سلسلة مقالات عن الأطفال في عالمنا الإسلامي: الحقوق والتحديات -3-
الحلقة الثالثة
بناء طفولة حقيقية، الحضارات الإسلامية أنموذجا
صالح الطائي
إن كان الإسلام قد نجح في وضع أسس بناء الطفولة الحقيقية وأوجب على المسلمين حقوقا للطفل والطفولة يؤثم من يخرج عليها أو يخالفها، فإن غالبية المسلمين وللأسف الشديد لم ينجحوا كليا في تطبيق هذه المباديء في حياتهم بشكل سليم، ولاسيما بعد انقضاء عصر الخلافة الراشدة وولادة الحضارات الإسلامية، ومن ثم خضوع البلاد الإسلامية للاستعمار الأجنبي المتكرر عبر التاريخ.
نعم بدأت مرحلة التأثير والابتعاد عن التطبيق الحرفي للقوانين الشرعية تدريجيا مع دخول السبي الأعجمي إلى بلاد المسلمين تزامنا مع بداية الفتوح الإسلامية لبلاد فارس، ولكن تتبع الخلفاء الراشدين ومعاقبتهم للمسيء حال دون تفشي ظاهرة سلب الحقوق التي بقيت محصورة في نطاق ضيق، ولكنها على كل حال أسست لنفسها قاعدة ممكن أن تكون منصة انطلاق في المستقبل. أما في العصرين الأموي والعباسي فإن سلب الحقوق وصل إلى مديات تتقاطع في بعض جوانبها مع الشريعة كليا لأسباب كثيرة منها:
• تنامي ثروات المسلمين بسبب أموال الفيء والفتوح الطائلة مما دفع الأغنياء للبحث عن الملذات وحياة الترف والمتعة والانشغال بحفلات اللهو عن متابعة تربية أبنائهم وتعليمهم.
• دفعت حياة الترف واللهو المسلمين إلى إهانة الأسرة والمرأة الزوجة والطفل بعد أن تناسوا ما قاله النبي لهم من نصائح وتعليمات مثل: "خيركم خيركم لنسائه وأنا خيركم لنسائي" وقوله: "من اتخذ زوجة فليكرمها" فنسوا الإحسان مع أهلهم ولم يحسنوا إليهم، قال الإمام الصادق (ع): "رحم الله عبداً أحسن فيما بينه وبين زوجته"
• دخول الإماء والجواري إلى بيوت المسلمين حتى الفقيرة منها وإسناد تربية وتعليم الأطفال إليهن مما أثر على نوع العلاقة الأسرية. ومعروف أن للعلاقات الأسرية دورا كبيرا في توثيق وتماسك بناء الأسرة ونمو ونشأة وتربية الطفل.
• دخول الثقافات الأخرى إلى البلاد الإسلامية وحدوث التناقل الثقافي بينها وبين الثقافة الإسلامية. وقد جاء في الحديث: "قَلب الحَدثِ كالأرضِ الخالية، ما ألقي فيها منْ شَيءٍ قَبلَته"
• انشغال المجتمع بالمكاسب الدنيوية والحراكات السياسية والبحث عن المناصب والمكاسب.
• انشغال القادة والوجهاء بالأمور السياسية والتقاتل على السلطة والوجاهة.
• دخول الحملات الاستعمارية المستمرة من أصول وأجناس وثقافات مختلفة بعضها فارسي وبعضها تركي وبعضها مغولي أو تتري، ثم الاستعمار الحديث البرتغالي والأسباني والإنلكيزي والفرنسي والأمريكي والسيطرة على مقاليد أمور البلاد الإسلامية والتحكم بالثقافة والتعليم والعقيدة.
هذه المتغيرات الحياتية دفعت الكثير من المسلمين إلى الابتعاد عن جوهر العقيدة، أو التسامح في أمور خرقها، والتساهل في عدم تطبيق قوانينها، وعليه لا يمكن أن نعتبر سلوكا ما صدر قديما أو يصدر اليوم عن مسلم في شرق الأرض أو غربها ترجمة حقيقية للسلوك الإسلامي الشرعي، فثمة مسافة فاصلة بين المشروع العقدي والمشروع الحياتي للمسلمين.
ومعنى هذا أننا يجب أن نفرق ونميز بين ما جاء به الإسلام وأمر الناس بالالتزام به، وبين ما يقوم به بعض المسلمين من مخالفات، لكن مع هذا وذاك يجب أن تحترم إرادة المسلم ولا يجوز تحت أي دافع اختراق هذه الإرادة أو تجاوزها وإلغائها، لأن مجرد حدوث ذلك يعني أن دكتاتورية الإكراه القسري لا زالت تؤثر على اتخاذ القرارات المصيرية.
نحن لا يمكن أن ننكر أن في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المسلمين واجهت الطفل المسلم تحديات كان بعضها خطيرا ومدمرا وفيه الكثير من العسف والجور والتخلف السلوكي الذي لا يتواءم مع التقدم العصري. لكن مع التقدم الحضاري الذي اكتسبه المسلمون من خلال تعاملهم مع الحضارات الأخرى بدأ الطفل في بعض مجتمعاتنا يستعيد حقوقه ـ في الأقل ـ في البلدان الغنية ماديا وثقافيا، أما البلدان الإسلامية الفقيرة فإنها لا زالت تحتاج إلى مساعدة إسلامية ودولية لتجاوز حالة الفقر ومنح أطفالها الحقوق التي يوجبها الدين والقانون.
إن مجرد توقيع تلك البلدان على الاتفاقيات الدولية لا يعيد إلى الأطفال حقوقهم المصادرة لأن الفقر هو الذي صادر تلك الحقوق.
ويعني هذا أننا (بلدانا ومنظمات دولية) لم نحقق بعد الكثير من الطموح فلا زال الهدف الحقيقي بعيدا عنا ويحتاج إلى تضحيات متبادلة بيننا وبين الساعين إلى تحرير الإنسان مهما كان عمره وجنسه ولونه من ربقة العبودية المقنعة للإنسان الآخر سواء كان أبا أم أسرة أم حكومة أم عقيدة. وهذه ليست دعوة لترقين قيد العقيدة ونزعها من النفوس أو تمردا على النظام الأسري بقدر ما هو منهج تصحيح للتعامل مع العقيدة، لأن ما يحدث اليوم من خرق لمنظومة الحقوق بعيد جدا عن جوهر العقيدة التي نعرفها والتي قامت على مبدأ منح الحقوق للبشر كافة.
وإن كان أهلنا قد أورثونا مناهج التخلف التي كانت ولا زالت تتحكم بطرائق حياتنا وعيشنا تماما كما هي عندهم بالأمس، فإن مجرد معرفتنا لمخالفة هذا الموروث لعقيدة الإسلام الصحيحة يوجب علينا رفضه ورفض العمل به والتعامل معه بحدية والاستعاضة عنه بالمنهجين المتاحين، المنهج الإسلامي الحقيقي غير المحرف، أو المنهج العالمي الذي تتبعه المنظمات الدولية ويتواءم مع معتقدنا وعاداتنا وسلوكياتنا. ونحن هنا مخيرون تماما كما لنا الخيرة في اقتناء سيارة غربية من ماركة أو لون أو حجم معين وتفضيلها على السيارات الغربية الأخرى دون أن يرغمنا أحد على تغيير قرارنا، بمعنى أننا مخيرون بأخذ ما يتوافق مع حياتنا ورفض ما يتعارض مع آدابنا وموروثنا.
اذكر أن عدم اختيارنا لأحد المنهجين (الإسلامي أو الدولي) يعتبر تقصيرا يضعنا أمام المساءلة ويديننا بالتأكيد، فاختيارنا للقانون الإسلامي يجد معارضة من المنظمات الدولية تؤثر على سير حياتنا، واختيارنا العشوائي لقوانين المنظمات يضعنا أمام احتمالية الوقوع في الخطأ ومخالفة الشريعة. الإسلام لا يساوم على قوانينه ويرفض الانتقاء، والمنظمات الدولية لا تقبل الانتقائية وتريد الأخذ بقوانينها جملة واحدة دون تفكيك. ويكذب من يدعي أن ما في القانونين متشابه كليا أو مختلف كليا، فهناك بينهما الكثير من التوافقات المدهشة، وبينهما الكثير من الاختلاف الحدي الذي يصل أحيانا إلى مرتبة الكفر، وكل منهما يصر على تنفيذ قانونه.
هنا تولد أهمية البحث عن الميسرين والاختصاصيين في حل النزاعات ومهارات التفاوض عسى أن ينجحوا في تقريب وجهات نظر الطرفين من خلال الاتفاق على تغيير نمطية بعض الأحكام وإلغاء بعضها بما لا يشكل طعنا بروح القوانين وجوهرها وبالتالي تصبح مستساغة لكلا الجانبين.