون قادراً على الاستجابة إلى علاقة حوارية مع النص تشبه العلمية ، على نحو ما يوضح هانز روبرت جوس في (التاريخ الأدبي بوصفه تحدياً للنظرية الأدبية) ، وهو دور يمكن أن يقوم به المثقف العام بوصفه ذاتاً وقارئا ، غير أن هذا الاحتراز بمشابهة العلمية لن يكون له مكان في اتجاهات النقد النسائي ، بل ثمة إعلان واضح من جانب النسوية عن رفضها للنظرية والعلمية ، باعتبارهما تجسيداً فكرياً للغرور الأكاديمي ، ونزوعاً إلى مركزية ترسخ لخطاب ذكوري سلطوي ، ومع ذلك فالخطاب النسوي يواجه نقداً حاداً ليس فقط في الأوساط التي مازلت تتمسك بالنظرية ، ولكن ـ أيضاً ـ في الأوساط المناهضة لها ، لما يتضمنه الخطاب النسوي من نزوع إلى خلق مركزية نسوية بديلة ، تحكم على المؤلفين والنصوص بمقدار مسايرتها للأيديولوجيا النسوية . ومن ناحية أخرى فالنسوية في موقفها المعادي لأشكال السلطة تعبر عن موقف سياسي أكثر منه نقدي .
فعندما بدأت أولى المحاولات في اتجاه نظرية نسوية ، قوبلت بتحفظ خشية تكريسها لوضع قائم ، غير أن النساء يوضحن تصورهن عن مفهوم (النظرية) ، ويشرن إلى الاختلاف عن المفهوم التقليدي التي قامت عليه البنيوية ـ مثلاً ـ فالمفهوم لا يوغل في العلمية والتخصص على نحو ما هو قائم ، وما تطرحه نظرية (صور النساء) يتميز باقتراح رئيسي هو (الموثوقية) وهو مفهوم مستعار من الوجودية خاصة (هيدجر) ، الذي قصد بها ، أي شخص يمتلك وعياً نقدياً محدداً ذاتياً في مقابل الهوية الذاتية المنتجة جماعياً أو المكررة ، إن مفهوم الموثوقية في (صور النساء) ليس فكرة عائمة أو انطباعية ، بل هي تأكيد على ذات تملك وعياً تأملياً نقدياً شبيها بالعلمية ، فالموثوقية لا تلقي بالا للخطاب النظري العلمي في حد ذاته بل في صياغته الأخلاقية من حيث تضمن العلم على ضمير إنساني ، ومن ثم تكون الأولوية ليس بالقيمة العلمية للنقد بقدر ما هو لتفهمه للموقف النسائي ، وهو مفهوم يواجه نقدا من قبل (كتابات النساء) إذ أن تمسح النقد النسائي بالموثوقية في نظرية (صور النساء) يبدو كاستجداء للمركزية الذكورية ، كما أنه يركز فقط على تحسين صورة النساء في الخطاب النقدي الذي مازال ذكوريا ، في حين تسعى الكاتبات النسويات ، إلى التصدي على أساس سياسي للأيديولوجيا التي تحكم بنى السلطة ، التي هي جوهرية بالنسبة إلى الجماعات التفسيرية التي يسيطر عليها الذكور . ومن ثم يبدأنَ في شن حرباً ضارية على كل أشكال السلطة والهيمنة السياسية والثقافية على السواء ، ويرفضن بشكل مباشر الأدب بوصفه مؤسسة والنقد بوصفه طقوساً على نحو ما تقول (ليسلى فيدلر) بكثير من السخرية المرة ، (نحن جميعاً نعرف أن الأدب هو ما نعلمه في أقسام اللغة الإنجليزية ، وداخل تلك الدائرة التحديدية المغلقة نؤدي الطقوس التي نخرج بها المدعين التافهين من صفوفنا ، وندخل خبراء حقيقين ، حماة للمعايير التي ينبغي أن يحكم بها على كل أغنية وقصة ) .
وتشير إليزابيث إ ميس ، إلى ملاحظات ميشيل فوكو القيمة ، عن جوهر المشكلة الفكرية ، فالمشكلة ليست تغيير وعي الناس أو ما في رؤسهم ، بل تغيير النظام السياسي الاقتصادي المؤسساتي لإنتاج الحقيقة .
وملاحظة فوكو تربط بشكل واضح بين أشكال السلطة وهو ما أشرنا إليه مسبقاً بمبدأ (تعاضد السلطات) ، وترفض أن تظل الثقافة رهنا للنظام المسؤسساتي ، وتؤكد (اليزابيث) على أن ملاحظة (فوكو) مباشرة عن أولئك الذين يعملون خارج المؤسسة النقدية الأدبية ، ثم تضيف (وجلي أن أولئك المستبعدين من شروط القيقة هم أنفسهم الذين يدركون وجوه القصور في الأنموذج ، ويجربون معنى الإلحاح المطلوب لتوجيهه)
لقد أصبح جلياً أن المعرفة تسعى إلى تحرير نفسها من أشكال السلطة كافة ، وترفض الروح القبلية التي تجعل من الآباء المقدسين مرجعاً وحيداً لها ، أولئك القادرين وحدهم على أن يوفروا لها الحماية النبيلة باعتبارهم ملاك الحقيقة المطلقة .
صلة النقد العربي بالتلقي(6)
بدأ النقد العربي صلاته بالتلقي، منذ الإرهاصات الأول التي تشكل عندها النقد. فإذا كان نقد النصوص مرافقاً للشعر، فإن التلقي مرافق للإثنين. فتاريخ النقد وتاريخ الشعر يرافقهما تاريخ للتلقي. وهذه بديهة يشهد بها الأدب ويلهج بها النقاد لكن تكوين إطار معرفي يستند إليه التلقي بصفته ظاهرة لصيقة بالنص حدث بعد أن تطور المفهوم الأدبي والنقدي وظهرت كتب النقد ومصنفات البلاغة وأصبح التبليغ والإبلاغ والتبيين والبيان من قضايا النقد الجوهرية، فكنه الظاهرة الكلامية وهي مادة الأدب (ابلاغيه بلاغية) إذ تشير ظاهرة التلقي إلى استيفاء المعنى الأدبي واستخلاصه من النصوص. وكيفية تلقي النص وأثر النصوص في نفوس متلقيها هو جوهر القضايا النقدية بل هو جوهر الأدب، فللنص مواضعاته وله صفاته وطرقه في التبيين والاستمالة وللمتلقي مواضعاته أيضاً وله طرقه في فهم النص واتخاذ موقف منه ... وله أيضاً استعداد نفسي إن قل أو ضعف قل التأثير أو انعدم .. لكن كلا من الشاعر والمتلقي يضمهما نظام بياني واحد، هو البيان العربي .. وإن هذه المرجعية توجد قطعاً تفاهماً بين الطرفين، يجعل أحدهما في حوار دائم مع الآخر، لا سيما حوار المتلقي الذي يستجيب للنص، ينفعل به ويتأثر. فليس المفهوم الجمالي وحده هو من تضع البنية البيانية العربية نفسها من أجله، بل يقف معه المفهوم القيمي وهو يحث على الفعل وينسجم مع التغيير. ويمكن تلمس المهام الدقيقة لنظام البيان هذا منذ البوادر الأول لنشأته ونفاذه في العقل والوجدان. وحين يمتلك هذا النظام منطق الوجود الكلي الذي يتبلور في الرؤية الحاثة على الفعل، يكون للعاملين الأساسيين (النص والمتلقي) هيمنة أساسية لا شكلية، وإذ وجد مسوغ يسمح باقتران الكاتب والنص على أساس العلاقة الوثيقة بينهما وعلى اعتبارات أخر تمس جوهر الظاهرة الأدبية، فإن نظام البيان بُنيَ على ثلاثة أسس هي الشاعر والنص والمتلقي، تحمل كلها هيكل البناء، ويمثل المتلقي الركيزة الأولى فيها ... فما صفات هذا المتلقي الذي شكل ركيزة البيان؟
ليس نظام البيان العربي نظاماً استطرادياً، يعنى بوضع قواعد ويطالب بتطبيقها فقط .. وإن حالة البيان ليست من الأشياء المتحصلة في الفكر التي يمكن الإمساك بها والتصرف على وفق ما تتيحه من إمكانات، وليست هي أيضاً بالغائبة التي تتسامى في علو مطلق وتترفع عن كل ما يبصر ويجسم .. بل هي نتاج العقل حين ينزع نحو الوحدة والتنظيم وهي نتاج الوجدان، حين يجعل لهذه الوحدة لوناً وذوقاً وجمالاً. وإمكانات العقل لا تحد وإمكانات الوجدان ممتدة ما امتدت النفس البشرية في نوازعها وطموحاتها وأفقها غير المحدود.
وإذا كان نظام البيان ممتداً في جانبيه العقلي والوجداني فكيف يحد المتقبل أو المتلقي بنظام غير محدد أصلاً؟ وليس هنا موضع إشكالية معينة في الفكر، لأن الإشكالية توجد حين لا يوجد جواب شاف يستجيب لسؤالها .. ولكنها مواضعة فكرية أثبتها نظام البيان العربي وفصلها وأوجد لها حيزاً في كتب النقد والبلاغة .. فالمتلقي هو الكائن المحدود في مواجهة نظام واسع الآفاق مطلق الإمكانات .. وأمام حرية المتلقي في تقويم النص تقف حدود اللغة. التي تجمع النص والمتلقي في حيز واحد محدد الأبعاد .. وطبيعة اللغة محددة لأفانين القول ولولا هذا التحديد ما اجتهد الأدباء في سلسلة طويلة من طرق المجاز والعدول .. كل ذلك خروج على التحديد، وهو مع ذلك موصول بإمكانات اللغة .. لأننا لا نستطيع إلا أن نصف أنواع الخروج هذه باللغوية، إنه خروج على اللغة وعودة إليها في الوقت نفسه، وتنويع لا يلغي الأصل ضرورة .. فالمتلقي إذاًَ هو المطلق من حيث الفكر المحدد من حيث اللغة، وبين الاطلاق والتحديد يتشكل فعل التلقي ويتجلى الحوار المطلوب مع نصوص الأدب. وإذا كان لنظرية التلقي خصوصية في إطار نظام البيان فإنها خصوصية وردت إليها من الاستعمال، فقد أوجد النص القرآني فضاء جديداً من التعامل بين النص والمتلقي .. حقاً لم يخرج النص المعجز على كلام العرب ولكنه ليس امتداداً له، فقد أثبت في الذاكرة السامعة والقارئة نظاماً في استعمال اللغة، وطريقة جديدة في الإصغاء حين يكون القرآن مرتلاً، وفي القراءة حين يكون مقرؤاً .. طريقتان في التلقي ظلتا تلازمان النص المعجز طوال العصور، ولا تجور إحداهما على الأخرى، مهما تعددت وسائل الكتابة وكثر القراء، ومنح النص القرآني متلقيه حرية في اكتشاف دلالاته المتجددة، فوسعت هذه الحرية لذة الاكتشاف لدى المتلقي فالأساليب اللغوية المستخدمة وإن أصبحت معطاة بفعل ثباتها في النص، غير أن التمعن فيها كل حين يضفي عليها جدة وديمومة، لأن معانيها ممتدة إلى غير نفاذ. فالمتقبل في التراث النقدي هو الذي قرأ القرآن وسمع تلاوته وأدرك جزءاً من جمال الصياغة فيه، وهو مَن أدرك معنى حرية القراءة في مواجهة نص أعجز الخليقة عن الاتيان بمثله، فهو ليس مستهلكاً للنص بل عنصر مفكر فيه. لقد أوجد القرآن هذا النوع من التلقي إذ يوقظ الوعي وينبه الفكر إلى جملة من الأساليب الجمالية، التي تضفي على السياق خلابة أخاذة ... فالمطلوب أن (يتمعن) المتلقي في كلمة الله، ليترسخ الإعجاز في نفسه وليكون قبوله القائم على الوعي واعمال الذهن طريق الهداية الصالحة القويمة.
وأول خطاب وجه إلى المتلقي هو خطاب الاعتبار المسمى بالنصبة وهو واحد من الدلالات الخمس التي ذكرها الجاحظ. فهي الحال الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد، وذلك ظاهر في خلق السموات والأرض وفي كل صامت وناطق وجامد ونام، مقيم وظاعن، وزائد وناقص، فالدلالة التي في الموات الجامد، كالدلالة التي في الحيوان الناطق. فالصامت ناطق من جهة الدلالة والعجماء معربة من جهة البرهان، ولذلك قال الأول (سل الأرض فقل: مَن شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً، أجابتك اعتباراً لقد أصبحت أشياء الكون واسطة لإيصال رسالة إلى المتلقي ليتمعن في جوهر الأشياء الماثلة أمامَه وحقيقة وجودها وموجدها، فإن باعثها هو الله سبحانه، فأساس خطاب الاعتبار إذن أعمال العقل وتحريك الفكر فالمتلقي كما أريد له أن يكون، رابطاً الأسباب بالنتائج موصلاً الظواهر بأصولها، فالنصبة ((أداة تواصل تحمل رسالة صامتة أو خطاب بالحال .. ومصدر الرسالة وباثها هو الله خالق العالم، ومتلقيها هو الانسان الذي يتأمل الكون من حوله فيستخلص منه وجوه الحكمة الإلهية)): من صور التوجه القرآني نحو المتلقي التي تثري النص وتزيد غناه المعرفي وأثره الجمالي قوله تعالى: (ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ... ) وقوله عزوجل: (كلا لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم .. ) فقد ترك الجواب لأنه من شأن المتلقي، فكأنه قال ((لكان هذا القرآن)) وكأنه قال في الثانية: ((لأقلعتم عن باطلكم أو لتحققتم مصداق ما تحذرونه)).
فالمتلقي السامع للقرآن والقارئ له هو الذي شكل دلالة الجواب، لقد أبقى نص القرآن الكريم الجواب مفتوحاً وإن أوحى به خير ما يكون الإيحاء .. أراد أن يبقي للمتلقي دوراً وافقاً يشكله بنفسه كي يتواصل ويتمعن ويُغذ السير في استجلاء معاني النص .. ونستطيع أن نضع عدداً من الأجوبة في صياغات متعددة وفي إطار المعنى السياقي الذي أساسه التصديق بوعد الله والتحذير من تجاوز حدوده سبحانه.
وقال عزوجل: (وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها). يلاحظ أن حذف الجواب وضع المتلقي في أقصى حالات الترقب والانتظار وهذا الترقب قائم على موحيات لفظة (الجنة)، أبوابها ورياضُها وثواب العابدين الذين يدخلون جماعات ليتلقوا وعد الله لهم بالخلود ... لقد شحذ النص القرآني خيال المتلقي وأيقظ ذهنه، ليتواصل مع النص ويدرك مغزى الجواب المحذوف ((وإنما يحذف الجواب في مثل هذه الأدوات المقتضية الجواب لقصد المبالغة، لأن السامع يترك مع أقصى تخيله بتقديره أشياء لا يحيط بها الوصف)).
إن تقدير الوصف ترك للسامع والقارئ، ولو شاء المرء أن يرى الجنة من خلال الأوصاف والنعوت التي خص بها القرآن هذا الموئل المقدس لما خرج بتصور واحد معين، بل بتصورات عديدة تحاول كلها الإحاطة بهذا الوعد الإلهي، فالمتلقي في القرآن هو ذلك الذي يعمل الفكر لكي يتحصل المعنى تحصيلاً ويستخدم طاقة الخيال لرؤية ما يوحي به النص. فالتوجه نحو المتلقي إذن وجه من وجوه الإعجاز في القرآن، وهي حقيقة مهمة انتبه غليها أبو سليمان الخطابي (388هـ ) حين قال: (قلت في إعجاز القرآن وجهاً آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا رع السمع خلص إلى القلب من اللذة والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر منه النفوس وتنشرح له الصدور حتى إذا أخذت حظها منه، عادت مرتاعة قد عراها من الوجيب والقلق ويغشاها الخوف والفرق تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها) وأورد الخطابي دليلاً على كلامه هو اسلام عمر بن الخطاب (رض)، ومن أسبابه سماعه لأخته وهي تقرأ سورة طه.
إن هذا التوجه نحو المتلقي ميزة خاصة وسمة من سمات النص القرآني الكثيرة، وهو يتجلى في مخاطبة الأنبياء (ع) للأقوام الخارجة عن الإيمان فأسلوب الحوار وطريقة التخاطب التي يستخدمها الأنبياء وما تتضمن من أبعاد نفسية وجمالية، تحمل المتلقي على الإنصات لقوة المحاجة العقلية ووضوح البينة، فيقف متأثراً مفكراً في الكلام نفسه وفي أبعاده القصية التي تظل لصيقة بالذاكرة، قال تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً إن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يكُ كاذباً فعليه كذبه، وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب).
يكشف النظر في هذه الآية الكريمة نوعاً خاصاً من توجه النص نحو المتلقي، ذلك المتعلق بالإقناع والتأثير، والحوار والدليل البياني واستمالة المتلقي بلطف، على الرغم من الحجة الواضحة، التي يضعها النص أمام المتلقي .. وفي النص القرآني هذا، نوع من التحذير ورد بصورة لطيفة سهلة يقتضيها السياق، إذ لم تبدأ الآية بالتحذير بل بالحث على الرؤية والتفكير والتمعن .. أما السؤال الذي استخدم حرف الاستفهام (الهمزة) فقد ترك دون جواب، لأن الجواب مضمن فيه وعلى المتلقي إخراجه، وقد يقود هذا التساؤل إلى التوبيخ من نية القوم في قتلِ رجل لمجرد قوله ربي الله، وبعد أن أخذ النص من المتلقي انتباهه كله، عضد ذلك بالنصيحة الصادقة وهي إغراء المتلقي للتمعن من جديد في جوهر الآية، أي إنكم إن عدلتم عن القتل فإن النفع أكيد، بينما القتل ليس فيه إلا الضرر. قال ابن الأثير معلقاً على هذه الآية: (ألا ترى أحسن مآخذ هذا الكلام وألطفه، فإنه أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم فقال: لا يخلو هذا الرجل إما أن يكون كاذباً، فكذبه يعود عليه ولا يتعداه أو يكون صادقاً، فيصيبكم بعض الذي يعدكم إن تعرضتم له. وفي هذا الكلام من حسن الأدب والانصاف ما أذكره لك، فأقول إنما قال (يصيبكم بعض الذي يعدكم) وقد علم إنه نبي صادق وإن كل الذي يعدهم به لابد وأن يصيبهم، لا بعضه لأنه احتاج في مقاولة خصوم موسى (ع) أن يسلك معهم طريق الانصاف والملاطفة في القبول، ويأتيهم من جهة المناصحة ليكون أدعى إلى سكونهم إليه).
ولعل ما جرى من ميل القول والحوار بين إبراهيم (ع) وأبيه، حين دعاه إلى الإيمان، يوضح المنزلة التي وضعت للمتلقي في التنزيل الحكيم، فضلاً على نمط الخطاب الذي يأخذ بعين الاعتبار موقع الأبوة والبنوة وإن كان الأب غير مؤمن، فإن الكلمات أفعمت بعاطفة قوية، عاطفة الابن، إبراهيم، وإدراكه مقدار الخطأ الذي انساق غليه أبوه، إنه أولى الناس بالهداية فقد رتب القول على وفق طريقة فائقة الدقة، ووضع المتلقي بسبب هذا النظام الخاص في القول أمام سياق يشد الانتباه ويهز العقل ويذهب عميقاً في الوجدان، وقد سدّت أمام المتلقي بسبب تتابع الكلمات الكريمة كل حجة، فأصبح في مواجهة هذا الانسياب الجميل في اللغة. قال تعالى: (واذكر في الكتب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً. إذ قال لأبيه: يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً. يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً. يا أبتِ لا تعبد الشيطان. إن الشيطان كان للرحمن عَصياً، يا أبت إني أخاف أن يمسّكَ عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً) وقد أضفى حرف اللين والمد (الياء) المفتوح والمطلق على النص بعداً يأخذ بمجامع القلوب ويتجاوب مع نظام التتابع في الكلام والانتقال من حالة قولية إلى أخرى لها علاقة وثقى بها .. فبين العلم الذي ورد على إبراهيم وبين أتباع أبيه له علاقة وثيقة، يضمها نظام الكلام القرآني أما نهايات الآيات فقد تجاوبت مع المعنى الكلي العام فهي من خلال صورتها اللفظية الموحية، تخاطب أعماق النفس ومكامن الوجود لأن خطاب إبراهيم لأبيه ما كان إلا عبرة ومثلاً.
ويلاحظ مقدار احتواء هذا النص الكريم على اللين والرفق لا سيما تكرار حرف النداء والمنادى، ليصنع معادلاً في ذهن المتلقي بين دعوة الناس إلى الله ومنهم أبوه والخلق الرفيع ولتظل الذاكرة على مدى العصور يقظة تربط بين علم الأنبياء وأخلاقهم، وقال جل شأنه في أهل الجنة: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذا الذي رزقنا من قبلُ وأتوا به متشابهاً). فقد قال المفسرون: (إنما كانت ثمار الجنة مثل ثمار الدنيا في اللون دون الطعم، لأن الإنسان إذا ظفر بشيء من جنس ما سلف له به عهد وتقدم له معه ألف، ورأى فيه مزية ظاهرة وفضيلة ثابتة وتفاوتاً بينه وبين ما عهد بليغاً، أفرط ابتهاجه واغتباطه، وطال استعجابه واستغرابه، وتبين كنه النعمة فيه وتحقق مقدار الغبطة به. يضع هذا التفسير للنص القرآني الكريم المتمعن فيه أمام عنصر مهم في مجمل عملية التلقي ألا وهو المفاجأة، فقد أشار النص إلى قيمتها في الإحساس باللذة وإن تحقق ذلك في الطعام عند أهل الجنة ... ولو نقلنا ذلك إلى النص فإن عنصر المفاجأة لا يقل تأثيراً عن الأول، وقد انصرف التفسير كما هو واضح إلى شمولية الظاهرة لوم يقصرها على الحدث الذي وردت فيه. والله أعلم بالطبيعة البشرية. وهو الذي وسع علمِه السموات والأرض، فالاستغراب والغبطة علامات فرح المتقبل وإقباله، فإذا تحقق ذلك في النص، كان مدعاة للتفاعل بينه وبين المتلقي. إذن المزية هي في الجديد الذي لم يؤلف ولم يسبق به عهد .. والمفاجأة تكسر الاعتياد والرتابة وتقود قطعاً إلى الجدة .. ويلاحظ خصوصية التركيب الجمالي في القرآن الكريم التي تعني المتلقي أولاً وآخراً، مثل قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر) وهو أبلغ من قوله فاعمل بما تؤمر وإن كان هو الحقيقة كما يقول أبو سليمان الخطابي: (والصدع مستعار وإنما يكون ذلك في الزجاج ونحوه من فلق الأرض، ومعناه المبالغة. أمر به حتى يؤثر في النفوس والقلوب تأثير الصدع في الزجاج ونحوه ... فالمعاني التي لها وقع في النفوس هي المعاني المقصودة في نظام البيان العربي، وأوجد النص القرآني طريقاً مفضياً إليها بوسائل البيان، وبالعوامل المكونة للنص، فلا غرابة إذن أن يسمي حازم القرطاجني المعاني التي ليس لها وقع في نفوس الجمهور بالمعاني الدخيلة (( ... والصنف الآخر وهو الذي سميناه بالدخيل لا يأتلف منه كلام عال في البلاغة أصلاً، إذ من شروط البلاغة والفصاحة حسن الموقع من نفوس الجمهور)) ونتوقف عند عبارة (حسن الموقع) التي أشار إليها حازم .. فهي تعني فيما تعنيه الإحساس بالجمال، فما كنه المسألة الجمالية في النقد العربي؟؟ إن المتلقي هو الذي يكتب النص من أجله ويتوجه به إليه، وهو الذي تعنيه قيم النص الجمالية، ولكن الجمال في النقد العربي ليس الشعور باللذة فقط، فهذا الشعور جانب واحد لا يتكامل المفهوم الجمالي به وحده. وقد تكونم يزات الخطاب الشكلية كافية لإحداث اللذة، ولم يكن هذا منزع النقد العربي ولا الفكر العربي في فهمهما للقيمة الجمالية. إذ أن جمال النص يشكله عاملان أساسيان حققهما ابن طباطبا في عيار الشعر، وأحسب أن النقد العربي قد تمثل هذين العاملين، وتفحص أثرهما. قال ابن طباطبا في إشارة إلى العامل الأول: (( ... فالعين تألف المرأى الحسن وتقذى بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب ويتأذى بالمنتن الخبيت، والفهم يلتذ بالمذاق الحلو ويمج البشع المر)). فهنا إدراك لفاعلية الحواس وأثرها في تمثل الإحساس الجمالي، فالحاسة هي التي تستمتع بآثار الجمال .. غير أن هذا العامل يبقى دون اكتمال حتى يتحقق العامل الثاني، ويمكن فرز هذا العامل وتشخيصه من كلام ابن طباطبا نفسه في أثر الجميل وهو أن ((يسل السخائم ويحل العقد ويسخي الشحيح ويشجع الجبان)) وإذ يرتبط كلامه الأول باللذة والمتعة الجمالية الخالصة ينصرف كلامه الآخر إلى الحث على الفعل. قطبان أساسيان يشكلان جوهر القيمة الجمالية عند العرب. وجوهر الخطاب الأدبي (شعراً كان أم نثراً)، إذ تتركز العناية بالمتلقي انطلاقاً من هذين العاملين.
إن توجه النقد العربي نحو المتلقي، وعنايته بالأدب الذي يشكل المتلقي بعداً من أبعاده ويشارك في صوغ أثره الجمالي يضعنا أمام عدد من المبادئ الأساسية التي تصح مدخلاً لتلمس حقيقة الجهد النقدي في جانبه المتعلق بالتأثير .. نشير هنا إلى أربعة من المبادئ التي لها دلالة على إيضاح القصد النقدي وما ينطوي عليه من فهم واستيعاب وتجل للظاهرة الأدبية في جانبيها الأساسيين الإنتاج والتلقي .. وهذه المبادئ نوجزها كما يلي:
1 ـ الصواب وإحراز المنفعة:
يمكن اعتبار هذا المبدأ أحد مصادر التلقي عند العرب، قال بشر بن المعتمر: ((مدار الشرف على الصواب وإحراز المنفعة)). يلخص هذا القول اتجاهاً دقيقاً ومهماً في النظرية النقدية والبلاغية عند العرب، إذ أن القصد الحقيقي من الخطاب الأدبي هو توجيه المتلقي إلى فعل شيء أو تركه. وهذا الهدف الأساسي الذي أثبته الجاحظ يلتقي مع مجمل الهدف الفكري في القرآن الكريم، فإذا كان هدف التنزل هداية البشرية إلى طريق الحق والصواب وهو فعل، فإن القول القرآني مدل عليه، بل هو إياه، وبذلك يمكن القول إن المنازع القولية عند العرب هي منازع فعلية، وقد التقط بشر هذه الحقيقة مستفيداً من الإرث الثقافي واللغوي الذي سبقه ومستشرفاً فيه ما سيأتي، فالفعل هو الهدف النهائي والأخير لكل قول أدبي أما الفن فهو المتضمن في هذا القول إذ يشكل مع الفعل أساس بنيته التكوينية. فكلامه الذي نعده أحد المداخل المهمة لنظرية التلقي، يشير إلى جانبين مهمين أحدهما مؤد إلى الآخر: الأول شروط إنتاج الخطاب الأدبي، إذ ينبغي أن يتحقق فيها الصواب والثاني مآل هذا الخطاب وغاياته.
2 ـ بروز الشيء من غير معدنه:
هذا المبدأ ((بروز الشيء من غير معدنه)) أولاه النقد أهمية متزايدة لا سيما أبو عثمان الجاحظ وعبدالقاهر الجرجاني. وله علاقة وثيقة بمفهم اللذة الأدبية وكيفية إيجادها في النص ومن ثم تأثيرها، لأن مفهوم اللذة متعلق بمفاهيم عدة قريبة هي الجدة، الاستطراف، التعجب، المفاجأة. فهي التي تحدث الاستجابة الجمالية لأن ((الشيء من غير معدنه أغرب، وكلما كان أعجب، وكلما كان أعجب كان أبدع)). ويبدو أن هناك نوعاً من التناقض بين المفاجأة التي هي العنصر المهم في تقبل النص والروية وإدمان النظر. يقول عبدالقاهر: ((من المركوز في الطبع إن الشيء إذا نيل بعد الطلب له أو الاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه، كان نيله أحلى وبالمزية أولى، فكان موقعه من النفس أجل وألطف وكانت به أضن وأشغف)). والمفاجأة تساعد على اكتشاف النص وطاقة الإيحاء فيه، وهذا الاكتشاف عماده الروية وإعمال الذهن. فالمفاجأة إذن هي محصلة لمباشرة النص بالنظر والتمعن. والنقد العربي ممثلاً في الجاحظ وعبدالقاهر قد اطمأن إلى أن بروز الشيء من غير معدنه هو الصيغة الفضلى للنص ليحقق التأثير، وهذا الذي ذهب إليه النقد قائم على فهم النفس البشرية في إقبالها على البعيد الغريب المدهش وعدم اكتراثها بالمعاد القريب المتداول ((مبنى الطباع وموضوع الجبلة على إن الشيء إذا ظهر من مكان لم يعهد ظهوره منه وخرج من موضع ليس بمعدن له، كانت صبابة النفوس به أكثر)) إن بروز الشيء من غير معدنه قريب من مفهوم المفاجأة .. لذا فهو يشكل واحداً من مبادئ نظرية القراءة والتلقي عند العرب.
3 ـ دلالة الباقي على الذاهب:
إن الكلام الأدبي موئل احتمالات عدة .. وقد يذهب القراء والسامعون من تقليب أوجه النص مذاهب مختلفة ومتعددة، تتوقف على الدربة ورياضة النصوص الأدبية أو الثقافة الأدبية .. والوصول إلى الوجوه المحتملة للنص، طريقُهُ، دلالة الكلام الباقي .. أي النص، فالذاهب من النص يحصله المتلقي ويكتشفه. يقول ابن رشيق في العمدة مشيراً إلى حذف بعض الكلام لدلالة الباقي على الذاهب: ((وإنما كان هذا معدوداً من أنواع البلاغة، لأن نفس السامع تتسع في الظن والحساب وكل معلوم فهو هين لكونه محصوراً)). توجه الاهتمام إذن إلى المجهول الذي هو ليس هيناً، هنا يلتقي ابن رشيق مع الآراء النقدية التي ترى إن فعل المتلقي قائم على الروية وإعمال النظر في استخراج المعنى الأدبي، والمتلقي الذي يستدل على المعنى المخفي بالمعنى الظاهر أو المحذوف بالمعنى الباقي هو متلق ذو صفات خاصة. وهذا ما يريده النقد العربي للمتلقي، كونه عنصراً فاعلاً في توليد المعنى أو اختراعه، وما يوضح هذا المنحى المهم من مناحي النقد، ما قام به عبدالقاهر الجرجاني حين أسند للمتلقي مهمة جليلة في الاستنتاج والعمل العقلي والتخييلي للوصول إلى مغزى الخطاب، ((حتى تخرج من الصدفة الواحدة عدة من الدرر، وتجني من الغصن الواحد أنواعاً من الثمر)). وهذا المبدأ ثابت في ذاكرة النقد وهو ينسجم مع طاقة الإيحاء والتخييل في الأعمال الأدبية.
4 ـ صحة الطبع وإدمان الرياضة:
من القضايا المهمة التي طرحها النقد التعليل، أي لماذا يؤثر هذا النص في المتلقي ولا يؤثر نص آخر مساوٍ له في الجودة وقد اكتملت شروط الصياغة والحسن في كليهما؟ إذا كان النقد العربي يقف من هذه المسألة المهمة موقفاً يناصر الذوق وهي حالة نفسية ذاتية فإن هذا النقد نفسه يذهب إلى ضرورة إيجاد مسوغ للاستحسان والقبول أو الرفض والصد .. وجهان رافقا النقد العربي منذ بواكيره الأولى، ونجد للتعليل مزية على عدم التعليل في الكتابات النقدية المتأخرة إن المتلقي ينبغي أن يفسر سبب جمال الأعمال الأدبية .. إذن أنه لا يتوصل إلى كنه هذا الجمال إلا بتعليله. فالتذوق ليس عملاً فطرياً عفوياً بل هو يتحصل بجهد وإدراك وروية، ولو دققنا في قول القاضي الجرجاني الآتي لتكشف وجها العملية التذوقية ((وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، تستوفي أوصاف الكمال، وتذهب في الأنفس كل مذهب، وتقف من التمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن والتئام الخلقة وتناصف الأجزاء وتقابل الأقسام، وهي أحظى بالحلاوة وأدنى إلى القبول وأعلق بالنفس وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم وإن قاسيتَ واعتبرتَ ونظرت وفكرت لهذه المزية سبباً ولما خصت به مقتضياً)) لقد وضع الجرجاني يده على حقيقة النفس البشرية وصعوبة التحكم بالذائقة الفردية والجماعية .. غير أن النقد ما كان ليستقر على هذه المنازع النفسية فلابد إذن من التعليل ومعرفة الأسباب، لأن ترك الأعمال الأدبية في عهدة الذائقة الفردية قد يكون مضيعاً للغاية المتوخاة من النص الأدبي، فالمطلوب التفاعل مع جوهر النص ومعرفة عالمه الداخلي لا التأثير السطحي الخارجي وما قد يثيره من انفعالات عابرة .. والمسألة كما يرى الجرجاني متعلقة بعاملين أساسيين: طبيعة النص والمتلقي، فمن النصوص ((المحكم الوثيق والجزل القوي والمصنع المحكم والمنمق الموشح ومنها: المختل المعيب والفاسد المضطرب)) وقد تنصرف النفس عن القسم الأول وهو مشتمل على مواصفات الجودة ويكمن السبب في الحالة النفسية والشعورية والمعرفية أيضاً أي أن خلوص النص إلى عقل المتلقي وضميره لا يتوقف فقط على الجودة بل أيضاً على ما يراه المتلقي من مسوغ لتلك الجودة.
هذا مغزى كلام القاضي الجرجاني في القسم الأول، أما القسم الثاني وهو المختل المعيب والفاسد المضطرب، فإن مهمة المتلقي فيه أكثر صعوبة وهنا يحتاج إلى الرواية والدراية معاً كما يقول: ((والآخر غامض يوصل إلى بعضه بالرواية ويوقف على بعض بالدراية ويحتاج في كثير منه إلى دقة الفطنة وصفاء القريحة ولطف الفكر وبعد الغوص، وملاك ذلك كله وتمامه والجامع له والزمام عليه، صحة الطبع وإدمان الرياضة، فإنهما أمران ما اجتمعا في شخص فقصرا في إيصال صاحبها عن غايته ورضيا له بدون نهايته)).
وضع القاضي الجرجاني شرطين مهمين يقوم عليهما أساس رفض الأعمال الأدبية وهما صحة الطبع وإدمان الرياضة، وإذا كان صحة الطبع عنواناً لتفريعات عديدة تدخل منها الشروط الذاتية والموضوعية للمتلقي فإن إدمان الرياضة، يختص بمجال واحد ومهم جداً، وهو التجربة وكثرة قراءة النصوص الجيدة .. وهو عامل أساسي في تلقي الشعر خاصة، وقد حافظ القدماء على هذا الشرط سواء أكانوا رواة للشعر أم شعراء أم نقاداً .. فلا دخول في مضمار الشعر دون الرياضة .. ، فهو يعلّم سبب رفض النصوص الضعيفة الواهية النسج، وهذان الشرطان يصلحان أساساً لقبول الأعمال الأدبية أيضاً وإن لم يتطرق الجرجاني إلى ذلك، لأنهما شرطان للتمييز، والتمييز يقود إلى التعليل.
في مناهج النقد الحديثة (7)
مقدمة :-
النقد حوار فاعل بين النص والقارئ حوار يضفي على النص معنى ً يشارك فيه الطرفان ,وليس للنص معنى ًبمعزل عن قارئ نشيط يستحثه ويقلب فيه الظن بعد الظن, حتى يصل إلى نتيجة ما ولكي يصل القارئ إلى ذلك المعنى المنشود لجأ في بعض الأحيان إلى الناقد لعدم امتلاكه الأدوات والمفاهيم الإجرائية التي تمكنه من ذلك , وفي نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر برز نشاط الناقد من خلال إحداثه لبعض المناهج النقدية التي يستطيع من خلالها إضاءة النص وكشف معانيه التي قصد إليها المبدع أو التي لم يقصد إليها .
فبرزت المناهج التي تهتم بتاريخية النص واجتماعيته وواقعيته وأطلق عليها فيما بعد " القراءات السياقية " التي ينصب جل عملها نحو المبدع ِ وأثر البيئة والمجتمع ووضعه النفسي وطبقته الاجتماعية في النص المبدَع
و القراءة السياقية تنطلق من مواقف أيديولوجية ثابتة وجامدة في بعض الأحيان وتغرق النص بمفاهيم قد تشل النص وتهتم بالمبدِع بمعزل عن المتلقي , وتحرص " على تقديس تاريخ الأفكار وتاريخ الإبداع الفني ومصادر الإلهام والمؤثرات على اختلافها وهذا يجعل منها شبكة من الأصول المتماشجة في غير تجانس " ( 1 )
إلا أن الخطاب النقدي المعاصر شهد تحولات كبرى وعميقة في العقود الأخيرة من القرن العشرين كانت ثمرة للإنجازات العلمية والفلسفية المتلاحقة (( فتحولت القراءة النصية النقدية من قراءة أفقية معيارية " سياقية " إلى قراءة عمودية متسائلة " نسقية " تحاول سبر أغوار النص لاغير مبتعدة عن مقارباته من خلال السياقات التي أحاطت به يوم إنتاجه وبذلك أصبحت المعالم النصية ( البنى ) للمادة الحقل الأساسي للقراءة لكن لم يكن لهذا التغيير أن يتحقق إلا بفعل الثورة التي أحدثتها اللسانيات الحديثة وتأسيسها لأسس جديدة في طرائق التعامل مع النص فأقصت الخارج وقراءاته السياقية
" التاريخية, النفسية , الاجتماعية "وأخذت بالقراءة النسقية فمجدت الداخل على الخارج ))( 2)
ستحاول هذه الورقة أن تقدم مقاربة واعية لمفهوم القراءات النسقية بغية الوقوف عليها والتعريف بها محاولة الابتعاد قدر الإمكان عن الخوض في تفصيلات قد تشتت القارئ والحق أنه تم التصرف في بعض النقول وذلك لضرورة تبسيط البحث وإشكالية المصطلح فيه .
مدخل :- أ – بين يدي المصطلح ..
لقد أصبحت النظرية الأدبية للحداثة وما بعد الحداثة أكثر من أي شيء إشكالية قراءة , إذ أن دراسة عملية القراءة تعني إثارة عدد من الأسئلة الصعبة والمثيرة للاهتمام فنحن نريد أن نعرف قبل أي شيء كيف نقرأ ؟ .. وهل نستطيع صياغة نموذج للقراءة يوضح كيفية القراءة بهذه الأسئلة نحاول أن نتلمس مفهوم القراءة النسقية وهل هي قراءة جادة وثابتة وتعنى بديمومة النص ؟
في ضوء هذا الفهم يجب أولا ً تحديد المصطلح وتبيانه يقول الدكتور سعد الدين كليب : " يعني النسق أو المنظومة – الموضوع الكلي الذي يتألف من عناصر ترتبط فيما بينها بعلاقات محددة ويشكل مجموع هذه العلاقات المحددة البنية التي تربط بين العناصر داخل المنظومة - فالكلية إذا ً هي صفة النسق والكلية هنا هي الوحدة الناظمة للعناصر والتكامل فيما بينها فالنسق بهذا المعنى هو وحدة العناصر المتكاملة والداخلة في علاقات محددة " ( 3 ) .
إن القراءة هي الممارسة النقدية أو النشاط الإجرائي الذي يتوجه نحو النسق و انطلاقا ً من هذا يمكن أن نصل إلى مقاربة تعريفية للقراءات النسقية بأنها تلك الأشكال النقدية الإجرائية الأدواتية المفاهيمية ( القراءة ) المتوجهة نحو الأنساق النصية التي تشكل مجموعة أبنية النص وبؤره الفنية والفكرية .
أولا ً ما بعد البنيوية .......
سبقت الإشارة إلى أن ظهور المفاهيم الإجرائية التي تتعامل مع النص بمعزل عن الخارج لم تتحقق إلا بفعل الثورة التي أحدثتها اللسانيات الحديثة مستمدة أصولها النظرية من المدرسة الألمانية بزعامة ياوس والمدرسة الشكلانية الروسية والمدرسة الفرنسية , هذا الزخم الفكري أسس لظهور القراءة النسقية " وأمدها بأدوات إجرائية لمقاربة النص الأدبي حيث مجدت الشكلانية الروسية الداخل فاستبدلت السياق بالأدبية والمعيار بالوصف والمطلق بالنسبية ودعت إلى موت المؤلف وجعلت من مقولة النسق مقولة مركزية في طرحها" (4)
إن هذا الزخم الفكري الذي قدمته الشكلانية الروسية أسقطها في النزعة الصورية ( المنطقية ) فيما بعد , وهذا ما وضع الشكلانية البنيوية في مأزق إجرائي مما حدا بها أن تنفتح نحو مفاهيم العلوم الأخرى وخاصة الإنسانية " فظهرت البنيوية التكوينية كتيار بديل على يد لوسيان جولدمان مستثمرا ً فلسفة هيجل وماركس ولوكاتش للتأسيس لبنيوية تهدف إلى تحقيق التماسك بين البنية الذهنية والبنية الفنية داخل العمل الإبداعي من أجل رؤية للعالم لا تقصي عبقرية المبدع " ( 5 ) .
وظهرت البنيوية النفسية في ذلك الوقت على يد جاك لاكان فربط المعطيات النفسية باللغة والكلام .
إن كل هذه المعطيات أصبحت توحي بأن البنيوية كقراءة وخصوصا ً الصورية منها , توحي ببروز أطروحات جديدة في الأفق تعمل من أجل التأسيس لقراءات تتجاوز القراءة البنيوية لفتح الفضاء الإبداعي أمام أدوات إجرائية أكثر مرونة من أدوات البنيوية الصورية .
القراءة النسقية......
تمثل النشاط النقدي الإجرائي الذي جاء لتخليص البنيوية من صوريتها ببروز ثلاث قراءات إجرائية أساسية ( الأسلوبية والتفكيكية والسيميائية ) .
1 ) القراءة الأسلوبية ..... ( الانزياح ) .
هي علم الأسلوب وهي طريقة الكتابة باستعمال الكاتب للأدوات التعبيرية من أجل غاياتٍ أدبية , وبذلك تكون في مفهومها النقدي هي العلم الذي يكشف عن القيم الجمالية في الأعمال الأدبية انطلاقا ً من تحليل الظواهر اللغوية والبلاغية للنص الأدبي فهي تبحث عما يتميز به الكلام الفني عن بقية مستويات الخطاب الأدبي .
والأسلوبية نهضت بعد أن أغرقت البلاغة نفسها في المعيارية المتحجرة والتي بقيت فيها فترة زمنية طويلة
وبذلك عملت الأسلوبية على توحيد رؤية البلاغة التي تعمل على فصل العلاقة القائمة بين النص ومدلوله
" ولهذا يمكن اعتبارها امتدادا ً للبلاغة ونفيا ً لها في الوقت نفسه ومن أبرز المفارقات بين المنظور البلاغي والأسلوبي هو أن البلاغة علم معياري يرسل الأحكام التقييمية ويرمي إلى تعليم مادته وموضوعه بينما الأسلوبية تنفي عن نفسها كل معيارية والبلاغة ترمي إلى خلق الإبداع بينما تسعى الأسلوبية إلى تعليل الظاهرة الإبداعية بعد أن يتكرر وجودها " ( 6 ) .
كما تقوم الأسلوبية في منطلقها المعرفي من مبدأ أساسي يرى أن اللغة تعطي الأديب مجموعة من الاحتمالات اللغوية والأساليب التعبيرية للتعبير عن الموضوع الواحد فينتقي واحدا ً منها قصد التعبير والإبلاغ لخلق تأثيرٍ ما .
وقد تجلت الأسلوبية في اتجاهات عدة يمكن حصرها بـ :
أ ) الأسلوبية الوصفية :- تهتم بالوقوف على القيم التعبيرية والمتغيرات الأسلوبية بغية الكشف عن الطاقات التعبيرية الكامنه في اللغة .
ب ) الأسلوبية الأدبية :- تهتم بدراسة لغة أديب ٍ واحد ٍ من خلال نتاجه متبعة ً في دراسة اللغة مجموعة من الآليات ومعتنية بظروف الكاتب ونفسيته ( 7 ) .
جـ ) الأسلوبية الوظيفية :- تهتم بدراسة وظائف اللغة ونظريات التواصل .
د ) الأسلوبية البنيوية :- وفي منظورها أن النص بنية خاصة أو جهاز لغوي يستمد الخطاب قيمته الأسلوبية منه ( 8 ) .
ومن أهم مميزات الأسلوبية بشكل عام أنها تؤكد على وجود موضوع ٍ في النص الأدبي يمكن استنتاج أدبيته عبر نسيجه اللغوي ولا تقر بالحكم على النص الأدبي بل تقدم للناقد جهاز مفاهيمي لتحليل النص والحكم عليه وتهتم بالأثر الجمالي للنص باعتباره لغة شعرية والاعتماد على مستويات التحليل كالمستوى الصوتي أو المستوى اللفظي , ومن أهم أدواتها الإجرائية :
الانزياح :- ظاهرة أسلوبية , وهو بكل بساطة خروج التعبير عن السائد أو المتعارف عليه قياسا ً في الاستعمال رؤية ولغة وصياغة وتركيبا ً وهو مفهوم متغير ولا أدل على ذلك من موت الصور المجازية عبر اجترارها وتكرارها وتحولها من التعبير غير المباشر إلى التعبير المباشر .
ولا شك أن الانزياح يشكل أدبية النص وأحد أبرز علاماته ومواطن الشاعرية فيه ويأخذ الانزياح أنماط كثيرة حيث تعوَّد الدارسون أن يحصروا الانزياح في صور التعبير البيانية وركزوا خصوصا ً على المجاز والاستعارة
ويرى د. نعيم اليافي أن الانزياح يصيب سائر المكونات الشعرية وذلك من خلال قوله بالانزياح المجازي ويتمثل بجميع أنماط الصور البيانية والانزياح الإيقاعي والانزياح اللغوي بجميع ضروبه وانزياح صفات وانزياح تقديم وتأخير , و الانزياح الدلالي ما بين الصوت والمعنى أو الدال والمدلول ( 10 ) .
وبعد أن عرضنا للأسلوبية وأهم أدواتها الإجرائية بقي أن نقول أن الأسلوبية تقوضت في الغرب وأصبحت في عداد القراءات الميتة مع بدايات الستينات من القرن العشرين وكان السبب في زوالها ظهور السيميائية وتأثيرها عليها حتى انصهرت فيها .
2 ) التفكيكية :-
تقوم التفكيكية على إقصاء كل قراءة أحادية على صعيد المرجعية والتأويل , ولا تسعى إلى واحدية الدلالة للنص بل تسعى التفكيكية إلى جعل مدلولية النص بين يدى المتلقين يفككونه إلى المرجعيات التي بني عليها فيقفون على هذه المرجعيات ويقرؤون النص وفقا ً لها مهملة ً و مهدمة ً للنسق الذي يقوم عليه وفي اعتقادها أنه تركيب لغوي غير متجانس .
" إن التفكيكية المعاصرة باعتبارها صيغة لنظرية النص والتحليل تخرب كل شيءٍ في التقاليد تقريبا ً وتشكك في الأفكار الموروثة عن العلامة واللغة والنص والسياق والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير " ( 11 ) .
ويتجلى ذلك بإخراج ( الدال ) من المعنى التقليدي لحدود التفسير التي حاصر بها الخطاب النقدي التقليدي ( للمدلول ) وانفتاحه على التفسير اللا محدود أي أن استراتيجية التفكيك تقوم على إلغاء المدلول ليحل محله اللامدلول .
وبذلك يكون قد خطا النشاط النقدي مع التفكيكية خطوة جديدة في مساره المتجدد آخذا ً بمبادئ الألسنية مستثمرا ً لها فتح آفاق ٍجديدة للنص الأدبي .
وفي ضوء هذا الفهم نرى أن " التفكيكية تقدم عددا ً عديدا ً من القراءات و الدلالات للمعنى الواحد دون أن تتحول تلك التعددية إلى تناثر وعبثية " ( 12 ) .
وإذا كانت التفكيكية تنطلق نحو البنى النصية , وتقوم بإرجاع تلك البنى إلى مصدرها الأول فهذا يعني ولادة قارئ يتعامل مع النص بثقافة خاصة . وفي إطار هذا يتجلى لنا بوضوح مفهوم الأثر الذي أسس له ديردا في التفكيكية والذي يعتبر " الأثر " كأساس إجرائي للفهم النقدي باعتباره القيمة الجمالية التي تسعى وراءها كل النصوص الإبداعية . ويسعى إلى تلقفها كل متلقٍ للإبداع ذلك لأن الأثر هو التشكل الناتج عن الكتابة , ومن هنا نرى بوضوح مولد القارئ .
إن عملية التلقي التي قدمتها التفكيكية كواحدة من أهم استراتيجياتها تقوم على أسس معرفية يمكن حصرها فيما يلي :
أولا ً :- القراءة والكتابة
التفكيكية ترفع من شأن القراءة بأن تجعل السلطة الحقيقية للقارئ لا للمؤلف .
ثانيا ً : قتل أحادية الدلالة والدعوة إلى تشتت المعنى .....
ثالثا ً : موت المؤلف وميلاد القارئ :
وهذه دعوة دعا إليها بارت فيما يخص موت المؤلف إلا أن التفكيكية أضافت إلى ذلك أن موت المؤلف يؤسس لميلاد القارئ .
رابعا ً : الحركة الدائمة للغة :
فكل كتابة تمحو الكتابة التي سبقتها مما يولد للمحو دلالة لانهائية وبذلك يبقى المدلول في تحول دائم وتظل اللغة في حركية دائمة ( 13 ) .
التناص :-
من أهم الأسس المعرفية التي تعتبر من استراتيجات التفكيك و قد يرى المطلع على بعض الدراسات المتعلقة بالتناص تداخلاً كبيرا ً بين هذا المفهوم وعدة مفاهيم أخرى مثل " " المثقافة " و " الأدب المقارن " ودراسة المصادر " و " السرقات " لذلك سنحاول في هذا المجال أن نوضح معنى التناص ضمن استراتيجية التفكيك......
يعرف الدكتور محمد مفتاح (( التناص )) بأنه : " تعالق - الدخول في علاقة - نصوص مع نص , حدث بكيفيات مختلفة " ( 14 ) .
ويقر مفتاح بأن التناص ظاهرة لغوية معقدة تستعصي على الضبط إذ يعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي " فالنص ليس إلا توالد لنصوص سبقته " ( 15 ) .
أما التناصية عند عبد الملك مرتاض " صفة تلازم كل مبدع مهما يكن شأنه لأنه يستحيل وجود مبدع يكتب نصا ً أدبيا ً دون سابق تعامل معمق ومكثف مع النصوص الأدبية في مجال معين أو في مجالات متعددة " ( 16 ) .
وفي وضوء هذا الفهم يمكننا القول أن النص الأدبي أيا ً كان إنما يقتات في بنيته من فضاء نصوص أخرى وهذا ما دعت إليه التفكيكية باستحالة وضع تأويل واحد للنص فالتناص برأينا وضمن استراتيجية التفكيك هو الغذاء و الماء والهواء لاستمرارية هذه القراءة لما تمثله من اتساع لفكرة اللا مدلول والهدم والبناء في النص .
ونصل أخيرا ً لنقول أن تفكيك ديردا : "هو ممارسة فلسفية يتم فيه تفحص الخصائص البلاغية القائمة في النصوص (( المصطلحات والحدود الدقيقة والاستعارات المستخدمة )) وتبيان أنها تقوض معاني هذه النصوص ومرجعيتها المقررة وهو تبيان غالبا ً ما يتم بواسطة تقنيات بلاغية ". ( 17 ).
ولا بد أن نشير أن التفكيك كإجراء مفاهيمي نقدي يمتلك خصوصيته عندما يمتلكه القارئ بوعي و بفهم واضح دون غموض أو تعقيد فتفكيك نص أو إعادة بنيته إلى مرجعيتها و الانطلاق من تلك المرجعية لبناء نص أخر إنما يولد برأينا نصا ً إبداعيا ً من شكل آخر يحمل خصوصية القارئ وبذلك تتضح استراتيجية التفكيك النظرية كنشاط نقدي يتجه نحو الأنساق المعرفية في النص فيقوم بهدمها من خلال ما سبق ذكره من الأسس المعرفية التي يرتكز عليها ( التفكيك المتلقي ) وبذلك يسمح لعدد لا نهائي من المدلولات والنصوص المبدعة من قبل القرّاء ولا بد أن نذكر قول " رولان بارت " في كتابه نقد وحقيقة (( النص مصنوع من كتابات مضاعفة نتيجة لثقافات متعددة تدخل كلها بعضها مع بعض في حوار و محاكاة ساخرة )) . ( 18)
ينظر بارت إلى النص على أنه فضاء لأبعاد ومرجعيات متعددة تتنازع فيه الكتابات
السيميائية .............
تنطلق السيميائية من منظور دوسوسير من منطلق أنها العلم الذي يقوم بدراسة الأنساق القائمة على اعتباطية الدليل والسيميائية تقوم من منظوره على نظام جديد للواقع وهي بنى مكونة من ثنائيات أو ثنائية التركيب بشكل أدق هي الدال والمدلول و يعتبر دوسوسير أن الدال والمدلول لها وظيفة التعبير عن الأفكار المتميزة أي وظيفة رمزية داخل المجتمعات المختلفة وهذه الدلالة بين الدال والمدلول ذات صبغة اعتباطية يضاف إلى ذلك أن السيميائية لا تهتم باللسان فقط وإنما تتعداه إلى دراسة العلامة في عمومها , لذلك ينظّر دوسوسير لعلم يدرس حياة الدلائل داخل الحياة الاجتماعية وأطلق عليه اسم السيمولوجيا أي ( الدليل ) وسيكون عليه أن يعرفنا على وظيفة الدلائل والقوانين التي تتحكم فيها .
و في ضوء هذا الفهم فإن دوسوسير يعتبر اللسانيات فرع من هذا العلم العام (السيمولوجيا) و بذلك فالدارس أمام نوعين من الدلائل , دلائل لسانية ودلائل غير لسانية فالسيميائية علم عام أما اللسانيات فعلم خاص وكلاهما يعنى بالدلالية وبهذا تكون اللسانيات علما ً تابعا ً للسيميائية التي هي علم شمول عام ( 19) .
وبذلك فقد طرح نظرية عامة للسيمولوجيا إلا أنه لم يحدد معالم هذا العلم تحديدا ً دقيقاً بل بقى حقل بحثه موزعا ً بين علوم عدة كاللسانيات وعلم الدلالة إلى أن برز اتجاهان : الأول جاء به برت و مونان وقال بسيمولوجية التواصل " وتعنى بدراسة أنظمة التواصل أي الإشارات المستعملة للتأثير في المتلقي ( الموضة ) شكل من أشكال التواصل " ( 20 ).
وهذا النوع يقوم على تصور جوهري يرى فيه أن الدليل لا يمكن إلا أن يكون أداة تواصلية يقصد منه التواصل ولا تنحصر في اللسانيات فقط بل تتعداها إلى الأنساق السيميائية غير اللسانية .
أما الاتجاه الثاني يهتم بدراسة أنظمة الدلالة التي تشكل الموضوع الأساسي لأي بحث سيميائي ويعتبر رولان بارت الرائد في هذا الاتجاه ( سيمولوجيا الدلالة ) والذي يشكل الآن جوهر النقد الأدبي المعاصر باعتبار أن كل وقائع داله في النص وكل بنية نسقية معرفية هي سيميائية تمتزج باللغة .
" أن كل المجالات المعرفية ذات العمق السيمولوجي الحقيقي تفرض علينا مواجهة اللغة وذلك إن الأشياء تحمل دلالات غير أنها ما كان لها أن تكون أنساق سيمولوجيا أو أنساق دالة لولا تدخل اللغة ولولا امتزاجها باللغة فهي تكتسب صفة النسق السيمولوجي من اللغة وهذا ما دفع ببارت أن يرى أنه من الصعب جدا ً إمكان وجود مدلولات نسق أو صور أشياء خارج اللغة بحيث أن إدراك ما تدل عليه مادة ما يعني اللجوء قدريا ً إلى تقطيع اللغة فلا وجود لمعنى إلا لما هو مسمى ً , وعالم المدلولات ليس سوى عالم اللغة " ( 21 ) .
ومن هنا نلاحظ تركيز سيمولوجيا الدلالة على اللغة فالدلالات السيميائية منشؤها داخل اللغة لا خارجها لأن العلامة لا نستطيع أن نعبر عنها إلا بما تختزنه من لغة فاللغة هي جوهر المدلولات وبذلك نرى أن بارت استطاع قلب المعادلة السوسيرية من أن اللسانيات هي فرع من السيمولوجيا وأن السيمولوجيا أشمل وأعم
إلى أن السيمولوجيا فرع من اللسانيات وليس العكس .
و بعد استعراضنا لتلك المناهج بقي لنا أن نذكر أن الخطاب النقدي العربي المعاصر قد استفاد بشكل كبير من معطيات تلك المناهج وأن مجمل النشاط النقدي المعاصر يتكئ على الأدوات المفاهيمية والإجرائية لتلك المناهج و لقد رأى بعض النقاد العرب أن هذه المناهج ليست ميداناً للنقد الأدبي وحسب بل طالبوا بضرورة تعميم هذا النمط النقدي على المجتمع بكل أنساقه ومعارفه وعاداته وثقافته بغية نقد التصور الذهني المعرفي للمجتمع وبالتالي الوقوف على السلبيات الاجتماعية والثقافية .
وإذا كان " إمانويل كانط " قد عبر عن أن عصر الأنوار (( aufklarung )) هو عصر النقد الذي ينبغي للجميع الخضوع له بممارسة هذا النقد , فإن كمال أبوديب الناقد البنيوي يرى في البنيوية " مشروعاً ثقافياً لابد من إنجازه للارتقاء بكل من الثقافة والمجتمع العربيين " ( 22)
وتبقى هذه المناهج النقدية من أكثر المناهج أو القراءات علمية ؛ وبالتالي فإن الاشتـغال عليها يفضي إلى نتائج أكثر موضوعية من الاشتغال على ( القراءة ) الذاتوية أو السياقية .
مناهج النقد(8)
- منهج سياقي
- منهج نصي
أ- السياقي :
وهو ما يتناول الأبعاد الخارجية المؤثرة في النص وهذه الأبعاد تتعلق بكاتب النص وبيئته وقارىء النص و زمن النص :
1- البعد التاريخي :
وهو ما يتعلق بزمن الكاتب والبيئة التي نشأ فيها والتي انعكست بالطبع على سطور النص الداخلية .
2- البعد النفسي :
وهو ما يتعلق بشخصية الكاتب نفسه و إنعكاسها على جو النص ، فقال فرويد عالم النفس الشهير:" بأن العمل الأدبي هو عبارة عن مخرجات لمكبوتات داخلية كمنت بعقل الكاتب مثلها مثل الأحلام ولذلك يجب على الناقد أن يفسر النص الأدبي ولا يحكم عليه "
3- البعد البيئي :
وهي بيئة الكاتب والتي تنعكس بكل تأكيد على مسرح الأحداث و عنصر المكان وطبيعة الشخصيات بالعمل الأدبي .
ب- المنهج النصي :
وهو ما يتناول نقد النص من الداخل ويحلل إرهاصات الكاتب وله أبعاده أيضاً :
أ- البعد الشكلاني :
وهو ما يتعلق بشكل النص الأدبي فالهدف من النص الأدبي ليس الأدب في حد ذاته بل الهدف منه هو أدبيته وما يطرحه من أفكار .
ب - البعد البنائي :
وهو ما يختص ببناء النص وبتفنيدة بشكل كلي لا بتفكيكة وتفتيته ، أي أن هنا البعد البنائي يعتني بنقد بناء النص بصورة كلية لا جزئية.
والإتجاه الحديث الآن في النقد وهو ما يعتني بالوسطية أي أنه يجمع بين النقد النصي والسياقي ويمزجهم في بوتقة واحدة كي يخرج لنا أسلوباً نقدياً حيداياً يفسر النص ويقومه ولا يحكم عليه .
وبعد أن أوردت هذه الدراسة المختصرة أظن أن ردود الأديب الكبير /عبد الرحمن الجاسم جاءت لتحكم على النص من زاوية واحدة ، وحادت عن مناهج النقد فتطرقت إلى الأدب المقارن وعلم الموازنات الذي يوازن بين النصوص الأدبية وهذا بالطبع لا يتناسب مع مناهج النقد الأدبي وأهدافه المقومة للنص والمفسره له فلابد للناقد عندما يبدأ في نقد النص الأدبي أن يضع تلك المناهج أمام عينية كي لايحيد عن أسلوب النقد الأدبي إلى أساليب أخرى ليست محلاً ، والنقد في حد ذاته هو نقد للنص الأدبي فقط لا غير وعدم التعرض لصاحب النص والسفر إلى تداعيات أخرى تبعدنا عن الإبداع الأدبي وهذا رأيي بكل حيادية وموضوعية دون النظر إلى نعرات شخصية أو ذاتية .
هل وصل النقد في العراق إلى نهايته الطبيعية؟!(9)
سؤال طالما خامر ذهني وأنا أتقصى الجهد النقدي على صفحات الثقافة في المجلات والصحف العراقية، والتي غدت الفضاء الوحيد المتاح للممارسة الثقافية العراقية، بعد غياب المجلات الثقافية المتخصصة، أو تباعد أوقات صدورها، وعدم تلبيتها في الأعم الأغلب لإلحاح الراهن الثقافي، واكتفائها بالبعد التجميعي الكسول.
الفضاء الثاني (والمجاور) للممارسة الثقافية، يتمثل بالتجمعات واللقاءات والندوات، وهذه إما انحسرت بسبب ضغط الأوضاع الأمنية بالدرجة الأساس، أو تكتفي في العادة بالبعد الاحتفائي، كما هو الحال في أصبوحات اتحاد الأدباء، والتي تبدو، رغم كل شيء، المساحة (الثقافية/الاجتماعية) الوحيدة التي مازالت تحافظ على انتظامها.
أين مساحة النقد والمتابعة النقدية في هذه الصورة؟ أنها تكاد تكون منعدمة، وجل المتابعات النقدية إما يكتبها أدباء غير متخصصين، أو تأتي من الانترنت، نقلاً عن صحف أو مواقع اليكترونية، وهي في العادة تهتم بفحص أعمال تصدر في الخارج، لأدباء عراقيين أو عرب أو مؤلفات مترجمة. أما الجهد النقدي العراقي الخاص فقد تقلص بشكل كبير.
إن فعل القراءة النقدية بعنوانها الواسع (والمتوفر حالياً) هو شيء من صميم أية ثقافة، ولكنه لا يمكن ان يردم الهوة التي يخلفها غياب النقد، وغياب الجهد الذي تقدمه أسماء ترسخ نفسها حصرياً في هذا المضمار.
وهذا الغياب لا يحتاج الى جهد كبير لتلمس أسبابه، وهو ليس وليد اللحظة الحاضرة، فجميعنا يعرف الحال التي انتهى إليها الجهد النقدي العراقي خلال التسعينيات صعوداً الى بداية الألفية الجديدة، والتي شهدت مغادرة اغلب النقاد العراقيين الى خارج العراق، ولم يتبق منهم سوى قلة لا يستطيعون لوحدهم تغطية الفعالية الإبداعية العراقية، خصوصاً مع انحسار المساحة المتاحة لجهدهم النقدي، بحيث كانت الصحف العراقية تطالب الناقد بعدد محدود من الكلمات، بما يحول مقالته أو دراسته في النهاية الى شيء مبتسر ومختزل، وهذا ما دفع الكثيرين الى العزوف عن النشر في هذه الصحف، أما المجلات الثقافية المتخصصة فغدت فصلية وبعدد محدود من الصفحات، ولا يمكنها أن تلحق بإيقاع النشاط الثقافي، أو تساهم في تنشيطه إلا بشكل محدود.
الجانب الآخر الذي طبع النشاط النقدي في العراق لا يخص البعد السياقي السابق، وإنما يخص طبيعة الممارسة النقدية، والتي غدت، بسبب ضغط المتن التنظيري المترجم، أكثر شكلانية شيئاً فشيئاً، وابتعدت عن حالة (التوسط) بين النص الإبداعي والقارئ، لتغدو بحد ذاتها نصاً، يطالب القارئ بفك مغاليق شفراته. فأصبح من الشائع قراءة نصوص نقدية تزيد القارئ التباساً، ولربما قرأنا نقداً على نص هو أكثر بساطة وأكثر تواصلاً مع القارئ، فيشوش النص النقدي القراءة الأصلية للقارئ وتربكه.
العوامل السابقة قادت النقد في العراق الى حالة من الشحوب والتأخر، وغدا العنوان النقدي فاقداً الجاذبية ولا يعطي إمتلاءً للكاتب الذي يروم العكوف على هذا الجنس الكتابي، الى الحدود التي رأينا فيها أقلاماً نقدية جديدة خطت خطوات ناجحة، تتجه الى كتابة الشعر، وتلصق صفة الشاعر المتأخرة متقدمة على صفة الناقد، وقاد الكسل الكثير من هذه الأقلام النقدية الى حدود المتابعة القرائية المجاملة، وعدم الخوض في سجال مع المفاهيم النقدية لإنتاج خطاب نقدي خاص ومتميز.
ثم أنكفأت أسماء معروفة في ساحة النقد على نفسها، ولم يعد لها صوت مسموع على الإطلاق، رغم كثرة تواجدها أمام شاشات الفضائيات وفي الاستطلاعات الثقافية.
وأكاد اجزم بأن الصورة الشائعة عن الناقد قد تلاشت وانقرضت، فلم يعد هو الاعرف بأسرار الكتابة، والاعرف بخفايا النصوص، ولم يعد المطلع الأكبر على كل جديد يصدر، وتأخر في مواكبته للمتغير الثقافي وترك هذه المهمة للمبدعين أنفسهم.
وهذا الوصف ينطبق ايضاً على الوافد النقدي والمستجد على الساحة الإبداعية من تيارات واتجاهات. وغدت المتابعة أو القراءة النقدية التي يقدمها المبدع حول القضايا التي تخص مجاله الإبداعي أكثر طغياناً، وتملأ ـ اضطراراً ـ الفراغ المريع الذي خلفه غياب الناقد المختص.
لا يمكننا، مثلاً، ان نلوم الدكتور حاتم الصكر على عدم متابعته للمتغير الثقافي العراقي، لكونه يعيش في مناخ ثقافي آخر، ويكرس جهده لمتابعة المستجدات في ذلك المناخ، والأمر نفسه ينطبق على الأسماء النقدية العراقية المهمة التي مازالت على قيد الحياة، والمتوزعة على المنافي العربية، كالدكتور عبد الله إبراهيم، والدكتور صالح هويدي، وسعيد الغانمي وآخرين، فهم الآن جزء من المشهد الثقافي العربي، والمشهد الثقافي المحلي للبلدان التي يقيمون ويعملون فيها.
ولكننا نلوم من بقي من هذه الرموز النقدية داخل العراق، ومازال بصحته وعافيته. نلومهم لأننا نقرأ لهم في بعض الأحيان متابعات وقراءات نقدية على أعمال عربية متوسطة القيمة، منشورة في صحف ومواقع الكترونية عربية، وهي جهود لا تخلو من مسحة المجاملة، مهملين ما يجري في الحراك الثقافي العراقي دون مساهمة جادة في ترسيخ قيم إبداعية وثقافية تمثل معايير لتوجيه القراءة وفرز الصالح من الطالح مما يكتب وينشر، وفي إضاءة الأفق المعرفي العام الذي تندرج فيه النصوص الإبداعية.
ونلوم أيضاً من يقوم على الشأن الثقافي الرسمي، الذي فشل فشلاً مريعاً في إعطاء صورة أكثر قوة ونجاحاً لمجلات ثقافية متخصصة، بديلة عن تلك التي كانت تصدر في العهد السابق. ومقارنة بسيطة بين أحد أعداد مجلة الأقلام الصادرة خلال ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي، مع أي عدد صدر من هذه المجلة بعد التغيير، أو مع أي مجلة ثقافية أخرى تصدرها مؤسسة ثقافية حكومية، سترينا الفرق الشاسع، والانحدار في الخط البياني للجهد النقدي العراقي.
ولو تأملنا تلك العلاقة بين الجامعة والفضاء الثقافي العام، لأدركنا جانباً من تداعي العملية النقدية، فبعد أن كانت الجامعة تصدر بشكل تقليدي والأقلام النقدية الرصينة التي تثري الفضاء الثقافي العام، وصلنا الى مرحلة لا نكاد نعثر فيها على موهبة نقدية واحدة في فضاء الجامعة، مع تكاثر في العقول (المدرسية) التي لا شغل لها سوى الكتابة في حدود الدرس والترقي العلمي، والاعتماد على جهود السابقين دون شهوة الإضافة أو التجديد والمغايرة.
لا يمكن إنكار أن الصورة الكابية للنقد العراقي الآن هي جزء من صورة عامة لثقافة عراقية في طور المحنة، ليس لها جسد واضح المعالم، وتبدو في أفضل أحوالها جزراً معزولة عن بعضها، لورش عمل شخصية، تتواصل مع السياق العربي والعالمي، وتتوسل الاكتشاف والترقي داخل هذا السياق، بعد انعدام السياق الثقافي الوطني، الذي يعاني من انعدام المعايير الثقافية والرموز والجهود التي تصب في مسار إبرازها وتأصيلها.
والحديث عن النقد هنا، لا يتحدد بمتابعة النصوص الإبداعية، فهذا مظهر، ليس إلا، من مظاهر الفاعلية النقدية. وما هو أكثر جذرية في الفعل النقدي، هو ذلك المسح والجرد العام الذي يقدمه هذا الفعل للإنتاج الإبداعي، ثم افتراض فضاءات لقراءته، وإنتاج تصورات عامة ذات تأصيل نظري، عن مجمل الفعالية الإبداعية.
وقد لا يختلف معي الكثيرون في أن هذا الجهد الذي يقدمه النقد بكل تفرعاته واتجاهاته، يمثل في المحصلة المفصل الأهم في ربط الإنتاج الإبداعي الصرف بجسد الثقافة، وبالمفاصل الفكرية والمعرفية داخل هذا الجسد، بما يحوي من تخارج وتداخل مع الفعالية المجتمعية العامة. أي ان النقد يضع الفن أمام المتلقي في جسد الثقافة، ويضع الثقافة في جسد المجتمع، فضلاً عن وظيفته التقليدية في التوسط والتقييم، وإثارة الجدل داخل النوع الفني، وتحديد معايير عامة تنجز الثقافة عادة بالانتحاء باتجاهها أو بعيداً عنها.
علينا ان نعترف، كجواب على سؤال هذه المقالة، بأن النقد قد انقرض في الثقافة العراقية، وعلينا أن لا نمتدح هذه الثقافة كثيراً، قبل أن نرقع جسدها الممزق وتصبح على صورة لا تؤذي الناظرين.
.........................................
1- منتديات المجالات
2- د . فاروق مواسي/ الهدف الثقافي
3- زهير الجبوري/ جريدة الصباح
4- عبد القادر عبو/ جريدة الاسبوع الادبي
5- سيد الوكيل/ مجلة أفق الثقافية
6- د. محمد المبارك / شبكة الوطنية الثقافية
7- أ . حسين المكتبي النعيمي / جماعة حوار نادي جدة الأدبي
8- عبد الرحمن جاسم / / شبكة الوطنية الثقافية
9- أحمد سعداوي/ جريدة المدى
10- دليل الناقد الادبي/ د. ميجان الرويلي/ د. سعد البازعي
11- قزاز ، طارق بكر عثمان . (1423هـ) : النقد الفني المعاصر دراسة في نقد الفنون 12- التشكيلية ، ط1،مكة المكرمة ، المملكة العربية السعودية.
13- عادل كامل: (ناقد فني)
14-فاضل ثامر: اللغة الثانية-المركز الثقافي العربي -ص82.
15- كمال خير بك حركة الحداثة في الشعر ص100.
16-دراسة الأدب العربي، دار الأندلس لبنان، ط1، 1983، ص 3-151.
17-عبد السلام المسدي: الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية للكتاب، تونس، ط2، ص 88-89، 1982.
5-الياس خوري: الذاكرة المفقودة دراسات (نقدية) مؤسسة الأبحاث العربية، 3 ص 73، لبنان ط1، 1982.
6-أحمد يوسف: القراءة النسقية ومقولاتها النقدية م.س 0ص 147).
*نشير هنا إلىالمؤلفات التراثية وغيرها التي كان الهدف من تأليفها جمع المادة العلمية أدبية ولغوية
7-أدونيس : سياسة الشعر، دار الآداب، لبنان، ط1-1985-ص 134.
8-د.عبد الملك مرتاض: في نظرية النص الأدبي، مجلة الموقف الأدبي، دمشق، ع6، ص 201 –1989.
9-فاضل ثامر: اللغة الثانية م.(س)، ص 7
10- المرجع السابق ص 133.
11-ينظر: أحمد يوسف، القراءة النسقية ومقولاتها النقدية، م.س. ينظر، المرجع السابق، ص10، 170- 169.
12-عبد الله الغذامي: تشريح النص مقاربات (تشريحية لنصوص معاصرة)، دار الطليعة 11، ط1، 1987، ص 79. لبنان.
المصدر
http://www.annabaa.org/nbanews/65/015.htm