المضحك المبكي
بقلم : ديمة هديب
في إحدى جلساتِ العائلةِ اللطيفة في إحدى الأمسياتِ الجميلة.. ذاتِ الطَابع الخاص الذي افتقده أغلبُ الناس.. كنا في حوارٍ جاد حولَ أمرٍ يتعلقُ بأهلِ هذهِ الدار.. فقد اقترحَ أخي العظيم اقتراحاً لطيفاً وقال لوالدي الحبيب: ما رأيكَ بشراءِ سيارة أفضل من السيرِ في الطرقاتِ الحارَّة.. وانتظار المكروباص أو ما يسميه الناس "السردين باص" فالأمر جد مثير والطريقُ طويلٌ وخطير..
فوافقته بكل سعادة وقلتُ وكلي إرادة وهذه هي العادة: ((واللهِ معه حق فما يحدث في المكروباص لا يتحمله سوبرمان ولا حتى سبايدرمان))..
فنظر لي والدي نظرةَ ريبة وقال بكل تعجبٍ وريبة: هل حصلَ معكِ شيءٌ لا تُحمَدُ عقباه أم أنَّ الأمرَ دلالٌ ورفاه!!..
فقالت أختي الغالية ذات القراراتِ الصائبة: الأمرُ لا يتوقف عندَ هذه المسكينة فمن كان طريقه إلى الجامعة فسوف يرى من عجائبِ الدنيا الغريبة.. فقد حدثتني صديقتي الصدوقة أنها في إحدى مرات ذهابها للجامعة ركبت أمامها فتاة يافعة.. أعتقدُ أنها في الثانوية وذلك لأنها تحملُ كتابَ الفيزياء الذي وصلَ الناسُ للقمر ونحنُ ندرسُ نواسات وارتداد كراتٍ في الحفر!!!.. وفي هذا الطريق صعدَ شاب ويَظهرُ أنه قد كبر في صيدِ الفتيات وشاب.. فألقى لها نظرةً ذات معنى فلم تلتفت فعقلها ليس معها!!.. وتتالت النظرات وبعدها الهمسات ثم اللفتات إلى أن انتبهت... فسمِعَت أنها ملكة الجمال وسارقة الألباب وأميرة الدلال.. فابتسمت.. فأخذَ الضوء الأخضر وقرَّب هاتفه الأحمر لتبادل الأرقام والتعرِّف على الدوام.. وبسرعةٍ خاطفة وبقراراتٍ صائبة وبنظراتٍ ثاقبة كانت قد تمت المهمة وانتهت بكل نشاطٍ وهمة..
فقلت لأختي اللطيفة: أبهذه السرعة العجيبة أصبحت الصداقات الغريبة؟!!
فقالت أمي الحكيمة: لا تتعجلي فالأمر أصبح وباء والأرجحُ أنه بلاء.. فكم من فتاةٍ وجهت ذاك السهم فاستقر في القلب وأتبعَ بعده مصائب كالخثرة في الدم أو الهشاشةِ في العظم!!!..
وجلتُ في الذكريات كي أسردَ عليهم من المغامرات التي تحصل معي في وسائلِ المواصلات..
هل أذكرُ لهم جماعات الشباب الذين يصعدونَ الحافلات منددين وصارخين ومنفعلين ومتذمرين لأنَّ حارسَ المرمى النشيط استقبلَ الكرةَ استقبالَ الضيفِ الكريم.. أو لأن الحَكَم قبضَ وأكل فحَكَمَ لصالحِ الفريق المحترم.. هذا هو نقاشهم وهذا هو اهتمامهم..
سأخبرهم بقصة الهاتف المحمول وأنَّ الجميع يمسكونَ به ويتحدثون وبصراحةٍ أكثر يكذبون.. فيقولون نحنُ في الوظيفة وهم في وسطِ المدينة.. ولن أنسى ما حييت تلكَ الأم الحنون التي أمضى ابنها الطريق وهو ينامُ ولا يكادُ يفيق.. ويصطدمُ رأسه بالنافذة وهي عابثة لاهية.. تلعبُ بالجوال وكأن هذا الطفل جاءَ من ميتم الأطفال!!!
ماذا أقول؟! سأحدثهم عن الطفلِ الصغير ذي العقل الكبير الذي ينتظرُ كلَّ يوم فيطلب الطعام من أولئك اللئام كما يسمينا على الدوام..
سأتحدث عن قصةِ التدخين وكيف يضيق بك المكروباص بما ضاق - أي بما رحب - وأنتَ تطلبُ الأكسجين ولا يأتيكَ طبعاً إلا بنزولكَ من هذا الحصن الحصين..
يا الله.. لا أريد أن أتذكر المساواة التي أخطأت النساء عندما طالبت بهذه الحقوق البلهاء.. فقد ساوى الإسلامُ وكفى ولكنا نحب أن نرى الظلم والأسى.. كنا نجلسُ مكرَّمات لا نتعرض لمضايقات.. ذلك لأننا الفتياتُ المهذبات والأمهاتُ الرحيمات والأخواتُ اللطيفات.. والآن أصبحنا مهمَّشات نجلس على الحافات ونقف وسطَ الحافلات.. إلا اللهم إذا قامَ شاب فيه خير ويهتم بالغير.. فكبر عليه منظر تلك الفتاة فأجلسها بكل هدوءٍ وأناة..
ماذا أيضاً يا ديمة؟! وما عندك من هذه المواقف العظيمة؟!
لن أكونَ ضبابية وسلبية فأنا أحبُ الإيجابية وأعشق الموضوعية.. ففي هذه الوسائل مظاهر خيرٍ كثيرة فهناك شابٌ يقرأ القرآن ويطمح بالجنان.. وآخر يقرأ بكتاب الجيب لأن الوقتَ عنده أغلى مما في الجيب.. وأخت غالية تدرسُ في كتب الجامعة.. وشابٌ يقفز من كرسيه الجميل ليعطيه لذلك الشيخ الجليل.. وسائق يضع درساً في المذياع كي ينتشرَ الخيرُ ويُذاع..
ومواقف إيجابية لا نستطيع إنكارها.. سردت هذه المواقف بحضور الأهل والأقارب.. وقلت في النهاية: إنَّ المواصلات مرآة الناس والأمة وهي تسلية لمن أراد التسلية ومدرسة لمن أراد الدراسة.. فيها الصدق لأن الناس فيها يتسمون بالصدق ويبتعدون عن الرياء والكذب.. فيها تظهر طبائع الناس لأنك تتعامل مع مختلف الأجناس.. فيها يتعلم الأخ من أخطاء أخيه ويبتعد عما يؤذيه..
هي كحياتنا فيها صعود ونزول.. فيها إيجابية وسلبية..
فيها حبٌ وكره.. فيها حنانٌ وقسوة.. فيها خطأٌ وصواب.. فيها ضحكٌ وبكــــــاء..
وحصل الإجماع بكل حب وإرادة: (( أن دعونا في وسائلِ المواصلات نتعلمُ منها ونستفيد فحتى لو هربنا منها فلن تستمرَ الحياة إلا بطريقةِ وسائل المواصلات....))