صالونات القرآن.. من التزكية إلى العمرانعبدلاوي لخلافة / 26-09-2009
د. فريد الأنصاري
هل هناك منهج لتلقي القرآن والاستبصار بآياته؟ وهل ثمة دليل إرشادي عملي للانتفاع بمجالس الذكر الحكيم أو "صالونات القرآن الكريم"؟ سؤالان يحتاجان إلى إجابة في ظل شيوع ما يسمى بـ"القراءات الحداثية للقرآن"، وهو ما قام به الدكتور فريد الأنصاري، الداعية المغربي وعضو المجلس العلمي الأعلى بالمغرب، في مجموعة دراسات قرآنية ابتدأها بكتاب "بلاغ الرسالة القرآنية" و "ميثاق العهد"، ثم كتاب"الفطرية: بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام"، وعمق البحث فيها عبر سلسلة الدراسات العلمية ضمن مجلة "رسالة القرآن: من القرآن إلى العمران".
غير أن الكتيب الذي يحمل اسم: "مجالس القرآن.. مدخل إلى منهج تدارس القرآن العظيم وتدبره من التلقي إلى التزكية" يعد زبدة جامعة لحسنات هذه الدراسات لكونه يقدم الجانب الإجرائي والتقني لعملية مدارسة القرآن وتلقيه لبلوغ التزكية الربانية، مقدما خطوات عملية لتنفيذ "المشروع" والمنهج اشلعلمي لإقامة "مجالس القرآن" وضوابط إنجاحها لبلوغ البعث الممهد لعملية التجديد الإسلامي.
مفتاح المشروعيقسم الدكتور فريد الأنصاري مؤلفه، الذي لا يتجاوز المائة صفحة من الحجم المتوسط، إلى جزأين رئيسين، يقدم الأول التصور الخاص لمجالس القرآن أو "صالونات القرآن" التي يشترك في الانتفاع بها عامة الناس ويقودها العلماء الربانيون ويتداول على تسييرها الأساتذة المتخرجون منها دون تفاضل.
أما الجزء الثاني فيخصصه الأنصاري للجانب العملي لتنفيذ المشروع القرآني وضوابط إنجاحه وتسييره.
وعليه فالكتاب يأتي "كدليل عملي إرشادي" لمساعدة من لا خبرة له سابقة في تدارس القرآن وتدبره، ويشرح الخطوات المنهجية بصورة مبسطة وسهلة رغبة في "تعميم الاشتغال بالقرآن والرجوع إليه لتربية الفكر والوجدان وتمتين نسيج المجتمع على منسجة الإيمان"، لينطلق من "القرآن إلى العمران" وبناء النفس المؤمنة على أسس عصرية.
فمشروع "مجالس القرآن" -بحسب الأنصاري- (مدرسة شعبية لنشر ثقافة القرآن وبناء أخلاق القرآن، ودعوة لتداول القرآن في السلوك الفردي والاجتماعي من خلال الإقبال العام الشعبي على تعليم القرآن وتدارس القرآن وفتح "صالونات القرآن" داخل الأسرة وبين الأصحاب لتقديم كئوس الذكر للأهل والأحباب والأقارب والجيران، ولا أحلى ولا ألذ من موائد القرآن ومجالس التدارس الميسر لسوره وآياته بين يدي الرحمن) ص : 14.
وهي أيضا: (مشروع دعوي تربوي بسيط سهل التطبيق والتنفيذ، سلس الانتشار، غايته تجديد الدين وإعادة بناء مفاهيمه في النفس والمجتمع بعيدا عن جدل المتكلمين الجدد وبعيدا عن تعقيدات التنظيمات والهيئات، وبعيدا كذلك عن الانتماءات السياسية الضيقة والتصنيفات الحزبية المربكة). ص : 16.
- عنوان الكتاب: مجالس القرآن: مدخل إلى منهج تدارس القرآن العظيم وتدبره من التلقي إلى التزكية.
- المؤلف: الدكتور فريد الأنصاري.
- منشورات ألوان مغربية ضمن سلسلة "اخترت لكم" سنة 2004.
- عدد الصفحات: 80 صفحة من الحجم المتوسط.
ويضيف: "مشروع صالونات القرآن أو مجالس القرآن: مسلك تربوي مبسط لسلوك طريق النور قصد التعرف إلى الله، مشروع ليس لنا فيه من اجتهاد إلا الجمع والترتيب ومراعاة التنزيل في واقع جديد، نأخذه كما هو من القرآن والسنة النبوية، مشروع لا منة فيه لأحد إلا لله.. ولا انتماء فيه لقائد أو رائد ولا لتنظيم أو جماعة، بل هو انتساب تعبدي لله". ويرى الأنصاري أن الدخول إلى فضاء مجالس القرآن أو تنفيذها يتم عن طريقين:
- مجالس القرآن الأسرية: داخل الأسرة لبنائها على مفاهيم الإسلام وتكوين البناء على مختلف أعمارهم على مواجيد الإيمان وقيم الدين، ويقود الأبوان مجلس القرآن داخل البيت، وهو ما سيعوض استجداء النظريات التربوية وحل المشاكل الأسرية، لأن مجموع أفراد الأسرة سيستفيدون من بركة وخير القرآن وتربيته الفطرية للأفراد.
- صالونات القرآن: وتكون بفتح صالون البيت للأحباب والأصحاب من أجل تدارس القرآن وتدبره والإنصات إلى حقائقه وحكمه لتكوين الشخصية الإسلامية المتماسكة على المستويين النفسي والاجتماعي وتحقيق التعارف الإنساني وتمتين المحبة الإسلامية لتخريج مصابيح القرآن في الأمة بنور القرآن.
ويلفت الأنصاري إلى مسألة جوهرية تتعلق بمن له الأهلية لبناء المجلس القرآني، وما يفرضه من السقوط في التبرؤ الذاتي من عدم الأهلية أو انتظار "المهدي"، ليؤكد أن هذه المسئولية ملقاة على عاتق: "العلماء الربانيين أولا ثم أهل الخبرة التربوية من الربانيين، ثم بعد ذلك أهل الصلاح ومحبي الإصلاح من المسلمين عموما، وذلك بناء على يقين حصلناه من المشاهدة والتجربة، وهو أن هذا المشروع يصنع أساتذته". ص : 23 - 27.
خطوات عمليةوبعد الإشارة إلى فضل المجالس التربوية كما أكدت ذلك الآثار النبوية وتدقيق الفهم للمفاهيم المتعلقة بالمجالس القرآنية مثل التلقي والتلاوة والتزكية والاستبصار والمدارسة، يتوقف المؤلف عند ثلاث خطوات يراها أساسية للمنهج النبوي في التربية بالقرآن، وهي: التلاوة بمنهج التلقي، التعلم والتعليم بمنهج التدارس، ثم التزكية بمنهج التدبر.
فخطوة التلاوة -كما يقول الأنصاري- تجلب البركة والتأثير الإيماني إذا أُخِذت بمنهج التلقي، حيث يستقبل القلب الوحي الإلهي على سبيل الذكر والإصغاء إلى الله وهو يخاطب القلوب، مما ينتج عنه التخلق بالقرآن، كما وصفت بذلك السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها النبي لما سئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم، وبتلقي الكلمات كما حصل مع توبة آدم عليه السلام.
وتتجلى الخطوة الثانية في التعلم والتعليم بمنهج التدارس بمعرفة أحكام القرآن وحِكَمه على وجه الإجمال والشمول دون تعمق، وبها يتحصل العلم بالكتاب للنفس ويلقن للغير، فيكون التدارس والدراسة لآيات القرآن وسوره مبنى ومعنى لقوله تعالى: (وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) آل عمران: 79.
ويورد المؤلف مجموعة من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الحاضة على قيمة التدارس كما كان يفعل جبريل عليه السلام مع الرسول الكريم خلال رمضان: "... فيدارسه القرآن ...".
والثالثة هي التزكية بمنهج التدبر، وذلك لتطهير الأنفس من الأهواء والارتقاء بها عبر مدارج الإيمان وتخليص العبودية لله الواحد القهار وتعبيد القلب له وحده دون سواه.
والتزكية -حسب الأنصاري- "أشبه ما تكون بنتيجة للتلاوة والتدارس لكتاب الله.. فالحقائق الإيمانية والحكم القرآنية لا تصطبغ بها النفس إلا عند التدبر والتفكر، وذلك هو معنى التخلق بأخلاق القرآن، حيث تصبح الحِكم -بكسر الحاء وفتح الكاف- خلقا طبيعيا للمسلم" ص : 47.
ولا تتوقف هذه التزكية على وقت المجلس، بل تصاحب النفس في حركتها وعملها داخل المجتمع، فيكون التدبر نظرا في المآلات وإبصار الآيات إبصارا في النفس والمجتمع.
ضوابط المدارسةوفي الفصل المخصص للمنهج العملي لإقامة "مجالس القرآن" يقدم الأنصاري تسعة عشر (19) ضابطا لإنجاح مجلس التدارس، وخصص لها الربع من ورقات الكتاب (من الصفحة 54 إلى الصفحة 79) نوردها على سبيل الذكر دون تفصيلها، وهي:
1- تجريد القصد لله حتى يكون مجلسا تحضره الملائكة بإذن الله وتتنزل عليه السكينة وتغشاه الرحمة ويذكره الله فيمن عنده.
2- تحيّن أوقات الانشراح النفسي للقرآن والإقبال الوجداني على الذكر ومظان اليقظة الإيمانية، ويقترح الأنصاري موعد الغدو والآصال للتدارس أو بين العشاءين، على أن يكون مرة أو مرتين في الأسبوع.
3- مراعاة آداب المجلس بالاعتدال في هيئة الجلوس بالتحلق مع مراعاة المرونة في التحلق باستحضار هندسة البيت أو طبيعة مكان الاجتماع.
4- عدم طول وقت المجلس الواحد بما يخرجه عن حده تجنبا لضروب اللغو والغيبة (ساعتان).
5- احترام الخطوات الثلاث في المدارسة بالتلاوة بمنهج التلقي والتعلم والتعليم بمنهج التدارس والتزكية بمنهج التدبر.
6- تحديد مُسَيِّر للمجلس ويكون أولا بمن بادر لانعقاد المجلس أو من له خبرة في صناعة التربية وحكمة التوجيه.
7- على المُسَيِّر إشراك الجميع في عملية التدارس والتدبر، على أن يكون العدد بين 20 و30 فردا.
8- وعلى المُسَيِّر أيضا تجنيب الجلساء الدخول في الجدل العقيم وتضييع الوقت في الأمور الجدالية.
9- بالإعراض عن الجدل يكون الإعراض عن اللغو وسفاسف الكلام والتفرغ لذكر الله وحده.
10- تحديد أهداف المجلس من التدارس والتذكير بأمر تحصيل التزكية للقلب والتخلق بأخلاق القرآن العظيم لبلوغ "الربانية" وليس "العالمية".
11- اعتماد تفسير مختصر للمعنى الإجمالي للآية أو جزء من السورة، ويقترح الأنصاري مختصر الصابوني وصالح أحمد رضا على تفسير الطبري أو مختصر تفسير ابن كثير.
12- تداول تلاوة القرآن بين الجلساء أو الاكتفاء بقراءة مُجيد للتلاوة واستحضار فضل التلاوة.
13- قراءة خلاصة التفسير لفهم مقاصد الكلام ومراميه، ثم يشرع في تدارس الخطاب القرآني.
14- تحديد قدر من التدارس، ويستحسن نصف ثمن من الحزب أو آيات معدودة تشكل معنى يحسن السكوت عنده.
15- الحرص على توصيل المعنى السليم والعام لكل الجلساء دون الاستغراق في التفاصيل؛ لأن الغاية أبعد من مجرد التفسير مع تنبيه الشارد للمشاركة القلبية.
16- استنباط الحقائق الإيمانية التي تتضمنها الآيات والأحوال الخلقية التي ترشد إليها وتداولها بين الجلساء.
17- معرفة ما تيسر من الحكم والمقاصد لفتح باب التدبر للآيات والتفكر في خلق الأنفس والأرض والسماوات، وذلك لغاية التخلق بأخلاق القرآن الكريم والاتصاف السلوكي بحكمه العظيمة بصورة تلقائية.
18- اعتماد المنهج المجزئ لوحدات الآيات بالتعرف على قضايا الآيات الأساسية أو المحور الكلي للسورة للحفاظ على تذكر حقائقها الإيمانية.
19- وسماه المؤلف الضابط الجامع أو الكلي، ويتجلى في الحفاظ على ميثاق القرآن المبني على الالتزام بالفعل والترك، مثل الالتزام بأداء الصلوات المفروضة في المسجد إلا لضرورة شرعية، والالتزام بتلاوة جزء من القرآن الكريم، والثالث: الالتزام بضم جليس جديد للمجلس أو فتح مجلس قرآني جديد وتفعيل المجالس الأسرية وتخصيص مجالس أخرى للنساء والشباب وأصحاب المهن.
ويشدد الأنصاري على وجوب ترك الموبقات الثلاثة: المال الحرام، الزنا وطرقه، الخمر وسائر المخدرات.
ويختم المؤلف الضوابط السالفة بـ"خاتمة خير"، يشدد فيها على ضرورة توفر شرطين لإنجاح المشروع القرآني وهما: شرط الإخلاص وأخذ الكتاب بالقوة أسوة بمنهج الأنبياء والصديقين بالصبر على حمل الأمانة وثقل الرسالة.
دليل تربويويبقى الكتاب المذكور بمثابة "كاتولوج" عملي لكل مدرسة إصلاحية وتربوية تريد تعبيد الإنسان لربه بتجرد وإخلاص، وإن كان أمر الضوابط يحتاج لتطوير بإمكانية اختصارها إلى محاور مركزية كبرى، بأن تقسم مثلا لضوابط تهتم بالمنهج، وثانية تهتم بإدارة تقنية للمجلس، وثالثة تجمع ضوابط تفعيل المستفاد من المجلس، مع استحضار تأثيرات المحيط الخارجي السياسية والاجتماعية لكل بلد ومدى شيوع أجواء الحرية لتنفيذ مثل هذه التجمعات التربوية ومدى استعداد حكوماتها لتعبيد المواطنين لخالقهم بدل تعبيدهم لبعض المخلوقين.
صحفي مغربي.
اسلام اون لاين