درس (أوَ قد فرغت يا أبا الوليد؟)
لقد مدح الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على أخلاقه كلها، ومنها خلق الحلم،تلك الصفة التي تحلى بها نبينا عليه السلام لتكون شامة في أخلاقه، فلقد نال نبينا الكريم؛ الشتائم والسِبابَ من طبقات المجتمع كافة، فقد هجاهالشعراء، وسخر منه سادة قريش،ونال منه السفهاء وضربوه بالحجارة، وقالوا عنه ساحرومجنون وغير ذلك من صور الأذى التي كان يتلقاها النبي بسعة صدر وحلموتسامح ودعاء لمن آذاه بالمغفرة والرحمة، قال الله تعالى: ( فبمارحمة من اللَّه لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ) سورة آلعمران:159.
وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان خلقه القرآن؛ يعطينا محاضرة عظيمة في كلمات يسيرة بعنوان : درس : (أوَ قد فرغت يا أبا الوليد).
لما أرسل المشركون عتبة بن ربيعةإلى النبي صلى الله عليه وسلم كي يصرفه عن اختياره بتبليغ الرسالة إلى قناعات أخرى؛ وحلول وسطية علّها تحل الإشكال.
فجاء الرجل يتكلم بلغة مؤدبة عالية، ويعرض بطريقة سلمية عروضاً مغرية وسخية " يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفاً شرفناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه ".
وهذا الكلام يبدو في ظاهره مؤدباً، ويبدو عرضاً لخيارات واحتمالات فيها شيء من النسبية، ولكنه في الحقيقة هو عين الإقصاء، إذ ليس فيه فتح لمجال الحوار، وليس فيه أدب أيضاً بل هو عين التهكم والاستهزاء.
وكأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم بصريح العبارة: إما أنك وصولي أو انتهازي أو مجنون أو شهواني، يضعه أمام أربعة احتمالات لا خامس لها وكلها غير أخلاقية، وهنا لا بد أن نقف على نقاط منها:
ـ السؤال الذي يفرض نفسه : لماذا لم يقل للنبي صلى الله عليه وسلم وإن كنت نبياً فأعطنا دليلك أو نتحاور ؟!!
ـ التنويع الذي طرحه كان تنويعاً مغلوطاً على إيقاع واحد نتيجته : إنك على باطل، تماماً كتنويع الغربيين اليوم في حوارهم مع المسلمين.
ـ وهو إقصاء في الحقيقة لأنه اتهام بأحط ما يمكن أن يركب الإنسان من أجله الأخطار.
ـ وفيه إقصاء حقيقي لمصداقية الرسول صلى الله عليه وسلم فرأسماله الحقيقي هو صدقه مع نفسه.
ـ وفي هذا الموقف تتجلى عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم في أجلى معانيها، ولو أن أحدنا تعرض لمثل هذا الكلام فقد لا يملك نفسه إلا أن يقوم بضرب قائله، وليست العظمة في أن النبي صلى الله عليه وسلم تحمل هذا الكلام وليست العظمة فقط في أنه تركه حتى ينتهي من كلامه ، بل وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذروة ما يحلم به المحاور الحضاري؛ وهو أن يكمل الآخر رأيه دون أن يقاطعه، دون أن يستفزه، ولكن يزيد شيئاً آخر غير موجود عند البشر وهو حلية الأنبياء فيقول له بهدوء: (أو قد فرغت يا أبا الوليد ؟ )
أي: هل لديك شيئاً آخر تضيفه؟
هل تريد فرصة أخرى في الحوار؟
قال الوليد: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فاسمع، ثم تلا عليه سورة من القرآن .
إنه درس عظيم (أو قد فرغت يا أبا الوليد ؟ ) يبين لنا أن الفهم السطحي للحق والحماس له غير صحيح .
ونحن من فرط إيماننا بالحق نتعصب له وننفعل وربما نقاطع ونرفع الصوت ونتهجم على الآخر، وإن رأينا شخصاً ليناً هادئاً مفسحاً المجال للآخر، اعتقدناه ضعفاً في يقينه وفي صحة موقفه.
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطينا درساً عظيماً في هذا الشأن وهو أن الانفعال الذي يخرج عن آداب الحوار الفكرية والأخلاقية ليس قريناً لليقين الكامل في الحق.