قصص منسية- د. اسكندر لوقا
انكسارات مازالت تمسّ حياتنا اليومية!!
قصص منسية مجموعة قصصية جديدة للدكتور/اسكندر لوقا/ وقده كتبها في خمسينيات القرن الماضي، ولم ينشرها، ثم قرر أن ينشرها في عام 2008 لتكون شاهداً، على التطور الأدبي والفني للقصّ، لاسيما فيما يتعلق بتقنية السرد، إنها تشبه تلك المدن البعيدة النائية التي لا يفكر فيها إلا القلة الذين يعيشون فيها... إلا أن هذه القصص ليست منسيةً، لأنها على الرغم من قِدمها مازالت ماثلةً أمام أعيننا.. مازالت هاجساً يرافقنا نلاحظه.. نشاهده نسمع عنه، فكيف تكون منسيةً؟؟.
ضمن هذه المجموعة عشر قصص اعتمد فيها الكاتب على منحيين: اجتماعي وآخر سياسي كعادته في دمج السياسي والاجتماعي، فجاءت «في سبيل الحرية- حصدوا الذي زرعوه- كارثة في المتوسط» ضمن المنحى السياسي... في حين تابعت «الدواء- مائدة العيد- ذكاء موظف صغير- لحظات الضياع - المرأة البائسة» الطابع الاجتماعي.. وقد شغلت قضايا اجتماعية تعالج جزئيات دقيقة من الحياة اليومية، التي تعتمد على مشاهد بصرية دائرة من حولنا «الظلم- الفقر- التشتت- الحب- الحنان- العوز المادي» وغلب على صفحاتها طابع التساؤل.
تعد هذه المجموعة وثيقة أدبية للفضاء الحكائي القصص القديم لدى الكاتب والتطوّر الذي عليه الآن، فهناك بون شاسع ما بين القديم والمعاصر من حيث العرض والسرد الحكائي والوصف الفني والبانورامي وتجسيد الحدث.
في القص القديم، يُكتب بنَفَس واحد وروح واحدة، ويتميز بالاطالة بالوصف والسرد في مستوى الشخصية الرئيسية التي تدور حولها القصص، فهي باختصار أقرب الى شكل الرواية الأدبي، بينما القصّ الحديث المعاصر يتسم بالومضة الخاطفة وتكثيف الحدث والايجاز بالوصف وانتقاء المفردة اللغوية وتعدد الحبكة، ووجود أكثر من شخصية، لذلك تدل هذه المجموعة على تطور أسلوب الكاتب من حيث متواليات السرد والاعتماد على الفلاش باك وتجزيء المعلومة وتصوير الحدث والاستباق والاسترجاع وكثرة المونولوج والديالوج، تجلى ذلك برواياته الست ومجموعته الحديثة الأرض باقية، كما اتسمت بالفضاء المكاني الواسع «الفندق- المقهى- المنزل- المكتب- الجامعة» والزماني «الغسق- الفجر- الليل- النهار» وتميزت بغنى الوصف البانورامي للمكان مثل كارثة في المتوسط، وغنى الوصف الفني وجمالية المفردة اللغوية «والزورق الصغير لا يزال ينساب فوق المياه كالأفعى، اذ كان الظلام حالكاً كجوف كهف بعيد الأغوار في بطن جبل، أما الصمت فقد كان ثقيلاً وشاملاً» ص59.
أما الشخصيات فتناوبت بين السلبية والايجابية في كل قصة تقريباً، مثلاً محمد شخصية ايجابية في قصة ذكاء موظف صغير، بينما مدير الشركة شخصية سلبية، وفي قصة مائدة العيد، أبو فارس سخصية ايجابية، وفي سبيل الحرية علياء شخصية ايجابية، كذلك مراد باشا شخصية ايجابية، بينما عثمان باشا شخصية سلبية، بصورة عامة وإن كانت تقنية السرد والحدث والقفلة «النهاية» وفق النمط القديم... إلا أنها ممتعة.
من أجمل قصص المجموعة مائدة العيد يروي المؤلف فيها قصة حزينة مؤلمة تشير الى الفقر والعوز المادي الذي يعاني منه أبو فارس بسبب قلة المال، فهو ضحية المجتمع ولم يجد عملاً بعد ما ترك عمله، وسيأتي العيد والأولاد ينتظرون الهدايا والألعاب فتراوده فكرة أن يبيع دمه في المشفى، الذي يستلقي فيه أبو خالد جاره، فيذهب مرةً ثم مرتين ثم ثلاث مرات الى أن يأتي العيد يشتري لأولاده ما يريدون.. لكن قواه تخور ويسقط صريع المرض في السرير ويصبح بحاجة الى الدم، فيترك الكاتب النهاية مفتوحةً، اذ يتذكر أبو خالد أن هناك من أعطاه دمه «وكان عزاؤه أن أطفاله كانوا من حوله يلعبون ويصرخون معبّرين عن فرحتهم...» ص70.
وفي قصة «الرداء» روى المؤلف حادثة طريفة تتلخص بالخلافات الزوجية وتسلط الزوجة، يعالجها الزوج بالزواج ثانيةً من فتاة صغيرة، وفي قصة «ذكاء موظف صغير» نلمح الاستغلال الذي يتعرض له الانسان في أدق جزئياته اليومية مقابل حصوله على أقل دخل، أما قصة الأستاذ «نايف عبد العليم» فأورد الكاتب فكرة التناقض بين الريف والمدينة والضياع، الذي يتعرض له الانسان وسط حالة الزحام، وفي «لحظات الضياع» نجد شيئاً جديداً في معالجة الحبكة والحدث والسرد وتحويلها الى مشهد حواري ومونولوجي.. أما قصة «المرأة البائسة فيعرض فيها حالة اجتماعية خطيرة معاناة المرأة، التي يذهب زوجها يومياً الى الخمارة وتضطر الى التسوّل مع طفلها الرضيع أمام الجامعة.
أما المنحى السياسي فعرض فيه عدة قصص منها «في سبيل الحرية» وتتميز بالتنوّع بالسرد والاعتماد على الوصف الفني للمكان والحبكة ذات المسارات المتعددة بتحرّك الشخصيات لا سيما أن الفكرة قائمة على المواجهات والتصدي للأعداء الانكليز، وتكشف أوراق القصة مفاجأة تُعرف في السطور الأخيرة... حينما تنتهي القصة بموت الفارس المقنع الذي يُكشف النقاب عنه، فاذا هو علياء ابنة عثمان باشا، الذي كان يعمل جاسوساً للانكليز، المثير للدهشة أن الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي بدأ بالقصة في عام 1959 وتابعها الدكتور /اسكندر لوقا/ في سرد حادثة تاريخية «لو علم السير ولنجتن سرّ المقنع في تلك اللحظة لسخر من نفسه، ومن جنوده طويلاً وآمن أشد الايمان بأن لا أمل له بالبقاء في أرض مصر كلها... » ص 39.
هذه جولة سريعة في معالم قصص منسية، التي مازال مضمونها ماثلاً حتى الآن.
< قصص منسية- د. لوقا- اسكندر- دار طلاس- 2008.
عرض: مِلده شويكاني
http://www.albaath.news.sy/user/?id=436&a=40101