انتقل معكم إلى بلد بعيد و زمن أبعد. رحلة طويلة, نقطع خلالها طريقاً طويلاً . حتى نصل إلى مدينة (نسا) التابعة لسمرقند, لنتكلم عن الفضيل بن عياض الذي أمضى شبابه فتكاً و بطشاً ,يقطع الطريق ,و يسلب أموال الناس في مفازة ما بين منطقة (أبيورد) و (مرو) حتى عرفت تلك المنطقة باسمه, وغدت مرعبة,يهابها المجتازون و التجار, كان ينفق الأموال التي يسلبها في سبيل متعته و أهوائه. وفي تلك الحياة التائهة, لقي جارية فأحبها و تعلق قلبه بها,فشغله عن اهتمامه بقطع الطريق. وراح يرسم الخطط للقائها بدلاً من رسم الخطط اللازمة لقطع الطرقات. لقد أسدل الحب بينه وبين المعصية ستاراً ينسيه ظلمات الليالي التي كان يترصّد فيها لعباد الله لترويعهم وسلب أموالهم.وذات ليلة راح يفكر في الخطة التي ينبغي أن يهتدي إليها للقاء محبوبته و إطفاء جذوة اشتياقه الشديد لها.و أخيراً قرر أن ينتظر إلى الهزيع الأخير من الليل,حيث يخلد كل الناس إلى النوم, ثم يمضي إلى بيت محبوبته, يتسلق الجدار ,وذلك في ساعة محددة تنتظره فيها,اتجه لتنفيذ خطته ووصل إلى دار الجارية تحت جنح الظلام,في تلك الساعة اقترب من الجدار, وتسلقه,ووقف يلقي السمع إلى أي صوت يمكن أن يبلغ أذنه. وإذ به يسمع قارئاً يرتل القرآن في جوف الليل يتلو قوله تعالى ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) الحديد
وفي تلك اللحظة تحرر قلبه من كل الرعونات وتساقطت الأغشية التي غلفته بغلاف القسوة تحت تأثير الحب, الذي سرى في أنحائه فما إن طرقت سمعه هذه الكلمات الربانية الفياضة بالحب و العتب الرقيق حتى سرت منها شعلة إلى قلبه الذي صقله الحب وهذبه الوجد.فعاد من حيث أتى . دعا أصحابه, وقال لهم : إني تائب إلى الله عن قطع الطريق , فهلاّ تبتم قالوا أجل تبنا . وأخذ يطلب العلم على أيدي كبار العلماء حتى أصبح علماً يشار إليه,وارتقى في مدارج العلم والمعرفة حتى أصبح من الأبدال الّذين حدّثنا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم,فقال: " الأبدال في هذه الأمة أربعون كلما مات واحد منهم خلفه غيره." هكذا كانت قصة توبة الفضيل بن عياض. لقد كان الحب هو الذي مهد الطريق إلى التوبة.بتجربته للحب تحول من شاب مسرف على نفسه, معرض عن ربه إلى عابد عالم زاهد. مقبلاً على الله بكل كيانه.هكذا كان نصيب الفضيل من الحب,التوبة والصلاح. وأعود بكم الآن إلى وقتنا الراهن وما يجره الحب من معاص ومآس, و انحدار في الأخلاق,طيش شبابنا,ولهاثهم وراء سراب الشهوة الخادع الّذي يوردهم موارد الهلكة, ويقزّم شخصياتهم,ويسلب النخوة من رؤوسهم,ويجعلهم عبيد أنفسهم.
فهلاّ تنبّهوا وانتفضوا انتفاضة الفضيل بن عياض رضي الله عنه.وانطلقت حناجرهم بتوبة روحها الصدق مع الله لعلّه سبحانه يمنّ عليهم فيخرجهم من ذلّ العبوديّة للنفس,فيرقى بهم إلى رتبة العبودية لذاته العلية.عندها يصبحون أحراراً تحت سلطان العبودية لله وحده,وتلك غاية ما بعدها غاية.