6ـ عروبة إبراهيم عليه السلام؟!
مصطفى إنشاصيلقد وقع معظم كتاب التاريخ ودارسي الكتب الدينية عندالحديث عن سيدنا إبراهيم عليه السلام وبني إسرائيل من بعده في خطأ جسيم جداً، وذلكعندما رفعوا نسبه إلى من تدعيه التوراة (سام بن نوح)، كما أن التوراة تناقضت فيذكر نسب سيدنا إبراهيم، وغالباً ما يذكره المؤرخون دون التطرق إلى أصله العرقيوأصل قبيلته التي انسلخ عنها بعد أن أوحى إليه الله تعالى بأن يترك قومه ويهاجرإلى الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، مما يُظهر بني إسرائيل واليهود وكأنهمقبيلة متميزة عن غيرها من القبائل التي عاصرتها، ومستقلة عن جميع قبائل وأعراقالأرض منذ فجر التاريخ، أو منذ ما بعد الطوفان، في وقت الحقيقة فيه خلاف ذلك. فنحن عندما نرجع إلى شجرة الأنساب فيالتوراة في سفر التكوين؛ نجدها رفعت نسب إبراهيم عليه السلام إلى (أرفكشاد بن سام بننوح)، فقد جاء في التوراة: "وَسَامٌ أَبُو كُلِّ بَنِي عَابِرَ وُلِدَ لَهُأَيْضاً بَنُونَ. بَنُو سَامَ: عِيلاَمُ وَأَشُّورُ وَأَرْفَكْشَادُ وَلُودُوَأَرَامُ. وَبَنُو أَرَامَ: عُوصُ وَحُولُ وَجَاثَرُ وَمَاشُ. وَأَرْفَكْشَادُوَلَدَ شَالَحَ وََوَلَد شَالَحُ عَابِرَ وَوَلَد عَابِرُ َفَالَجَ وَوَلَدََفَالَجَ رَعُوَ وَوَلَدَ رَعُو سَرُوجُ وَوَلَدَ سَرُوجُ نَاحُورََ وَوَلَدَنَاحُورَ تَارَحَ. وَوَلَدَ تَارَحُ أَبْرَامَ وَنَاحُورَ وَهَارَانَ. (يراجع سفرالتكوين: الإصحاح 10،11). وفي موضع آخر من التوراة في سفر التثنية نحد كتبةالتوراة ينسبونه إلى (أرام بن سام بن نوح) أخو (أرفكشاد بن سام بن نوح) عندمايكتبوا على لسانه: "أَرَامِيّاً تَائِهاً كَانَ أَبِي". (التثنية: 26/5). فأي النسبين الصحيح؟!. لذلكسنخالف ما درج عليه المؤرخون والكتاب عند ذكرهم سيدنا إبراهيم وبني إسرائيلواليهود من بعده، ونبدأ تحديد نسب سيدنا إبراهيم عليه السلام، لنثبت نسبه العربيمنذ ولادته، وكذلك أن الذي دفع العرب أبناء عمومة بني إسرائيل إلى كراهيتهم وعدمالترحيب بهم أو بجوارهم، ومحاربتهم لهم، راجع إلى ما طُبع عليه بنو إسرائيل منطباع سيئة، وأخلاق عدوانية، منذ فجر تاريخه،وقصتهم مع أخويهم من أبيهم يوسف وأخاه بنيامين على تسمية التوراة له معروفة، فإنكان حقدهم وكراهيتهم وغيرتهم من أخويهم الأصغرين وصلت ذلك الحد فكيف ستكون معغيرهم؟!.إننا نرى أن الرأي الراجح هو الذييقول: أن أصل سيدنا إبراهيم عليه السلام من قبيلة آرامية عربية الأصل، هاجرت إلىبلاد الشام والعراق مع الهجرة الآرامية في الألف الثالث قبل الميلاد، وأن قسم منهاسكن الجزء الجنوبي من العراق، وذلك في العهد الأموري الذي أسس دولة بابل الأولىالتي كان من أشهر ملوكها حمورابي. وقد ولد سيدنا إبراهيم عليه السلام في بداياتالقرن التاسع عشر قبل الميلاد ـ على أقرب التواريخ للصحة ـ ونشأ في مدينة أور بابلالواقعة في القسم الجنوبي من العراق، فقد جاء في التوراة نص قريب من ذلك عن أصلنسب سيدنا إبراهيم عليه السلام، يتوافق مع الدراسات النقدية وما أثبته علم الآثار،وهو: "آرامياً تائهاً كان أبي" (سفر التثنية: 56/5).فقد بات معلوماً أنه: كان الأموريون فيمبدأ الأمر في شمال سوريا، ثم أخذوا ينتشرون بعد ذلك في مناطقها الوسطى وعلىالشاطئ حتى وصلوا إلى فلسطين، وانتشروا نحو الشرق واستقروا في مناطق ذات حضارةقديمة. وأسسوا دولة لعبت دوراً كبيراً في تاريخ العراق، ونشأت فيها أُسرة مدينةبابل حوالي عام 1894ق.م، التي قدر لسادس ملوكها وهو الملك حمورابي الذي بدأ حكمهعام 1728 ق.م أن يوحد البلاد كلها تحت سلطانه وأن ينشئ الإمبراطورية الشاميةالثانية وأن يخضع له كل الدويلات الأخرى مثل دولة ماري ولارسا وعيلام ووصل جنوباًإلى (الخليج الفارسي)[1]. كماهاجر الآراميون واستقرت قبائلهم في أعالي بلاد ما بين النهرين ومنطقة الفراتالأوسط وبلاد الشام وذلك في منتصف الألف الثاني ق.م، ومنهم قبيلة أقامت في جنوبيالعراق[2]. يقولبعض المؤرخين وعلماء الآثار أنه في تلك القبيلة ولد سيدنا إبراهيم عليه السلام نحوعام 1900 ـ 2000 ق.م.كما إننا نجد أن التوراة تناقضتواختلفت في نسب سيدنا إبراهيم، فإنها أيضاً تناقضت واختلفت في إن كان هاجر هوووالده من أور بابل أم وحده! فقد جاء فيالتوراة: "وأخذ تارح إبرام ابنه… من أور الكلدانيين ليذهبوا إلى أرض(كنعان)" (سفر التكوين: 11/31). وكما أن هذا النص يتعارض مع ما ذكرتهالدراسات النقدية وما أثبته علم الآثار من أن اسم كلدية نسبة إلى قبيلة كلديةالعربية، التي هاجرت إلى جنوب العراق وأقامت فيها دولة بابل الثانية لم يظهر إلافي القرن الثامن قبل الميلاد، أي بعد مولد سيدنا إبراهيم بأكثر من ألف سنة، فإنهأيضاً يتناقض مع النص التوراتي الذي يقول: "وقال الرب لإبرام: (اترك أرضكوعشيرتك وبيت أبيك واذهب إلى الأرض التي أريك)" (سفر التكوين: الإصحاح 12/1).فأي النصين نُصدق؟! وأي النسبين نُصدق؟ وأي العهدين لنوحأيضاً تُصدق؟! ولكننا سنُصدق ما ذكره القرآن الكريم لأنه الأصدق.لم يذكر القرآن الكريم أن سيدناإبراهيم هاجر من بلاده ومعه أبيه، لأن أبيه لم يكن على دينه الذي دعا إليه قومه،حيث أن سيدنا إبراهيم عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله تعالى الواحد الأحد،وإلى توحيد الخالق وترك عبادة الأصنام والأوثان والآلهة المتعددة التي كانوايعبدونها، قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَإِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَوَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾.(الأنعام:الآية 74). وعندما ضاق أبا سيدنا إبراهيم بدعوةابنه له وعجز عن رده إلى عبادة الأصنام قال له: ﴿أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِييَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً﴾.(مريم:46). وهذا دليلٌ على عدم صحة النص الأول في التوراة وصحة النص الثاني،والتأكيد على أن إبراهيم هاجر من غير أبيه إلى أرض محددة، قال تعالى:﴿ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِيبَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾. (الأنبياء:الآيات من51ـ71).ورد في تفسير هذه الآية عن ابن كثيروالطبري والقرطبي وغيرهم: قالوا: عن الأرض التي بارك الله فيها للعالمين هي بلاد الشام.وما من ماء عذب إلا يهبط من السماء إلى الصخرة التي ببيت المقدس، ثم يتفرّق فيالأرض. وقيللها مباركة لكثرة خصبها وثمارها وأنهارها؛ والبركة ثبوت الخير.وكان يُقال للشأم عماد دار الهجرة، وما نقص من الأرض زيد في بلاد الشام. وما نقص من الشامزيد في فلسطين، وكان يقال هي أرض المحشر والمنشر.وقيل: بيت المقدس؛ لأن منها بعث الله أكثر الأنبياء لذلك قيل أنها معادن الأنبياء.وهي أيضاً كثيرة الخصب والنموّ، عذبة الماء. وبها مـجمع الناس، وبها ينزل عيسى ابن مريـم، وبها يهلك الله شيخ الضلالةالكذّاب الدجال.وقد هاجر سيدنا إبراهيم عليه السلاموزوجه (سارة) وابن أخيه (لوط) والعدد القليل الذي آمن معه من سواد العراق إلىفلسطين والشام ابتغاء إظهار الدين والتمكن من نشره. وساروا مع طريق القوافل حتىوصلوا حران مدينة شمال الهلال الخصيب تقع على إحدى أفرع الفرات وإلى القرب من تلالخلف. وهي مدينة تجارية واقعة على طريق القوافل بين بابل وسواحل البحر المتوسط.وقد مكث في حران فترة من الزمن ثم تركها ومن معهمهاجراً إلى فلسطين، وبعد عبور نهر الأردن واصل سيدنا إبراهيم سيره إلى فلسطين حتىنزل مدينة شكيم نابلس. ثم رحل عنها متنقلاً في أرض فلسطين إلى أن استقر بع المقامفي مدينة بئر السبع. أما سيدنا لوط فقد نزل قرية سدوم قرب البحر الميت.وقد أقام إبراهيم وسط أبناء عمومتهمن القبائل العربية من سكان بئر السبع وفلسطين داعياً إلى الله تعالى. وقد قامتعلاقة طيبة بينه وبين سكان البلاد الذين أحسنوا وفادته وضيافته لما رأوا من حسنخلقه وصلاحه وكرمه. واستمرت إقامته إلى أن حلت المجاعة بأرض فلسطين فارتحل إبراهيمإلى مصر، ولم يطل به المقام هناك لِما أخبرتنا به كُتب السير مما حدث بينه وبينفرعون مصر، فخرج منها عائداً إلى فلسطين بعد أن زوده فرعون مصر بالمال والماشيةوجارية ـ قيل أنها أميرة من أميرات القصر أو أنها من الأسرة الحاكمة ولم تكن خادمةكما قال البعض، وقد تكون صفة الجارية نقلها الكتاب عن التوراة ـ وهبها لزوجه(سارة) اسمها (هاجر). وبعد عودته إلى فلسطين استقر مرة أخرى في بئر السبع. وبعدفترة قصيرة تزوج إبراهيم من هاجر التي أنجبت له إسماعيل عليه السلام، الذي حملهوأمه بعد أن غارت منها سارة عابراً الصحراء إلى مكة في الجزيرة العربية وأسكنهماهناك. قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَإِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَننَّعْبُدَ الأَصْنَامَ.َربّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِيفَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. رَّبَّنَا إِنِّيأَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِرَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِيإِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾. (إبراهيم: الآيات 35-37).قال المفسرون في مِن ذُرِّيَّتِيولده إسماعيل وزوجه هاجر. وجاء في الحديث: أن هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منهاسارة زوجة إبراهيم فأمره الله تعالى أن يحمل ولده إسماعيل مع أمه من الشام إلى مكةفوضعهما عند دوحة مكان زمزم… وقد أراد الله تعالى أن يكون سيدنا إسماعيل سبباً فيإعادة العلاقة والصلة بين أرض الحجاز وفلسطين.وبعد أن رزق سيدنا إبراهيم بإسحاق(ولد إسحاق بعد سيدنا إسماعيل بأربعة عشر عاماً) من زوجه سارة، هاجر إلى الخليلونزل وسط سكانها العرب وبعض الحثيين الذين كانوا يقيمون فيها بصفة فردية وليسواحكاماً أو ذوي سلطة، وقد كانت تسمى الخليل آنذاك بقرية أربع نسبة إلى أربع أحدحكامها وغالباً أنه هو الذي أقامها وبناها.وبقية القصة معروفة وليست موضوعنا،ولكن نريد أن نلفت النظر إلى ما تبع تلك القصة من تقسيمات للعرب إلى عرب بائدة،وعرب عاربة، وعرب مستعربة؟!.
[1] أحمد فخري، دراسات في تاريخ الشرق القديم، مكتبةالأنجلو المصرية، القاهرة، الطبعة الثانية، أُكتوبر 1963، ص34.
[2] عبد الحميد زايد، مرجع سابق، ص61.