لحضارتنا الإسلامية خصائص عديدة، لعل أبرزها وأكثرها نفوذا في واقعنا المُعاش: [الوسطية، والعملية، والغائية]. دارسو حضارتنا في تناولهم لهذه الخصائص وفي تنقيبهم عن جذور آلامنا الحضارية، لا يتجاوز جهدهم التوقير الشديد لهذه الخصائص، أو على الأقل مُسالمتها، فضلا عن توجيه اللوم للأجيال، خاصة الحالية، من منطلق مسئوليتها عن عدم استثمار هذه الخصائص وإخفاقها في محاكاة ما جرى في صدر حضارتنا العتيقة، فاستعادة "يوتوبيا" السلف حُلم يُراود حتى أكثرنا تململا.الوسطية والعملية والغائيةحازم خيري
دارسونا لم يجرؤوا – بعد - على التشريح النقدي لهذه الخصائص الراسخة، واختبار بنيتها الذاتية، حيث الاكتفاء بدراسة تأثيرها، وإدانة الفشل في استثمارها.
الوسطية مثلا – ومن النظرة الأولى، حال النظر النزيه والمنظم – تحمل في طياتها بذور مُعاداة التطرف، ولو كان خلاقا، رغم أن العبقرية في جوهرها تطرف، بمعنى الخروج عن المسار المجتمعي العام، على نحو غاية في الخصوبة والإلهام.
مجتمعاتنا في ولعها بالحلول الأسهل والأكثر إضرارا بالمستقبل، يُزعجها كثيرا الخروج عن المألوف وارتياد آفاق غير مأهولة، مُوصدة بذلك الباب أمام الابتكار، المرغوب منه وغير المرغوب. المخاطرة والألم لا طاقة لمجتمعاتنا المُتعجلة بهما!
بيد أن الغريب هو تكالب مجتمعاتنا على استهلاك نتاج عبقرية المجتمعات الأخرى، دون أدنى وخز ضمير أو خجل، على خلفية قناعة كلاسيكية، مفادها أننا نمر بعصور انحطاط، بعد عصور ازدهار، فالنجاح عندنا يجب ما قبله! لا تتقبل مجتمعاتنا أن النجاح الذي لا ينطوي على مقومات الاستدامة أسوأ كثيرا من الفشل.
مُعاداة التطرف، بتحالفها مع خصائص أخرى كالعملية والغائية..الخ، تُنتج مزيجا حضاريا آية في الخطورة، لا يدوم معه نجاح، ولا يُستفاد معه من فشل..!!
من هنا، فانه حتى لو عادت عصورنا الذهبية – وقد كانت ذهبية في بعض جوانبها وخربة في جوانب أخرى -، سرعان ما سيُصيبها العطب، فالوسطية والعملية والغائية، ذلك المزيج العبقري، سرعان ما يُطفئ بمائه شرارة التطرف الخلاق..
فالمهم برأي كهنة هذا المزيج هو العيش..ولو كان أسوأ من الموت!
ثمة حاجة ماسة لتخلى دارسي حضارتنا عن دأبهم في الاكتفاء بلوم الأجيال المُتعاقبة لتفريطها في ميراثها الحضاري! والتباكي على عصور ذهبية، تُستعاد حتما – من وجهة نظرهم –، بمزيد من الانحشار في خصائص حضارتنا والمسالمة التامة.
ما نتصوره خلاصا، هو – وتلك هي المفارقة - مقتل حضارتنا الإسلامية.