الحلّ السياسي في سوريا بين الواقع والأوهام
2013-07-07
لا يفوّت أيّ مسؤولٍ دولي فرصةً إلا ويؤكّد على أنّ الحلّ الوحيد للأزمة السورية هو الحلّ السياسي. وقد تزايدت المراهنات على هذا الحلّ المنشود في أعقاب التوافق الأمريكي الروسي على عقد مؤتمرٍ دوليّ للسلام بشأن سوريا في جنيف بات يُعرَف في الخطاب السياسي بجنيف /اثنان للتدليل على أنّه امتدادٌ للقاء جنيف الأوّل الذي توصّل فيه الطرفان الدوليان إلى جملة تفاهمات نسفتها التفسيرات المتباينة لكلا الطرفين لبنودها وخاصّة فيما يتعلّق بمصير رأس النظام وموقعه في العملية الانتقالية التي لم تسلم بدورها من التفسيرات المتناقضة لراعيي تسويق الحلّ السياسي.
وعلى غرار الأطراف الدولية، يُعلن طرفا الصراع الداخلي في سوريا أي النظام والمعارضة عدم رفضهما للحلّ السياسي بل يعلنان تمسّكهما به ويُحمِّل كلّ منهما الطرف الآخر مسؤولية التهرّب من استحقاقات الشروع فيه.
ولكن ما هي ممكنات تحقّق هذا الحلّ في الأفق المنظور؟
لم تنقضِ ساعات على المؤتمر الصحافي المشترك بين وزيري خارجية الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي والذي أعلنا فيه توافقهما على عقد مؤتمر جنيف/اثنان، حتى برزت من جديد التفسيرات المتناقضة لفحوى هذا المؤتمر والغاية المرجوّة من نتائجه. وإنّ دلّ هذا على شيء فإنّما يدلّ لا على حجم الخلاف بين رؤية الأطراف الدولية المتمحورة حول الدولتين المطلقتين لفكرة المؤتمر وإنّما، في الجوهر، على غياب قرار استراتيجيّ حاسمٍ لديهما بالعمل على وضع حدٍّ للصراع المتفاقم في سوريا. وهذا يدفع إلى الاعتقاد بأنّ شروط وظروف معركة الداخل السوري لم تصل بعد إلى المديات والمستويات التي رسمتها القوى الدولية والتي ستقرّر عندها التدخّل الحاسم لوضع حلٍّ يتماهى لا مع رؤيتها فحسب وإنّما أيضاً مع مصالحها ومخططاتها للهيكلية السياسية والإستراتيجية التي تسعى إلى صياغتها كقاعدة لطبيعة وشكل المعادلة الجيوسياسية في المنطقة للحقبة المقبلة.
كانت ولا تزال منطقة الشرق الأوسط السوق السياسية الأكثر تعقيداً، وكان النظام السوري السمسار الأكثر نشاطاً فيها، يتاجر بجميع المواقف ومع جميع الأطراف. لقد كان نظاماً أشبه بمؤسسة خدمات سياسية، أشبه بمسدّسٍ للآجار والاستئجار. استُخدِم في جميع الملفّات الحسّاسة في المنطقة، وطالما لم تُحسَم هذه الملفات، لم ينتِهِ دوره بعد. ولذلك، نلاحظ هذا الحرص الشديد دولياً وإقليمياً على عدم التفريط به.
وإذا كانت روسيا تعتبر هذا النظام رأسمالها الرئيسي للبقاء في السوق السياسية للمنطقة، فإنّ سلوك الغرب يوحي لنا بأنّه يسعى إلى إعادة صياغته وتوظيفه بشروط جديدة. حيثُ يُراد لسوريا أن تصبح في أقصى درجات التفكّك المجتمعي والسياسي تحت سلطة طغمة من العسكر مُنهَكة ومتّهمَة بارتكاب جرائم حرب ضدّ شعبها تحت طائلة إشهار هذه التهمة في أيّ لحظة تحاول فيها الطغمة الخروج على الأوامر الصادرة إليها.
إذ لا يمكن فهم الإصرار الغربي على الإبقاء على جيش النظام وأجهزته الأمنية في أيّ حلٍ قادم إلا على أنّه الإبقاء على النظام ذاته. فبنية هذا النظام ليست سوى بنية عسكرية أمنية ملاط تماسكها الثروة الوطنية المنهوبة من قبلها.
بهذا المعنى ثمّة اتفاقٌ بين الأطراف الدولية المختلفة حول الإبقاء على النظام، والخلاف بينها إنّما هو خلافٌ على الواجهة السياسية التي ستمثّله ظاهرياً وشكلياً.
على المستوى الداخلي من الصراع، أي على جبهة النظام والمعارضة، تتباين الرؤية إلى الحلّ السياسي إلى حدّ التضاد المطلق النابع من منظورين متناقضين، تحقيقُ أيّ منهما يعني هزيمة الطرف الآخر.
فالحلّ الذي يتصورّه النظام ويسعى إلى تسويقه ينطلق من ذهنية الناجي من المأزق والمنتصر في المعركة وبالتالي الساعي إلى فرض شروط الهزيمة على خصمه المتمثّل في المعارضة التي يُطلَب إليها الخضوع لشرعية بقائه مقابل إشراكها وتمثيلها في مستوى القرار الجزئي التي تتخصّص به الحكومة المقترحة كحكومة شراكة يتقاسمها النظام مع المعارضة المشتّتة والمتفرّعة إلى داخلية وخارجية. وقد عبّر النظام عن هذا الاتّجاه من خلال تصريح وزير خارجيته حينما أعلن أنّ نظامه يذهب إلى جنيف لتقاسم السلطة لا لتسليمها.
أمّا المعارضة، فلا تكمن معضلتها في رفضها لمبدأ تقاسم السلطة وإنّما في إدراكها أنّ طبيعة هذا النظام غير قابلة للتشارك والتقاسم الحقيقي للسلطة، وأنّ النظام قد اختار بحكم بنيته وطبيعته لا بحكم رغبته فحسب الاستئثار بالسلطة والاستماتة في التمسّك بها حتى النهاية أيّاً كان الثمن وأيّاً كانت النتائج، ولذلك تشترط المعارضة رحيل النظام كأساسٍ لأيّ حلّ سياسيّ وتفاوضي.
وحتى يقتنعَ نظامٌ ما بالتفاوض على رحيله لا بدّ أن يكون قد وصل إلى مرحلة يكون رحيله هو الخيار الوحيد المتاح له وهذا ليس حال النظام السوري إلى هذه اللحظة.
من هنا تبدو ممكنات الحلّ السياسي غير متاحة في الأفق المنظور ولا أدلّ على ذلك من التأجيلات المتكررة لمواعيد انعقاد مؤتمر جنيف ومن الدخول في سباقٍ لتسليح طرفي الصراع لكي تستمرّ معركة الاستنزاف المتبادل وصولاً إلى معادلة توازن الضعف التي ستسهّل على الأطراف الدولية فرض صيغة الحلّ التي ترتئيها في اللحظة المواتية لها.
وبانتظار تلك اللحظة سيستمرّ النظام في حملته طالما يُدرك أنّه يُحقّق على الأرض ما يُحسّن وضعه التفاوضي، وستستمرّ المعارضة في معركتها طالما تُدرِك أن بقائها في معادلة الصراع المسلّح شرطٌ من شروط الحلّ السياسيّ في نهاية المطاف.