هذا الموضوع اثر في كثيرا فاثرت نقله مع شكري وتقديري للدكتورة رابعة ..
حوريـةْ درويش تضيء نجوم كنعان الأخيرة
بقلم : الدكتورة رابعة حمو
محمود درويش إطلع على الطيارة واتأنّى
كل شباب فلسطين بحضرتك تستنى
ريتك بهالرحلة يا محمود تتهنــى
تعاوِدْ علينا ويصيـر الفرح عِنـّا
محمود درويش يا سيفين يوم الحرب
يا شمع مكـّة يا ضاويات الـدَرب
إطلع على الخطاب يا قويّ القــلب
واضرب بسيفك وعلـّق مشانق عالدرب
أبيات عتابا غنّتها الحاجة حورية والدة الراحل محمود درويش في استبقاله عندما زارها في بيتها في قرية الجديدة في الجليل، والتي أسلمت الروح إلى خالقها يوم الجمعة في 13/2/2009. بعد أن تركت تعالميها لتضيئ نجوم كنعان في أرضها وترمي في قصيدة ولدها الأخيرة شالها. رحلت حورية وفي قلبها غصة الأم التي دفنت ابنها الأحب على قلبها قبل ثمانية أشهر، وكانت على فراش المرض حيث وافاها النبأ الأليم، وحُملت على سرير متحرك إلى رام الله لتلقي نظرة الوداع الأخير على فلذة كبدها في بلاد خرجت عن المألوف وناموس الكون وأصبح أمراً عادياً أن يدفن الآباء أبناءهم ويتقدموا عليهم في جنازاتهم.
حورية التي أصيبت بالحزن العميق توقفت عن الأكل لفترة طويلة، وفقدت القدرة على النوم حزناً على فراق ولدها، هي ابنة قرية البروة العكيّة وآخر شاهد من عائلة الدراويش الأجداد على نكبة هذه القرية الجليليّة، وهي من أورثت الشاعرالكبير الفطرة الشعرية لنظمها الشعر والميجانا والعتابا وهي التي وصته:
تزوّج أيّة امرأة من
الغرباء، أجمل من بنات الحيّ
لكن، لا تصدّق أيّة امرأة سواي
ولا تصدّق ذكرياتك دائمًا
لا تحترق لتضيء أمّك، تلك مهنتها الجميلة
لا تحنّ إلى مواعيد الندى
كن واقعيًّا كالسماء
ولا تحنّ إلى عباءة جدّك السوداء
أو رشوات جدّتك الكثيرة
وانطلق كالمهر في الدنيا، وكن من أنت حيث تكون
واحمل عبء قلبك وحده…
وارجع إذا اتّسعت بلادك للبلاد وغيّرت أحوالها…
حورية القصائد بكت مع النايات موت محمود درويش عندما أودعته القبر في رام الله وهمست له أن ينطلق كالمهر في الدنيا والآخرة، وأن ينتظرها لتؤنس له وحشة قبره تلك مهنتها الجميلة، لأنها لا تطيق أن ترى وطناً وبيتاً ليس فيه محمودها.
حورية كانت بصمة محمود درويش الإبداعية والشعرية منذ ان كتب رومياته في سجن الرملة عام 1960، وأماكن التوقيف والسجون ولاحقت ظله بالشوق والحنين والقهوة في كل سجن دخله.
حورية التي تحوم في قصائد ولدها تنجدل كالضفائرمع حروف كلماته خرجت عن صورة الأم لتصبح رمزاً لكل الأمهات الفلسطينيات اللواتي ينتظرن عودة أبنائهم من الأسر أو الغربة القسرية، وأصبحت رمزاً للأرض الفلسطينية التي تنتظرعودة أبنائها من اللجوء والشتات.
إلى حورية رحلت كل قصائد محمود درويش لتروي قصة الحنين إلى عطر الياسمين، والبئر، والشجرات الثلاث، وكيس الخبز المعلق على الشجرة، والحصان الذي تُرك وحيداً ليحرس بيوت الغائبين، وفناجين القهوة المدفونة في قبو المستعمرات الرابضة على صدور بيوت الغائبين، ورائحة التنور والقهوة، وحبل الغسيل، وصورة معلقة على جدار البيت تحكي قصة لاعب النرد منذ أن غادرها لتربيه الريح.
حورية التي حرمت من احتضان ولدها لأكثر من 36 عاماً ولم تكحل عينيها برؤيته وتضمه الى صدرها عدّت أصابعه العشرين عن بعد، وبحثت في ثيابه الداخلية عن نساء أجنبيات ورفت جوربه المقطوع، لم يكبر ابنها على يدها كما شاء وشاءت، هي صورة لكل الأمهات الفلسطينيات الصابرات والماكثات في الأرض، المنتظرات عودة أبنائهم الغائبين مشياً على الأقدام أو زحقاً على الأرض أو حملاً على الأكتاف.
حورية التي لم يعتذر محمود عمّا فعل إلا لها، قبّل يدها وشرب قهوتها وامتطى صهوة جواده وسبقها إلى عالم الأبدية، كان يعرف دوماً أنه سيرحل قبلها حين قال لها:
أحن إلى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي
و تكبر فيً الطفولة
يوماً على صدر يومي
وأعشق عمري
لأني إذا مت أخجل من دمع أمي
خذيني إذا عدت يوما وشاحاً لهدبك
وغطي عظامي بعشب
تعمد من طهر كعبك
وشدي وثاقي بخصلة شعري
بخيط يلوح في ذيل ثوبك
ضعيني اذا ما رجعت
وقودا في تنور نارك يا أمي
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدت الوقوف بدون صلاة نهاري
هرمت فردي نجوم الطفولة
حتى أشارك صغار العصافير
درب الرجوع لعش انتظارك
حورية رحلت ولم يرثها محمود الذي رثى كل أصدقائه ونفسه التي لم يملكلها واسمه ذو الحروف الرباعية، ودُفنت بعيداً عنه وبعيداً عنها في قبران متباعدان بين قرية الجديدة ورام الله يجمعها الحنين والشوق بعد أن أعدت له القهوة والتنورالذي يحب ونثرت على قبره سبع سنابل وزهر فوضوي وغنت له العتابا:
مسافِر يا يما.. جيتْ أودعَكْ وما ليش خاطِر
وقلبي عالسفرْ مالُش خاطِرْ
ربّي رشاشْ والدنيا تماطِرْ
تَنِشْبَعْ من شوفتك يا بنيي..
حورية الآن في حضرة الغياب مع محمودها في لقاء لا فراق بعده، ولا سفر يعكره، ولا محتل ينغصه، تعجن بالحبق الظهيرة كلها، وتخبر بالسماق عرف الديك، وتطل من شرفتها على من بقي هنا وليس هناك.