مترين ب مترين
خلافاً لما تتكلم به التربية الحديثة ، لم أرفض لبناتي على الإطلاق أي طلبٍ لمشاركتنا سريرَ نومنا ، بل على العكس كنت و عند استيقاظي ليلاً على الخطوات القادمة نحو غرفتنا أفتح ذراعيّ لطفلتي لتقضي بقية الليلة بيننا ، كنت أفرح بحضورهنّ أكثر من فرحهنّ بكثير ، حتى لو ضاق بِنا المكان و صار النوم أكثر ابتعاداً .
و إلى الآن ، و عندما تنزل ابنتي مسا من غرفتها معلنة أنها لا تستطيع النوم ، أعرض عليها مباشرة أن تذهب إلى غرفتنا ، فتنام بسرعة البرق ، يحوم حولها ( و حولنا ) أحساسٌ عظيم بالسلام و الأمان .
أما السر فهو في سرير الأم ، هذه ال "مترين ب مترين" من الخشب ، هذه المساحة السحرية من الجمال ، حيث يجد الأطفال ما يفقدون في هذا العالم المتسارع المخيف .
هل هي رائحة الأم و الطفولة ، هل هي رائحة ثياب الأم ، عبق تنفسها في الهواء ؟
هل لأنه المكان الذي يسمح للطفولة أن تحضر من جديد و تصير حقاً من حقوق الحياة لا عبثاً أو تمرداً على شروط العمر ؟
لا ينام الأطفال في سرير الأم المقدس ، بل يغرقون ، يستسلمون لطفولتهم مهما زاد بهم العمر ، ينزعون عنهم قلق الأيام و يرتاحون بلا لهاث .
لا ينام الأطفال في سرير الأم المقدس ، بل يحفرون في جسد الذاكرة بحثاً عن اعتراف بهم ، بخوفهم ، بترددهم ، بحاجتهم ، بارتجاف أوراق روحهم في هذه الحياة الخريف .
أما هي ، فتفرح في سرها و هي تضمّ بأقوى ما يمكن جسد طفلها ، و كأنها تلتقيه للمرة الأولى ، إنها تفتح كتاب أمومتها على صفحته البكر ، و تقيس ب " متر" يديها هذا الجسد المتكور بجانبها كيف صار يحتل يوماً بعد يوم مساحةً أكبر من السرير .
في كل بيت ، هناك سريرُ أمّ ، حيث تتلخص و تتخمر مشاعر البشر كلها من حب و شوق و خوف و قلق و تعب و تردد و صخب و غضب و تمردٍ و ضعف و هذيان .. في " مترين ب مترين " من الخشب .
عن الدكتور رفيف المهنا ...