الصدمة الكهروشاعرية في ديوان "آلام و أحلام"
* مازالت صفحات الإبداع تنبض و ترسم لون المستقبل ، و في دنيا الإبداع تختلف الصور و الحركات و آليات التمرد لتوجيه الأحاسيس الماطرة نحو العدل و الجمال و الرضا ، و قد تتباين الانفعالات و تختلف الدوافع ، ولكن الموهبة الصادقة تؤكد وجودها من خلال التعبيرات و الأفكار و الأخيلة ، فضلاً عن الجديد الذي يتفاعل مع الواقع بصوت مختلف ، وبلغةٍ مُمَوْسقةٍ و تركيبٍ دقيق ، و كما تتنوّع الأجناس الأدبية و الفنية تتنوع أيضاً لغات التعبير و لهجاته ، و الأروع دائماً يكمن في نبض الحروف و التماس من خلالها مع تصورات و مشاعر المتلقي ، و من هنا كان القلق من انتشار العامية على حساب الفصحى ، و مع حركات التطور أثبتَ شعراء العامية انطلاقة كبرى و تفوقاً ، و تمكن الشعر العامي من احتلال مساحة شاسعة في صرح الأدب العربي ،
و من الشعراء الذين كتبوا بالعامية و لهم تجارب بالفصحى الشاعر الصديق محمد عبدالحميد الشلقامي ، و لقد ظهر التنوع و التجديد في باكورة إصداراته "آلام و أحلام" ، و قد تناول عدة قضايا منها العلاقة الوطيدة بين القلم و الحرف و آلام الحب مع الروابط الأسرية التي يرمز بها إلى الوطن الأكبر من خلال قصائده إلى أمه و معشوقته بأسلوبٍ قد يكون تقريرياًّ أحياناً ، و ساخراً أحياناً أخرى .. ، و قد يأخذ شكل الفزورة لعلاج بعض القضايا السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية مراعياً الرابط بين طموحات الشباب و خبرات الشيوخ و تنويعات المرأة رغم قلّة قصائده في الحب ،
و من ناحيةٍ أخرى تظهر الصور و الحركات مع التلاعب اللفظي بأسلوبٍ شيّق و بسيط رغم كثافته و عمق المضامين التي شكّلتْ إبداعاته ، و جعلتْه - وبعد مرور تسعة و خمسين سنة من التجارب الحياتية- يُعيد اكتشاف نفسه ، و لاسيّما بعد رحلات قضاها مغترباً سواءً في بلده أو بسفرياته للعمل و البحث عن الرزق لمواجهة متطلبات الحياة ، فكان "محمد الشلقامي" الشاعر ، و كان إصداره "آلام و أحلام" ، و كما تلمس قصائد الشلقامي الواقع المرير ، فهي كذلك تستشعر الأمل في المستقبل الزاهر ، و يتبيّن ذلك في العلاقة بين آلامه و أحلامه ..!
و حول القلم ، و أهمية الكلمة ، و ما ينجم عنها من انفعالات متناقضة كالحزن و الفرح يقول :-
ألم يجرّ فْ ألم ... و ألم ييجي و يروح
و تتضح أهمية القلم كذلك في الحوارية بين الشاعر و قلمه ، و إلقاء التهم و الشكوى ، و اختلاق المبررات حتى بينه و بين الحبر ، و ما أن تستمر هذه الحالة حتى يضجَّ القلم ، فيردّ على صاحبه بقوله:-
تلعن أبويا بدون سبب ... ترميني ليه ، سِنّي انتنى
و تقوللي مليان حبر غم ... و الحبر فيك ، مش فيه انا
و يُجيبه الشاعر بسخريته المعهودة :
يا عم كبّر دماغك ... و اكتب كلام فاضي
الكل راح يسمعك ... و عنك يكون راضي
و احلق و نفّض و هيّس ... سيبك من الماضي
في الماضي كان فرسان ... و كان الألم سيفهم
و الماضي ولّى و كان ... بقى كب شيء عادي
و يردُّ عليه القلم بما يُغضب شاعرنا ، و يتولد الحزن في القلب حتى يجفّ الحبر و يحتضر .. إذْ يقول:
لحدّ إمتى حـ افضل اكتب ... و بقلم من حبره فاضي
لا حدّ شايف له كتابة ... و الزمن بالعمر ماضي
و كل يوم أسأل يا قلمي ... ع اللي كتبته .. إنت راضي؟
يرد قلمي و ببساطة ... طبعاً يا صاحبي الأمر عادي
ناس كتير زيّك بتكتب ... و الحظوظ مش بالأيادي
و ناس كتير كتبتْ و نشرتْ ... كلام و كان م المعنى فاضي
و حبره جفّ ما بين ضلوعه ... و اترمى بين الأيادي
والقلم من حزنه مات ... و حلفت ما اكتب م الساعة دي
و تنتقل الحوارية من القلم إلى الشعر ذاته .. يقول :-
يا شعر إيه اللي نابك ... بعد ما كنت مصون
و الكل يعشق رحابك ... وباحلى الكلام مفتون
خلعت سِنّك و نابك ... بعد ما كان مسنون
ياريت تراجع حسابك ... و اعقل كفاية جنون
و في إطار الفوازير يعرض الشلقامي نصّين أحدهما حول قضية بيع لحم الحمير ، و الآخر حول انخفاض العملة المصرية مقابل الدولار .. يقول :-
نحطّ له برسيم و ناكل ... نركبه و نقول له شِيهْ
و اللي زيّه مالوش مشاكل ... و "الصغيّر" غنى ليه
و الجزار بيبيعه عادي ... و قاللي لحم ، الله عليه
لو عرفته ليك هدية ... سته كيلو حمير بانيه
يا للـه حزّر .. ياللـه فزّر ... البعيد دهْ إسمه إيه
و يقول :-
مات قتيل الله يسامحهم ... ألف رحمة و نور عليهْ
و اكتبوا على قبره كان ... كان له قيمه ، وكان نزيه
يا للـه حزّر .. ياللـه فزّر ... القتيل كان إسمه إيه
و حول عتاب الأم الكبرى يقول الشلقامي :-
بعاتبك و انتِ عاتبيني ... و إن أخطأت حاسبيني
و إن أخطأت إنت اميّ ... و فيكِ ما تترفع عيني
و تكشف إبداعات "محمد الشلقامي" ما يدور في خلجات نفسه و همومه .. إذ يُعبر عن ذلك بقوله :- "أنا المنسي ، أنا المقهور"
و لكنه لا ينسى أبداً قيمه السامية ، و انتماءه و ولاءه لمسقط رأسه مصر ، و يؤكد أن مصر ولاّدة ، و ينبغي أن نأخذ من الرموز دوافع لنا .. إذْ يقول بلغته الخاصة:-
بلاش نحلم يا ولاّدة ... بسعد و مصطفى و فريد
حرام يبقى لنا يوم وقفة ... (وقبل الوقفة ييجي العيد)
و من الشعر القصصي يقول بسخريته:-
عصفور و طاير في الهوا ... عايش في امان و سلام
و كل يوم على غصن ... مطرح ما يمسى ينام
ضحكت عليه عصفورة ... وقالت له يا مسكين :
ياللـه نعيش الحيتة ... دي كلّها ساعتين
و قفلت عليه الباب ... وقالت له ياللـه نعيش
و لماّ فاق الصبح ... لقى نفسه من غير ريش
و حول مشكلة الانتاج و مطر المنتجات الصينية يقول :-
يخلّيكي ياماما الصين ... ولا من شيء حرمتيني
ملابس ، أجهزة بطاطين ... و خيرك بات مغطيني
فلوسي رايحة على جيبك ... و جيبي أنضف من الصيني
و يتعرض شاعرنا إلى تدهور الصداقة و معتبراً الصديق هنا هو الإنسان أو المال أو حتى الضمير و كل ما يجتبيه المرءُ صديقاً له ، و يُبين أنه باختلاف نوع الصديق تختلف نواتج هذه الصداقة ، و خصوصاً إذا تعرضت العلاقة بين الأصدقاء إلى عوامل تعرية و ظروف سلبية .. ، يقول :-
ياللي حالك زيّ حالي ... كل يوم بتخسّ حتةْ
كلّه طالع في العلالي ... كله بيزيد إلاّ إنت
الكلّ طلع لك لسانه ... ما عدشي ليك في البورصة لازة
إيه اللي صابك ، إيه اللي نابك ... كسروا سِنّك و نابك
كنت تتباهى بشبابك ... و احنا نتحامى فْ جنابك
المرض صابني و صابك ... و اتفضحنا فْ كل حتةْ
و في دعوة للحب يقول :-
تعالوا نحب بعضينا ... و نفتح مدرسة للحب
و شرط أساسي للطالب ... يكون ليهْ قلب
و تعليمها محبة و نور ... و منهجها رسايل رب
بلاش كيميا ، بلاش ... ذرة ، نبطّل حرب
و نزرع كل أراضينا ... بذور للحب
و لماّ زرعنا يكبر ، معاه نكبر ... لبعضينا نصدّر حب
و يؤكد على الوحدة الوطنية بقوله :-
تعالوا نحب بعضينا ... و لا يفرّقنا دين و لا لون
و نرضي ربنا فينا ... و خيراته تعمّ الكون
و حول عدم استخدام العدل ، والكيل بمكيالين من قِبل القوى الكبرى يقول مواجهاً أمريكا:-
حنان الأم أمريكا ... يجمّعنا على كدبةْ
و تعزف لينا مزّيكا ... تركّعنا على الرّكْبةْ
ترقّصْنا على السيكا ... تحضّر لينا 100 تُرْبةْ
حتى يصل إلى قوله :-
تحطّ فْ بُقّي بزّازة ... و تلْهي أخويا بأزازة
و هيه محضّرة جنازة ... و بتجهّز لنا التانية
و في استفهام تعجبي يقول :-
حرام نحلم ببكرهْ جديد ... حرام فرحة ولادنا تزيد؟!
و يتبيّن كلك نجاحه في استخدام التناص بقوله :
حرام يبقى لنا يوم وقفة ... (وقبل الوقفة ييجي العيد)
و على نفس المنوال يتحرّك شاعرنا ساخراً على "توك توك إمبابة" ، و يتغنّى بقولة :-
يا ابو تَلتْ عجلات ... و عامل لي دبابة!
و يربط كذلك بين دبّابة التوك توك ، و دوره في الضوضاء و مشكلا الشوارع و خطف الفتيات و اختناق المرور ، كما يربط بين ظاهرة توك توك إمبابة ، وبين دبابة النصر الحقيقي ... يقول في تحية لعمال مصر:-
في ساعة الحرب همّ جنود ... في لحظة يعبروا قنالك
في ساعة السلْم همّ ورود ... على صدرك ، هنياّ لك
و همّ النيل ، وهم السد ... و هُمّ بجد راس مالك
و تمتزج آلام محمد الشلقامي بأحلامه ، و يتمنى في نفسه أشياء لم يستطع أن يُعلن عنها إلاّ من خلال نبضات الشعر الوارفة .. حيث يقول في قصيدة "وكان نفسي" ثلاثة مقاطع يُعبّر فيها عماّ كان ينبغي أن يراه في قضايا ثلاث ، و هي مكانة أرض الوطن بشهادة الأجانب ، و القضية الثانية هي قدوة القائد ، أما الثالثة فهي قضية أقاليم مصر لمواجهة الأزمات ... ، يقول الشلقامي:-
و كان نفسي يا طرح الخير ... يكون طرحك عنب مع تين
لقيت طرْحك بقى حصْرم ... يا طرّاحة بقالها سنين
و لقد تكررت عبارة "و كان نفسي" مرّات كثيرة في قلب قصائد ديوان "آلام و أحلام" ، فضلاً عنْ اختصاص إحدى القصائد بعنوان "وكان نفسي"
و على جانب آخر من جوانب القصيدة عند الشلقامي يتبين تنوع البحور ، مع التجديد في الصورة .. تلك الصورة التي انطلقت من خلال معالجته لأمور واقعية ، و إدخالها في مساحة لانهائية من التخييل ، و بلا سقف يحدّ من انطلاقة "النسر" نحو الأعلى ، و احتلاله قمم الترميز الشاعري ، و في تجاربه التي أعلن عنها ديوانه الأول "آلام و أحلام" تظهر اللغة الساخرة التي يتميز بها ذو الخبرة ،
و رحم الله أمير الشعراء أحمد شوقي إذْ كان يقول "أخشى على الفصحى من عامية بيرم التونسي" ..
و يتبقى .. إننا أمام شاعر يمتلك أدواته و صوَره ، و سوف يحتلّ قصيدُه مكانةً بين إبداعات شعراء العامية المرموقين أمثال بيرم التونسي ، صلاح جاهين ، جمال بخيت ، أحمد فؤاد نجم
و لا يفوتني أن أذكر بهذا الصدد أن الشاعر "محمد عبدالحميد الشلقامي" له أنشطة اجتماعية و عضو في عدد من الجمعيات الأدبية و النوادي ، و يعمل بشركة توزيع كهرباء شمال القاهرة ، و لعلّ إصدار باكورة أعماله تحت عنوان "آلام و أحلام" يكون هو الماس الأول لانطلاق الشرارة التي تنبعث منها الصدمة الكهروشاعرية في المستقبل .
محمد الشحات محمد