ومتى تشرّع حكومة المالكي السؤال المزعج: من أين لك هذا؟
بقلم: حبيب تومي
في عمل تلفزيوني سوري شاهدته قبل سنين على فضائية خليجية، خلاصة ما ورد فيه: ان ملكاً استدعى كبير وزرائه الى قصره، وأخبره بأن ملكاً عظيماً سيزور مملكته ويريد ان يرتب له استقبالاً حافلاً لا مثيل له، ولهذا اراد الملك ان يصرف على هذه المناسبة مبلغاً كبيراً لأظهار العاصمة بمظهر يليق ومكانة الملك الزائر، وعليه خصص الملك مبلغاً كبيراً مقداره مليون ليرة لتنظيم الأستقبال الحافل هذا . وسلم المبلغ لكبير وزرائه والذي بارك بدوره قرار الملك الحكيم ووعده ان يرتب استقبالاً لا نظير له وخرج كبير الوزراء وفي جعبته مليون ليرة.
اجتمع الأخير بوزير التشريفات وقال له: ان مملكتنا ستستقبل ملكاً عظيماً وإن ارادة ملكنا الحبيب تقضي ان باستقبال الضيف الكبير بحفاوة بالغة وقد خصص مبلغاً كبيراً لهذه المناسبة، ثم اضاف: تصور ان الملك خصص مبلغ نصف مليون ليرة للأحتفاء بهذه المناسبة، وسلم النصف مليون للوزير ووضع في جيبه النصف الآخر.
وهذا الأخير اتصل بمحافظ المدينة يطلبه لامر هام، وبعد ان وصل المحافظ قال له الوزير: تصور ان مملكتنا ستستقبل ملكاً عظيما، وملكنا المحبوب خصص مبلغاً كبيراً قدره ربع مليون ليرة للأحتفاء بهذه المناسبة السعيدة، وها إني اسلم لك هذه الأمانة لتنفقها على مراسيم الأستقبال.
وهذا بدوره استدعى اعضاء مجلس المحافظة للاجتماع لامر هام، وأبلغهم بأن الملك قد خصص لهذه المناسبة الكريمة مبلغاً كبيراً مقداره 100 الف ليرة وها إني اسلمه لكم بكل امانة لتنفقوها على مراسم الأستقبال.
ومجلس المحافظة بدوره اتصل بالتجار والوجهاء وأخبروهم بأنهم امام مهمة قومية وطنية بالغة الأهمية وينبغي ان يبرهنوا على وطنيهم وإخلاصهم للملك حيث انه سيتقبل ملكاً عظيماً وينبغي ان تكون عاصمتنا بحلة جديدة وان تذبح امامه الذبائح وتقام المهرجانات ولثقتنا بمشاعركم الوطنية فنطلب من التجار ان يتبرعو بسخاء لهذه المناسبة، ومن الوجهاء ان يحثوا المواطنين على التبرع، ووزع المبلغ المخصص 100 الف ليرة بين اعضاء مجلس المحافظة.
كانت هذه قصة طريفة وذو مغزى لما يجري في وطننا من فساد مستشري حتى العظم في اوصال الهرم الأداري للدولة العراقية من القمة حتى القاعدة. وإذا شرع السؤال الذي يطرح على الوزير والمدير والى اصغر موظف وهو السؤال المزعج لكنه سؤال الشفافية والمصداقية وهو:
من أين لك هذا؟
الراتب مبلغ محدود يكفي لمعيشة متوسطة او راقية، لكن لا يؤهل صاحبه ان يبني عمارات ويشتري عقارات وشركات وأرصدة عالية في البنوك العراقية والأجنبية.
نحن نتفق مع حكومة المالكي بأن الارجحية في اولوياتها هي فرض الامن والاستقرار وترسيخ قواعد دولة القانون، والحد من سيطرة الميليشيات والعصابات، وبرأي ان مسالة الفساد الأداري والمالي لا تقل شاناً عن المسائل المطروحة امام الحكومة.
إن داء الفساد الأداري والمالي مستشري في الهيكل الحكومي من اصغر المستويات الى اعلى المسؤوليات، وإلا كيف نفسر اختفاء المليارات من الدولارات من عائدات النفط، ثم كيف نفسر تهريب النفط الخام بشاحنات وبواخر؟ وكيف نفسر اختفاء السيارات الحكومية بالجملة؟ وكيف نفسر ...؟ الخ من علامات الأسفهام التي تبغي وضعها بعد اسئلة كثيرة يتطلب الأجابة عليها.
إن علائم الفساد تشخصه الكثير من التقارير الدولية المحايدة على ان العراق يتربع على قمة الهرم في الخريطة العالمية لتحديد مديات الفساد المالي في العالم.
إن الديمقراطيات الغربية التي اتسمت بالشفافية في تعاملها المالي والأداري تبدأ من اعلى المستويات في مراكز المسؤولية ولا حصانة لمسؤول مهما بلغ مركزه، ازاء السؤال الذي يسري على الكل دون تمييز. في بريطانيا يسري هذا القرار على اعضاء مجلس العموم واللوردات البريطانيين وعليهم ان يصرحوا مرة او اكثر في السنة بكل ما تقاضوه من مبالغ حتى لو كانت تافهة فوق رواتبهم ومصادر هذه المبالغ.
لقد صرح توني بلير حينما كان رئيساً للوزراء في بريطانيا أنه سافر هو وزوجته الى الأردن على حساب الملك عبد الله وكان ذلك سنة 2004، كما ان جاك سترو وزير خارجيته حينها، كشف إن شركة الخطوط الجوية البريطانية قد رفعت بطاقته، في سفرة سياحية شخصية هو وزوجته الى بوسطن رفعت بطاقته من درجة رجال الاعمال الى الدرجة الأولى دون دفع الفرق في السعر وكان ذلك سنة 2004.
فبعد كم من العقود يبلغ ذوي المسؤولية في بلدنا هذه المكانة من الشفافية؟
في العهد الملكي كانت هنالك محاولات لوضع السؤال: من اين لك هذا؟ موضع التنفيذ لكن القانون لم يكتب له النجاح. ومع هذا كان هنالك قدراً كبيراً من المهنية والشفافية في صرف الأموال العامة. لقد رفضت وزارة ناجي السويدي (غازي المرسومي: البلاط الملكي في العراق 135) الموافقة على تخصيص مبلغ من المال لسد نفقات الملك العلاجية خارج العراق في صيف 1929 مبررة ذلك بالقول: إن الملك يتقاضى مخصصات ملكية كافية لجميع اموره الشخصية مما يبرر صرف المبالغ اللازمة للمعالجة من جيبه الخاص.
وفي نفس السياق ورد: ان ياسين الهاشمي وزير المالية في الوزارة ذاتها رفض الموافقة على طلب من رئاسة الديوان الملكي لشراء سيارة للأمير غازي من فائض تخصيصات الأمير والمقدرة بـ ( 3000 ) روبية * حتى نهاية السنة المالية.. وبين الهاشمي للديوان بأن تخصيصات الأمير غازي ليست لها علاقة بمصروفات كهذه.
نبقى بمساعي الحكومة التي تتصدى حالياً لمعضلة الميليشيات وفرض القانون وينبغي الأقرار ان تشخيص هذه المعضلة والتصدي لها ليست عملية مستحيلة، بيد ان القضاء على الفساد الأداري والمالي والذي تمتد جذوره الى كل مفاصل الحياة في جسد السلطة كما يستفحل داء السرطان، فكيف السبيل الى استئصال هذا المرض من الجهاز الحكومي والذي يتخذ صور شتى من قبيل: دفع مئات الدولارات للحصول على جواز سفر، مئات الدولارات للحصول على وظيفة شرطي، تزوير شهادات علمية للحصول على وظيفة مرموقة تهريب النفط وسرقة المال العام .. الخ.
إن كانت الحكومة تريد ان ترسي قواعد متينة لدولة القانون والمؤسسات، كيف تتمكن من القيام بهذه المهمة والفساد ينخر كل هيكلها؟
ان حكومة الأستاذ المالكي إن أرادت ان تقف على ارضية شعبية صلدة، وأن تنجز ما تصبو اليه من تحقيق الأستقرار عليها ان تستند على جهاز حكومي مهني ليس موبوءاً بأمراض الفساد وبذلك يكون محصناً من اختراقات العصابات والمليشيات، وبغية ان تحتل الحكومة هذا المركز المرموق، عليها ان تستعد لطرح السؤال: من اين لك هذا؟ وأن يكون سارياً على اعلى مسؤول في الدولة الى الوزير والمدير والفراش، وهذه شفافية تحقق للحكومة مصداقيتها والشعب يساندها، وليس هناك افضل من تأييد الشعب الذي يمنح الحكومة القوة والديمومة. فهل تجرأ حكومتنا الى تشريع سؤال الشفافية المزعج: من اين لك هذا؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كانت عملة العراق المتداولة في العهد العثماني الليرة العثمانية وأجزائها وبعد الأحتلال البريطاني اصبحت عملته الروبية الهندية وفي عام 1932 كان تداول العملة العراقية الورقية الدينار وأجزائه: الدرهم والفلس.