التطميناتُ الربّانيّة الاقتصاديّة !!
ما كان لشرعة الإسلام الحنيف التي أذنت بتكريم الإنسان ورفع منزلته أن تغفل الحديث عما يبصّر الإنسان بما هو أسّ من أسس حياته، وركيزة من ركائز بقائه، ودعامة من دعائم رخائه، بالتالي كان لفت النظر في آيات الكتاب وصحيح الأثر إلى التطمينات الاقتصادية دعماً لهذا الاتجاه وترسيخاً لتلك المكاسب؛ ففي غضون هذه التطمينات تتكشف المسالك السوية المؤدية إلى الحياة الهنية، وتتبدى المسالك الغوية المردية في الحياة الشقية، ليستقر الناس بعد ذلك على محجة بيضاء من أمرهم، وعاقبة سعيهم، وثمرة اختيارهم لأنفسهم...
فأبرز هذه التطمينات الاقتصادية التي جلاها كلام ربّ البريّة :
* الإيمان مَدْعاة لتوسيع أرزاق الإنسان :
جلّى ذلك الكريم المنان بقوله في آيات القرآن: {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}سورة الأعراف آية (96) أي: لو (آمنت قلوبهم بما جاءت به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات {لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض} أي قطر السماء ونبات الأرض) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/451 ونظير ذلك قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} سورة الطلاق الآيتان (2،3)
* البركة في ماء المطر، والوفرة في النبات والثمر ، مقترنة بتقديم منهج الله في الحكم على مناهج البشر :
أشار إلى ذلك قول الخالق تبارك وتعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم} سورة المائدة آية (66) قال مجاهد ـ رحمه الله تعالى: (أما إقامتهم التوراة والإنجيل فالعمل بهما، وأمّا {ما أنزل إليهم من ربهم} محمد وما أنزل عليه) (الطبري: جامع البيان 6/305 والسيوطي:الدر المنثور 2/527 وابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم 4/1170 )وقال السدي ـ رحمه الله تعالى: (لو عملوا بما أنزل إليهم مما جاءهم به محمد لأنزلنا عليهم المطر فأنبت الثمر) (الطبري: جامع البيان 6/305 و ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/148)
قال قتادة ـ رحمه الله تعالى : (إذاً لأعطتهم السماء بركتها، والأرض نباتها)( الطبري: جامع البيان 6/305 و ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/148)
وعلى شاكلة الآية السابقة قوله تعالى: {وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً} سورة الجن آية (16) قوله {على الطريقة} أي: الإسلام ، كذا قال مجاهد، وسعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعطاء والسدي ، ومحمد كعب القرظي (أنظر: الطبري: جامع البيان 29/114. و ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 8/243)
قوله {ماء غدقاً} قال مجاهد: (نافعاً كثيراً) (الطبري: جامع البيان 29/114)والمقصود (لوسعنا عليهم في الدنيا ، وضرب الماء الغدق الكثير وذلك مثلاً ؛ لأن الخير والرزق كله بالمطر فأقيم مقامه) (القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 19/20)
* تحرَس النعمة بالشكر ويجلب من أمثالها المزيد ، وتبور بالبطر والكفر ويوردان صاحبها العذاب الشديد :
أعلم بذلك قول الحميد المجيد: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} سورة إبراهيم آية (7) أي: (لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها {ولئن كفرتم} أي: كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها {إن عذابي لشديد} وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها) ( ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 4/479)
قال القرطبي ـ رحمه الله تعالى ـ: (الآية نص في أن الشكر سبب المزيد) (القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/353)
وف هذا السياق يقول ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ ( النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظرة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها، فإذا أرأد الله إتمام نعمته على عبده عرّفه نعمته الحاضرة، وأعطاه من شكره قيداً يقيّدها به، حتى لا تشرد، فإنها تشرد بالمعصية، وتقيد بالشكر، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها، ووفقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها) (ابن القيم: الضوء المنير على التفسير 3/587 والفوائد، ص171)
وعن البطر وذهابه بالنعمة قال المولى جل وعلا: {وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها} سورة القصص آية (58)
قال ابن زيد ـ رحمه الله تعالى ـ: (البطر: أشر أهل الغفلة، وأهل الباطل، والركوب لمعاصي الله ) (الطبري: جامع البيان 20/95، وابن أبي حاتم: تفسير القرآن العظيم 9/2996) فقوله {بطرت معيشتها} أي: (طغت وأشرت وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/248) فلما غمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر دمرهم الله وخرب ديارهم (الزمخشري 4/516)
* إرسالُ اليد وبسطها بالنفقة فيه البَدَل والخلَف، وقبضها بها وحبسها فيه الهلاك والتلَف:
أبان ذلك قول الحق تبارك وتعالى: {وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه وهو خير الرازقين} (أنظر: الزمخشري: الكشاف 4/516)
قال ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره لهذه الآية: (مهما أنفقتم من شئ فيما أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبدل وفي الآخرة بالجزاء والثواب) (ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 6/523)
وعن الصورة المناقضة قال جل شأنه: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} سورة البقرة آية (195).
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} : (ليست التهلكة أن يقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله) (الطبري: جامع البيان 2/201. و ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/528) وقال قتادة في تفسيرها: (لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله) (الطبري: جامع البيان 2/201 و ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/528) وقال مجاهد: (تمنعكم نفقة في حق خيفة العيلة) (الطبري: جامع البيان 2/201 و ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/528)
وأخرج البخاري ـ رحمه الله تعالى ـ في صحيحه 4/1642، كتاب التفسير، باب { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، رقمه (4244) عن حذيفة - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال: نزلت في النفقة .