شخصيّة لطيفة جداً
نُـور الجندلي
قَدّمتْ إليه مجلة متميزة مختصّة بالاختبارات الذاتيّة للشخصيّة، أرادت بعد تفكيرٍ عميقٍ وكثرة مشاورة مع الحكيمات من الصّديقات أن تغيّر شيئاً في شخصيته، أن تجعله أكثر رقّة ولطافة، وأكثر حناناً واحتواءً لها. تنظرُ في عينيهِ فيغرقها حناناً، وتحادثهُ همساً فيصغي بقلبهِ قبل أذنيهِ، وتلاطفهُ فيبتسمُ سعيداً وقد طلّق العبوسَ ثلاثاً...
أكدت لها جميعُ الصديقات اللواتي أخذت مشورتهنّ بأن الطريقة ناجعة، باعثةٌ على التفكيرِ بعمقٍ، والإبحارِ في خبايا النّفس، تظهرُ الأخطاء بطريقة غير مباشرة، وتدعو إلى إصلاحها والتغلبِ على مشكلاتها بكلّ براعة، مما يعجزُ عنه كثيرٌ من البشر..
اقتنعت بالفكرة، واختارت مجلّة تتحدثُ عن الموضوعِ الذي تريد، لتجري فيه اختباراً ذاتيّاً.
ناولته المجلة وقالت له، أما أنا فقد تعرّفتُ على شخصيّتي، واستفدتُ كثيراً مما وردَ في المجلّة، وسأحاولُ التغلّب على مشكلاتي وعثراتي، وسأصلحُ الخللَ فيَّ ما أمكن...
وضعت المجلّة على المنضدة، وانصرفت متشاغلة بتصفيف شعرٍ مصفّف، وترتيبِ منزلٍ مُرتّب.
وانطلتْ عليهِ الحيلة، وتلاعبَ بهِ الفضولُ ليعرفَ حقيقة من يكون!
فتناولَ المجلّة خفية، وأخذ من حقيبة ابنه الصّغير قلماً رصاصاً، وأخذ يجيبُ على الأسئلة..
عشرون سؤالاً عميقاً استدعت ساعة كاملة من وقته، يصولُ ويجولُ بين الأسئلة، ويشيرُ إلى الخيارِ الذي ينطبقُ عليه من بين خياراتٍ أربعة لكلّ سؤال. انتهت المهمّة، وطفتْ على وجهه بسمةُ انتصار.
وحانَ وقتُ الجمعِ ليتجاوبَ كلّيّة مع سؤال:
إن كنتَ قد أنهيتَ خياراتك، فما عليكَ إلا أن تجمع الناتج كما هو مدوّن في الأسفل، وتكتشف حقيقة شخصيّتك.
وبدأت عمليّة الجمع، ومعها بدأ قلبهُ بالخفقان، مع إجابة كلّ سؤالٍ كانت عيناهُ تتوهانِ أسفل الصّفحة، والفضولُ يأكله، ليعرفَ من يكون، ولكن عبثاً، فقد نسّقت النتائجُ بطريقة لا تفيدُ أكثر النّاسِ فضولاً، فما كان منهُ إلا وتابعَ الإجابة بحماسٍ أكبر، ورغبة في الاكتشاف.
هي... كانت تراقبهُ من بعيد، تغمرها نشوة الانتصار، تداعبها الأحلامُ والأمنياتُ في أن يتلقّى صدمة حياته، فلم يحدثُ وأن واجههُ أحدٌ من قبل بحقيقته، ولا هي نفسها تجرأت على ذلك، وبينَ دقيقة وأخرى كانت تتلقى على جوّالها الصّامت مكالماتٍ من الصّديقات يتفقدن الوضع، ويحاولن الاطمئنانِ عن النتيجة، وهو لاهٍ عن كلّ ما يحدث، منصرف إلى الأرقام والحسابات، حتّى انتهى، وحصل على درجة ثمانين من أصل مئة!
حدّثَ نفسهُ بغرورٍ فقال، لاشكّ وأنهُ رقمٌ كبيرٌ لم يحصّله أحدٌ مثلي من قبل، وبأنني أتحلى بكلّ المزايا الطيّبة التي يتمنى أيّ رجلٍ لو اتّصف بها.
لكنّ حاجباهُ ارتفعا كطائرين مذعورين، حين قرأ النتيجة...
إن كان مجموعك ما بينَ 80-100 درجة، فاعلم أنك شخصية قاسية فجّة، يخافها النّاس، ويتحاشون الالتقاء بها، ويتجنبون مصارحتها بحقيقة ما تكون، ولذلك فعليكَ أن تراجع نفسكَ أكثر، وأن تتتحلى بالبسمة والكلمة الطيبة، وأن تعمل على تغيير....
لم يكمل المقطع، فقد شعر بالدم يغلي في عروقه، وبأنه حصلَ على مقلبٍ يساوي حياتهُ كلّها...
فألقى المجلّة جانباً بنزق، وقال بغضبٍ... إنه هراء، محضُ أكاذيبٍ وأباطيلٍ يخدعنا بها من يتثاقفون علينا!!
ثم نظر إلى المجلة مرّة أخرى، وتناولها من الأرض، وفتح صفحة الاختبار ثانية، مؤكداً لنفسه هذه المرّة أنه قد أجاب إجاباتٍ خاطئة!
بدأ يقرأ الأسئلة من جديد، ويفكر بالإجابات الأربع، ويراجع نفسه مجدداً فيقولُ لربّما تصرفتُ في هذا الموقفِ على نحوٍ إنسانيّ أكثر، وقد أجيبُ إن كنتُ في مزاجٍ طيب على سؤال الرجلِ الذي طرحه بطريقة أليق!
وبدأت حركة التعديل الشّاملة، لتأخذ أقل من ساعة ما بين تفكيرٍ وتصويب، حتى انتهى إلى النتيجة فكان مجموعه ستّ وستون درجة، كاد معها يصرخُ فرحاً، وخفقاتُ قلبه تعلو... الآن أنا متميّز لطيفُ ناجحٌ ومحبوب!!
لكن النتيجة صعقتهُ ثانية، وكان كلاماً لم يتوقعه... أنتَ شخصيّة عصبيّة نزقة، تحبّ أن يخدمك الآخرون ولا تفكرُ يوماً بمساعدتهم، لديك بعضُ الغرور.....
لم يكمل أيضاً، وضغط بأصابعه على الأوراق فكاد يحول المجلة إلى كرة من ورقٍ ملوّن!
ثم عاد إليها قائلاً... هذه المرّة لن أفشل!
بدأ يجيبُ للمرة الثالثة، وينتقي الخيارات الأيسر والأسهل وتلك المحببة إلى قلوب البشر...
فيما كادت هي في الخارج ينفد صبرها، ولكنها قررت الانتظار حتّى النّهاية!
نصف ساعة أخرى وانتهى من الجمع، لتكون النتيجة خمسة وعشرون!
كاد أن ينادي زوجته، فيريها النتيجة، ويخبرها من يكون، لكنهُ قرأ التحليل الوارد فكان أن شخصيته مميّعة هزيلة، مغلوبٌ على أمرها في الحياة، مضطهدة يزدريها الناس ويمقتونها...
وقبل أن يُقدم على إحراقِ المجلّة، دخلت زوجته، وابتسامة رقيقة على وجهها، وسألتهُ ببرود والفضولُ يحرقُ قلبها... ماذا قرأت عن شخصيّتكَ، وما هو الناتجُ يا عزيزي؟!
محا الناتجَ على عجلٍ، وأغلق المجلّة على الفور، ودون تفكيرٍ قالَ لها... لقد حصلتُ على أربعين درجة، والنتيجة كانت أنني شخصيّة لطيفة جداَ...!!