مقالة / تشريح الجهاز العصبي عند الأطباء المسلمين
--------------------------------------------------------------------------------
مقالة / تشريح الجهاز العصبي عند الأطباء المسلمين
إعداد أ / زكية بالناصر القعود / جامعة قاريونس
سبق وأن أشرنا في المقالة السابقة، إلى أقوال بعض المستشرقين في علم التشريح عند الأطباء المسلمين ، بأنهم اعتمدوا على ما نقلوه عن اليونان في هذا العلم ، غير أننا أوضحنا أن هذا الاعتقاد غير دقيق التعبير، فلقد أسهم الأطباء المسلمون في هذا الفرع كغيره من فروع الطب ، ولم يقف الدين عائق في تقدمه .ولقد اتضح من خلال الدلائل التي استعرضنها أنهم مارسوا علم التشريح ، وهنا نحاول عرض نموذجا لممارستهم هذا العلم يتمثل في تشريحهم الجهاز العصبي للإنسان . لقد بلغ الأطباء المسلمون في مجال تشريح الأعصاب مرتبة عالية رفيعة، وأتوا بمعلومات واسعة وعظيمة تستحق التقدير، حيث استطاعوا وصف الجهاز العصبي وصفا دقيقا، فذكروا منبت كل عصب، وإلى أين يصير، ووظيفته، والأمراض التي تصيبه، والأدوية التي يعالج بها.
وسنعرض فيما يلي لبعض ما ذكره الأطباء المسلمون في هذا المجال، محاولين إدراك مدى صحة المعلومات التي قدموها ومقارنتها بالمعلومات الطبية الحديثة.
قسم الأطباء المسلمون العصب إلى قسمين: لين وصلب. وقد تصور ابن سينا أن العصب هو همزة الوصل بين الضفيرة العصبية المركزية وبين كافة أنحاء الجسم(1). فقال: " الدماغ مبدأ العصب على وجهين: فإنه مبدأ لبعض العصب بذاته، ومبدأ لبعضه بوساطة النخاع السائل منه"(2). والعصب الصلب قسم إلى قسمين: ما ينبت من الدماغ نفسه، وما ينبت من مخ الصلب، وهو النخاع، ومنبته من مؤخر الدماغ، وبه تكون الحركة. والعصب اللين هو ما ينبت من مقدم الدماغ، وبه يكون الإحساس(3). ونلاحظ في هذا التقسيم أنهم وفقوا إلى حد ما في التفريق بين الأنسجة المختلفة، وهو ما يعرف اليوم بالتشريح النسيجي. كما نلاحظ أنهم حاولوا وصف الأعصاب بدقة، من حيث انقسامها ووظيفتها، من خلال تتبع مسار كل عصب. إلا أنهم أخطؤوا في بعض الأحيان، فقالوا مثلا إن الإحساس يكون في مقدمة الدماغ، والصحيح أنه في مؤخرة الدماغ.
من الأعصاب المحيطة : أولا - الأعصاب الدماغية :
تعرف حاليا بالأعصاب القحفية CRANIAL NERVES(4). وقد اتفق الأطباء المسلمون في كونها سبعة أزواج. أما الأطباء اليونانيون فقد جعلوها ثمانية، حيث جعلوا الزائدتين(5)الشبيهتين بحلمتي الثدي من جملة الأعصاب، خلاف الأطباء المسلمين الذين جعلوها منعزلة(6). ومن هذا يتضح أن الأطباء المسلمين مارسوا التشريح، ولم يعتمدوا على معلومات من سبقهم. والسبب في جعلهم الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي في معزل عن باقي الأعصاب، لأن منبتهما متقدم عن الأعصاب الأخرى، وذلك لخروجه من الجذع الدماغي. وهذا العصب يعرف بالعصب الشمي. وهذا ما يتمشى تماما مع ما يراه علم التشريح الحديث(7).
ومن المعلوم أن عدد أزواج الأعصاب الدماغية في الطب الحديث اثنا عشر زوجا، بينما ذكر الأطباء المسلمون أنها سبعة أزواج. وهذا الاختلاف في العدد يرجع إلى تصنيف بعض الأعصاب مع ما يسبقها أو يتلوها من الأعصاب. وهذا ما سنوضحه فيما بعد، بعد تتبع مسار كل عصب، وتحديد الوظيفة التي ذكرها له الأطباء المسلمون(8).
ونذكر فيما يلي الأزواج الدماغية كما ذكرها الأطباء المسلمون من خلال مؤلفاتهم.
فمثلا الزوج الأول - العصب البصري :يعرف حاليا باسم ICALNERVE) ). ينشأ من البطنين المقدمين من الدماغ، جوار الزائدتين. وهو مجوف دون الأعصاب، ويتجه العصب اليمين إلى اليسار، ويتجه العصب اليسار إلى اليمين، حيث يتقاطعان على شكل صليبي، ينفذ كل منهما إلى حدقة إحدى العينين: اليسرى إلى العين اليسرى واليمنى إلى العين اليمنى(9). وهذه الفكرة صحيحة من حيث التقاطع، إلا أن ليس كل الألياف تتقاطع. وقد تأكد هذا بعد ظهور المجهر. غير أن قولهم إن العصب مجوف خطأ. ولا ندرى لماذا قالوا عنه عصب مجوف(10). الزوج الثاني :يعرف حاليا بالعصب المحرك العيني (OCULOMTOR NERVE)، وينشأ خلف الزوج الأول. وهو أصلب منه. يخرج منه ثقب في باطن جوف العين بقرب عصب البصر، ينبت جميعها في العضل ووظيفته حركة العين(11). وهذا الزوج يقابل العصب الثالث في التشريح الحديث OCULOMORORNERVE ، هو المحرك لعضلات العين(12). الزوج الثالث : يعرف بـ"الذواق"، وبعرف حاليا بالعصب الشمي OLFACTORY NERVE . ينشأ بين مقدم الدماغ ومؤخره ويخرج من ثقب القحف، وينقسم إلى أربع شعب :
الأول : يدخل في منفذ العرق الباسليق، وينـزل في الرقبة إلى الأعضاء التي في الصدر دون الحجاب، ويتصل بشيء من الزوج السادس. يفيد "حاسة اللمس".
الثاني : أصلب من الزوج الأول، و يخرج من ثقب الصدغ، وينبت فيه وتخالطه شعبة من الزوج الخامس، ويفيد في "حاسة اللمس والحركة " .
الثالث : يخرج من ثقب الزوج الثاني، ويتصل معظمه بالعين، ويتشعب إلى ثلاث شعب :
الشعبة الأولى : يأتي العصب الأصغر، وهو الكائن عند الصدغ. تنبت فيه عضلة تفيد الحس.
الشعبة الثانية : يأتي العصب الأكبر، وهو اللحاظ، وتتفرق فيه وفي الأنف في الغشاء المبطن.
الشعبة الثالثة : تمر في الوجه وتنقسم قسمين : أحدهما ينبت في الفم، ويفيد حاسة اللمس، ويتصل بالأسنان والأضراس. والآخر يتوزع بين الشفة العليا وطرف الأنف، ويفيد حاسة اللّمس والحركة. الشعبة الرابعة : من أصل الشعب تنحدر في اللحى الأعلى، ويتفرق أكثرها في طبقة اللسان، ويصل إليه الذوق، وبقيته تتفرق في أصول الأسنان التي في اللحى السفلي وفي الشفة السفلى. وحاسة اللمس تأتي إليه مع القوة الذائقة. وصار عصب الذوق من هذا الزوج(13). ويعرف هذا الزوج الثالث حاليا باسم "العصب القفي الخامس العصب الثلاثي التوأمي". وهو عصب مختلط حركي وحسي، يخرج من جانبي القنطرة (pons)، وينقسم إلى ثلاث شعب، ويغذى حسيا منطقة الوجه (العين والأنف والفكين العلوي والسفلي)، ويزود مجموعة من العضلات المختصة بعملية مضغ الطعام "الجزء الحركي". وهذه الشعب الثلاث تخرج من ثقوب موجودة في الجمجمة: تزود الشعبة الأولى منطقة الأنف والجفن العلوي. وتزود الشعبة الثانية منطقة الأنف والجفن السفلي والفك الأعلى. وتزود الشعبة الثالثة الفك الأسفل والأسنان السفلي (الثلثين الأماميين من اللسان). وهذا العصب من الأعصاب الغليظة. وهو عندما يصف الشعبة الرابعة من الزوج الثالث يذكر أو يصف (maxillary divisih)، أي الشعبة الثانية من العصب القحفي الخامس. ومع أن الوصف هنا يختلف قليلا عن التقسيم الحديث، إلا إنه قريب جدا من المفهوم الحديث للعصب الخامس القحفي (TRIGEMINAI NERVE)(14)". وأغلب الاختلاف ناتج عن الاختلاف في التصنيف الرقمي، وليس في الوصف نفسه، الذي يتضمن الكثير من الدقة.الزوج الرابع : ويصفه ابن القف بقوله: "ينشأ خلف الزوج الثالث، وهو أصلب منه، ويخالفه في خروجه، ثم ينبت جميعه في الحنك، فيعطيه الحس"(15). ويضيف المجوسي فيقول: "يخالط الزوج الثالث ويفارقه، وينقسم في الطبقة المغشية لأعلى الحنك، ويوصّل إليها حسّ اللمّس(16). وهذا الزوج هو جزء من العصب القحفي الخامس حاليا (MANDIBNLARBRACH OFTRIGEMIRLA NERVE )، إلا أنه هنا يغفل ذكر الزوج السادس الذي يحرك عضلة واحدة في العين، واسمه القحفي الساري المبعد (ABDUCENL NERVE )، ويحرك العضلة المستقيمة الوحشية في العين(LATERAL RECTUS ). وهو يخرج من الدماغ، عند الحدقة السفلية للقنطرة، أعلى هرم النخاع المستطيل(17).وهذا الوصف الدقيق يتطلب الكثير من الدقة في ممارسة التشريح.8).
الزوج الخامس : وينشأ خلف الزوج الرابع، عن جنبي الدماغ،(18) وكل فرد منه ينقسم في العظم الذي يقسمه إلى قسمين: أحدهما أعظم، والآخر أصغر. وينقسم من كل فرد إلى زوج عظم. وينشأ من مقدم الدماغ(19)، من خلف الزوج الثالث، ويدخل في ثقبي المسامع. وإذا صار كل واحد منهما إلى حد ثقبي السمع انبسط وعرض وغشي الثقب. وبهذا الزوج يكون السمع. والزوج الآخر ينشأ من خلف هذا الزوج، ويخرج من الثقب الذي وسط العظم الحجري المسمى بـ"الأعمى"(20). ويذكر المجوسي أن الزوج الخامس يسير مع الزوج الثالث، وينقسمان جميعا واختلطت أقسامهما، واتصل أكثره بالعضلة العريضة التي تحرك الخد على انفراد، من غير أن تحرك معه اللّحى. والباقي يصير إلى عضل الصدغين، فيعين الزوج الثالث في إعطاء هذا العضل الحّس(21).
وما ذكره المجوسي آنفا بخصوص الزوج الخامس يتفق تماما مع وصف الطب الحديث للزوجين السابع والثامن، وإن كان في الوصف بعض الخلط. فالعصب السابع، المعروف حاليا بالعصب الوجهي (FACIAL )، يتكون من جزئين: جزء يحرك العضلات السطحية لفروة الرأس والوجه والعنق، وجزء أصغر حسي يحمل إحساس التذوق من الثلثين الأماميين للسان، كما يحمل الألياف التي تغذي الغدد الدمعية واللُّعابية. أما العصب الثامن أو السمعي فهو عصب حسي يتكون من جزئين(22). ولعل سبب الخلط في الوصف أن هذين العصبين قريبان جدا عند موضع خروجهما من جذع الدماغ.الزوج السادس : وينبت من مؤخر الدماغ، من حيث الثقبان اللذان عند طرفي الدرز الشبيه باللاّم في كتابة اليونانيين، ويخرج من كل واحد من الثقبين ثلاثة أعصاب :
الأول : يصير إلى عضل الحلق وإلى أصل اللسان، فيعين الزوج السابع على تحريك اللسان. والآخر يصير إلى العضلة التي بالكتف. والعصبة الثانية، وهى أعظمها، تنحدر من الرقبة إلى الأحشاء، وتصير إلى حيث العرق الضارب المعروف بعرق السبات. وهذه العصبة، إذا مرت بالرقبة، تنقسم منها شعب، تتفرق في العضل الخاص بالحنجرة الذي رأسه إلى فوق. فإذا صارت إلى الصدر تشعب منها شعب تذهب إلى فوق وإلى عضل الحنجرة الذي رأسه إلى أسفل. وهذا العصب الذي يقال له (راجع) إلى فوق، ويتفرق منها أيضا شعب في القلب والرئة وقصبتها و المريء. فإذا صارت هذه العصبة إلى ما دون الحجاب اتصل أكثرها بفم المعدة، واتصل باقيها بسائر الأحشاء(23). وهذا الوصف للزوجين التاسع والعاشر هو وصف قريب من المفهوم الحديث.
فالعصب التاسع، ويسمي حاليا بالعصب اللساني البلعومي. وهو عصب مختلط يتكون من جزء حسي، يحمل الإحساس من البلعوم واللسان، وجزء محرك يغذي العضلة الإبرية البلعومية. وهو ينشأ بواسطة خمسة أو ستة جديرات متصلة بجانب النخاع المستطيل. أما العصب العاشر، الذي يعرف بالعصب الحائر، فهو أيضا عصب مختلط، يحتوى على عدد كبير من الألياف الباراسمبثاوية، ويسير خلال العنق والصدر إلى البطن، ويعطي أليافا حسّية إلى البلعوم والمريء والمعدة والحنجرة والقصبة الهوائية والرئتين(24).
وذكر الرازي أن العصب الراجع، ويعرف بالعصب الحنجري الراجع، يتجه إلى الحنجرة، وهو الذي يحدث الصوت، وهو فرع من العصب الحائر الذي يغذي المعدة(22). وقال إنه يكون مزدوجا في الجهة اليمين أحيانا(25). وهو بذلك يكون أول من وصف الفرع الحنجري للعصب الحنجري العائد، وقال عنه إنه يكون مزدوجا من الجهة اليمني واليسرى أحيانا.(26).
الزوج السابع : وينشأ من مؤخر الدماغ، فإذا خرج من القحف، انقسم إلى أقسام، جلّها وأعظمها ينبت في جوهر اللسان، يعطيها الحركة. بخلاف العصب الذّواق، فإنه محتاج إلى حركة. وباقي أقسامه تأتي إلى عضل الترس ، وهما العضلتان السفليتان من أضلاع العظم الشبيه باللام، وبخاصة من شعب الزوج الثالث والرابع. فهذا ما يتعلق بالعصب الدماغي(27). يصف ابن القف هنا الزوج الثاني عشر أو العصب تحت اللسان (Hypoglosi.N)، وهو عصب تسود فيه الألياف المحركة، ويغذى كل عضلات اللسان الداخلية والخارجية، فيما عدا العضلة الحنكية اللسانية. ينشأ بعديد من الجديرات من الجزء الأمامي للنخاع المستطيل(28). وبذلك يكون الوصف مقاربا للمفهوم الحديث.
ثانيا الأعصاب النخاعية (تعرف حاليا بالأعصاب الطرفية) :
اتفق معظم الأطباء(29) المسلمين على أن الأعصاب النخاعية تنشأ من النخاع. وهي واحد وثلاثون زوجا من العصب، وفرد لا مقابل له. ثمانية أزواج منها تخرج من خرز العنق. واثنا عشر زوجا من خرز الظهر، إلى حيث يقابل من الظهر الصدر. وخمسة أزواج من خرز القطن، وهي أسفل الظهر. وثلاثة من عظم العجز. وثلاثة من عظم العصعص من وسطه. وفرد لا مقابل له يخرج من طرف عظم العصعص(30).
وهذا الوصف يختلف قليلا عن المفهوم الحديث في تقسيم الأعصاب وذلك لدمج بعض الأعصاب السابقة أو التي تليها، مما أدى إلى اختلاف في التصنيف، حيث تقسم الأعصاب النخاعية في الطب الحديث على النحو التالي : ثمانية عنقية، وأثنا عشر صدرية، وخمسة قطنية، وخمسة عجزية، وواحد عصعص.
ونلاحظ من وصف الأطباء المسلمين للاعصاب النخاعية انهم اتفقوا مع المحدثين في العدد الكلى لهذه الأعصاب، مع اختلاف في تقسيمها بين المنطقة العجزية والعصعصية(31). واستمروا في وصف الاعصاب النخاعية...
منها لاحظنا أن الاختلاف في التشريح الوصفي لدى الأطباء المسلمين والطب الحديث ليس في الوظيفة أو تتبع المسار العصبي، ولكن في طريقة تصنيف للأعصاب؛ إذ جعل الطب الحديث كل مجموعة من الأعصاب ضفيرة تشمل عددا من الأزواج. فمثلا الضفيرة العنقية تشمل الزوج الأول إلى الزوج الرابع. إلا أن هذا الاختلاف في التصنيف وعدم المطابقة الكلية بين ما ورد في الطب الحديث وما ذكره الأطباء المسلمون لا يمثل فرقا كبيرا بين معلومات الأمس ومعلومات اليوم في هذا القطاع من جسم الإنسان.ومن المعلومات التشريحية التي ذكرها الأطباء المسلمون عن الدماغ :
تعريف الدماغ : جسم أبيض عديم الدم شبيه بالعصب، إلا أنه أرطب من العصب(32).وينقسم الدماغ إلى جزئين(33) هما:- في مقدمة الرأس، يقال له المقدم، وهو أعظم من الجزء المؤخر وينبت فيه الحس. - في مؤخرة ويقال له المؤخر ، ينبت منه عصب الحركة . ويفصل بين هذين الجزئين غشاء غليظ من غشائية الدماغ. كما يوجد في الدماغ ثلاثة تجاويف يقال لها البطون. منها تجويفان في مقدمته، يقال لهما البطنان المتقدمان، ومنهما تنبت عصبة الحس. والتجويف الثالث في مؤخرته، ويقال له البطن المؤخر، ويصير إليه الروح من البطنين المتقدمين. ويوجد بين هذين التجويفين مجرى يجري فيه الروح من البطنين المتقدمين إلى البطن المؤخر. وبهذا يكون اتصال الجزء المقدم من الدماغ بالجزء المؤخر(34). وهذا يعرف في الطب الحديث بالقناة المائية(35). وبين البطنين المتقدمين موضع عميق ينتهيان إليه، يسمي مجمع البطنين، منه يبتدئ المجري الذي تقدم ذكره، لأن البطنين المتقدمين كانا في حاجة إلى أن يتصلا بالبطن المؤخر من موضع آخر عام لهما جميعا، فكان هذا الموضع. وسمي هذا الموضع بطنا رابعا من بطون الدماغ. ويسمي البطن الأوسط، وهو أصغر من البطن المؤخر(36). وهنا اتفق الأطباء المسلمون مع الطب الحديث.
ويوجد عند ابتداء هذا المجري مما يلي البطن الأول جسم من جنس الغدد، شكله يشبه شكل حبة الصنوبر (لعلهم يقصدون بها الغدة النخامية). وفي جوف هذا المجري زائدة تسمي الدودة، رأسها يبتدئ من الغدة الشبيهة بحبة الصنوبر، والرأس الآخر ينتهي عند ابتداء البطن المؤخر. يوجد تحت الدودة زائدتان تنبتان من الدماغ تسميان الأليتي، مغطاتين بغشاء رقيق، يلتحم بظهر الأليتين برباطين يسميهما المشرحون بالوترين(37). ويصعد الدم إلى الدماغ بواسطة عرقين من القلب. وهناك ينقسمان إلى أقسام تشبه الشبكة. ومن شبكة العروق تنفذ عروق إلى البطنين (أو الوعاءين) المتقدمين اللذين في الدماغ(38). ويحيط بالدماغ غشاآن يقال لأحدهما الأم الجافية، وللآخر الأم الرقيقة:
-الأم الجافية: غشاء غليظ صلب موضوع تحت قحف الرأس. وهي الموضع الوسط من الدماغ. وينشأ من هذا الغشاء زوائد تصعد إلى القحف، وتنفذ من الشؤون، وتخرج إلى خارج القحف، ويتولد منها غشاء آخر فوق القحف وتحت الجلد، يسمي المسحاق. وتنشأ الأم الرقيقة من أطراف عظام القحف المسماة بالإبر(39).
-الأم الرقيقة : غشاء رقيق القوام يلي الدماغ يسمي "المشيمي" و"الأم الرقيقة". وهو غشاء تنسج فيه أوردة وشرايين ويداخل الدماغ في نهاية البطن الأوسط(40). ومما ذكره الأطباء المسلمون في الدماغ منتقدين غيرهم قول الرازي منتقدا جالينوس: "إن الفالج يكون من إصابة نصف النخاع طولا، دون أن يصاب النصف الآخر بأذى. وقوله: "إن سبب الفالج من أفة في شعب الأعصاب الخارجة من النخاع إلي اليد والرجل، وأن ذلك يحدث بغتة في وقت واحد. كما يخالف الرازي جالينوس في أن علة السكتة تكون بآفة في تجويف الدماغ أو في جرم الدماغ، بقوله: "إن الدماغ مثني في تجاويفه، أو مثني كذلك في جرمه، ونراه في فقرة بدأتها يشكك في كلا الأمرين ويطلب المزيد من البحث(41).
ويقول ابن سينا يصف الزوج السادس من الأعصاب القحفية (العصب 9-10-11 من الأعصاب الحديثة): "ينبت من مؤخرة الدماغ متصلا بالخامس، مشدودا معه بأغشية وأربطة كأنهما عصبة واحدة تخرج من الثقب الذي في منتهى الذرز اللامي(42). وفي هذا يعلق ابن النفيس بقوله: "متصلا بالخامس مشدودا معه بأغشية وأربطة. إني إلى الآن لا أعرف لهذا الاتصال حكمة، ولم أتحقق من صحته. فإن منشأ هذا الزوج خلف منشئه الخاص، ومخرجه خلف مخارجه، فلم يتقدم حتى يرتبط، ولم يتأخر ليخرج "(43).وهذا نقد صحيح أيضا. ونلاحظ من قوله: "لم أتحقق من صحته" أنه بحث وفتش فلم يجد هذا الكلام صحيحا، وبعبارة أخرى أنه شرّح تلك المنطقة، فاكتشف خطأ ابن سينا وجالينوس معا، وهو وصف دقيق لتشريح دماغ الإنسان الذي يختلف تماما عن الدماغ الحيوان(44).
كما عارض ابن النفيس جالينوس(45) في وصول الدم إلى الدماغ في قوله: "إن الروح الحيواني ينفذ أولا إلى البطن المؤخر، ثم ينفذ بعد ذلك إلى البطنين الآخرين، وهيئة التشريح تصدق ذلك، وتكذب قولهم. فإن نفوذ الشرايين إلى داخل القحف معلوم أنه لا يكون من البطن المقدم(46).وهذا صحيح كل الصحة، وهو يؤكد أن ابن النفيس قد شرح جثة الإنسان، كما يرى كل من الدكتور سامي حداد والدكتور بول غليونجي والدكتور سليمان قطاية(47).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عبد الجبار، عبد القادر : جراحه الأعصاب المحيطة عند الأطباء العرب، أبحاث المؤتمر السنوي الثالث للجمعية السورية لتاريخ العلوم بحلب، الفترة بين 12-13 أبريل1978م ، ص28
(2) القانون في الطب ، 1/53.
(3) المصدر نفسه، 1/53.
(4) حبال عصبية تنشأ من الدماغ على هيئة أزواج متناظرة: يمنى ويسرى. عددها أثنا عشر زوجا. تسير في باطن القحف، ثم تخرج منه بواسطة الثقب الموجود فيه، وتذهب إلى الأعضاء الخاصة بها =انظر جرعتلي، مصطفي: سلسلة المصورات التشريح، (دمشق ،1981م) 1/132.
(5) كان بعض الأطباء يعتقدون أن العصب الشمي (الزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي) ليس عصبا، بل امتداد للدماغ ولا أهمية فيزيولوجية له. من هؤلاء مثلا على بن عيسى الكحال في كتابه "تذكرة الكحالين". ويصحح ابن النفيس هذا الخطأ فيقول: "والشم يتم بالزائدتين الشبيهتين بحلمتي الثدي اللتين في مقدمة الدماغ، وهما أصلب من الدماغ، وألين من العصب. =انظر شموط، محمد نزار : أسبوع العلم الثامن حول ابن النفيس (دمشق ، 1926) ص82 .
(6) الرازي : المنصورى ،ص37. المجوسي :كامل الصناعة الطبية، 1/63. ابن النفيس : شرح تشريح القانون، ص278. ابن القف : العمدة، 1/47 .
(7) جرعتلي: المصدر السابق 1/62
(8) انظر الشكل ( ) الذي يوضح توزيع الأعصاب الدماغية حسب وجهة نظر الطب الحديث.
(9) المجوسي: كامل الصناعة الطبية 1/ 63 ، كذلك ابن القف : العمدة 1/43 الحموي : نور العيون، ص60
(10) عقل، محمود بدر : الأساسيات في تشريح جسم الإنسان، دار الفكر (عمان، 1992) ص248.
(11) ابن القف : المصدر نفسه ، 1/41.
(12) فريحات، حكمت عبد الكريم : تشريح جسم الإنسان، ص94 .
(13) ابن القف : المصدر نفسه 1/41.
(14) جونز ، هوبكنز : أطلس جونز هوبكنز في التشريح الوظيفي للإنسان، تحرير جورج وزويديما، ترحمة: حمد إبراهيم العيشي (القاهرة؛ 1984م)ص42 .
(15) ابن القف : العمدة 1/42 .
(16) كامل الصناعة الطبية 1/63 .
(17) جونز هوبكنز : المرجع السابق ، ص 43.
(18) هتا بذكر ابن سينا خلاف ذلك " يقول أن منبته من الجزء المؤخر من الدماغ به الحس السمعي" =انطرالقانون 1/53
(19) ابن القف : العمدة 1/43
(20) المجوسي: كامل الصناعة الطبية، 1/63.
(21) المصدر نفسه 1/73
(22) المجوسي: كامل الصناعة الطبية، 1/63.
(23) ابن القف : العمدة 1/43.
(24) محمد كامل : طب الرازي، ص33 .
(25) الشطي : تاريخ الطب آدابه وأعلامه، ص41 .
(26) أسعد أمين : الطب العربى، ص169.
(27) ابن القف : العمدة 1/43 .
(28) فريحات : المرجع السابق، ص45.
(29) المجوسي: :كامل الصناعة الطبية، 1/64 . ابن سينا : القانو ، 1/55 . ابن القف : العمدة 1/40. أبى البركات البغدادي : المعتبر،2/259 .
(30) ابن القف: المصدر السابق، ص65.
(31) فريحات : المرجع السابق، ص45.
(32) ابن العباس : كامل الصناعة الطبية ، 1/ 94، كذلك ابن القف : العمدة 1/ 90.
(33) نري هنا الخلاف في تقسيم الدماغ في الطب الحديث ثلاثة وعند الأطباء المسلمين اثنان.
(34) ابن العباس : المصدر السابق ، 1/ 94، وكذلك ابن القف : المصدر السابق ، 1/ 90 .
(35 ) عقل : الأساسيات في تشريح جسم الإنسان ، ص189.
(36) ابن العباس : المصدر السابق، 1/95.
(37) المصدر نفسه ، 1/95.
(38) حنين بن إسحاق : العاشر مقالات، ص41.
(39) العمدة : ابن القف، 1/92.
(40) المصدر نفسه، 1/92.
(41) محمد حسين كامل : الطب الرازي، ص54.
(42) القانون : 1/ 54.
(43) شرح تشريح القانون ، ص
(44) قطاية : ابن النفيس ،سلسلة أعلام الطب العربي،المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت، 1984م)57
(45) يقول جالينوس: "يصل الدم إلى الدماغ في القسم الذي يسميه البعض الدماغ المقدم ، غير الجافية التي تقسم الدماغ إلى قسمين" …انظر ابن النفيس : شرج تشريح القانون، ص156.
(46) المصدر نفسه، ص156.
(47) قطاية، سليمان : ابن النفيس، ص56.