دراسة تحليلية " تجليات المأساة في شعر الخنساء"
(الجزء الأول)
بقلم: السيد خا لد عبد اللطيف
يعتبر شعر الخنساء من أروع مانظم من قصائد متميزة في العصريين الجاهلي والإسلامي،باعتبارها شاعرة مخضرمة،عاشت في الجاهلية وأدركت الإسلام.
ولعل خير ما يجعل شعر الخنساء متميزا يعود للأسباب التالية:
1/ أولا شعر الخنساء أغلبه ذاتي يعبر عن وقائع حقيقية عاشتها الشاعرة.
2/ ارتباط شعر الخنساء بواقعها الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والديني.
3/ اعتبار شعر الخنساء هو "شعرتجربة" أي شعر معاينة لأحداث ملموسة أثرت في نفسية الخنساء،وأنتجت شعرا صادقا نابعا من أعماق شاعرة عاشت الويلات،وذاقت مرارة الفراق من موت الإخوة والأبناء،وباقي شباب القبيلة وشيبها.
4/ الصدق في نقل هذه الوقائع بلغة شعرية راقية.
5/إجماع النقاد على اعتبار شعر الخنساء من الأشعار الرفيعة،لا من حيث جماليةالصورالشعرية،واتساق التركيب،وانـــــسجام الإيـــــــقاع،وتــــرابط الدلالات،وتنويع القوافي.
" والخنساء من شواعر العرب المعترف لهن بالتقدم،أجمع الشعراء ورواة الشعر القدماء على أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها اشعر منها في الرثاء،وعدوها في الطبقة الثانية" (1)
لقد ارتبط شعر الخنساء بالرثاء،مما جعلها تتفق في هذا الغرض الشعري،ولم تستطع أية شاعرة أن تضاهيها أو تنافسها،لأن الخنساء ظلت وفية لهذا الغرض الشعري الذي لازمها ولازمته، بناء على المآسي المتعددة التي عاشتها،وإن صح التعبير أسمينا هذا الشعر ب" شعر الأحزان".
ولعل شاعرية الخنساء وعلو كعبها،وقدرتها القوية في تميزه كشاعرة هو قول جرير يعترف بشعريتها.
"قيل سئل جريرمن أشعر الناس،فقال،أنا لولا هذه الخبيثة،يعني الخنساء،وقال بشارفيها،لم تقل امرأة قط إلا تبين الضعف فيه،فقيل له،أو كذلك الخنساء؟ قال: تلك فوق الرجال" (2)
إن أول ملاحظة يمكن ان يرصدها قارئ أو ناقد ديوان الخنساء،هو طغيان دلالة البكاء والدموع والنحيب والآهات.
وأول ما يطالعنا في ديوانها قولها:
ياعين مالك لا تبكين تسكابا * إذا راب دهر وكان الدهر ريابا.
فابكي أخاك لايتام وأرملة * وأبكي أخاك إذا جاورت أجنابا(3)
فالخنساء تذرف الدموع،لكنها لا تكتفي بذلك،بل هي تحرض عيونها عــــلى الا تتوقف عن ذرف الدموع،مخافة أن تتوقف عن البكاء.
فهي متهيجة وحزينة،وحزنها يزداد مع تفاقم وضعيتها النفسية وتأزمها.
فالبكاء بالنسبة لها ليس مجرد فعل عضوي للعين في استخراج الدموع،بل هو نوع من الوفاء لذكرى أخيها صخرا،الذي فجعت في موته،هذا الأخ الذي يتصف بالجود والعطاء وإيواء الغريب.
صخر الذي يعتبر بالنسبة للخنساء العطوف على الأيتام والأرامل المكفكف لدموع اليتامى،والمحرومين والبائسين.
صخر الذي تجسدت فيه كل الصفات الكريمة والخصال الحميدة،صخر البطل الشجاع والمحارب المغوار المدافع عن قيم التسامح والعدالة الإجتماعية،هو صخر الذي رثثه الخنساء وسكبت عليه الدموع مدرارا.
تقول الخنساء:
وأبكي أخاك لخيل كالقطا عصبا * فقدن لما ثوى،سيبا وأنهابا
يعدو سابح نهد مراكله * مجلبب بسواد الليل جلبابا(4)
تظل دلالة البكاء صفة ملازمة للخنساء،وتكرار كلمة" البكاء" دليل على أن الخنساء لم تشف غليلها من إثبات حزن متكامل،وحزنها على صخر لا تكفي الدموع وحدها للتعبير عن فقدان آخ كامل الأوصاف.
صخر يظل قطب الرحى في مخيلة الخنساء وموته يعني موتها،وبدونه سمج وجه الحياة لديها،وفقدت لذة العبش وكأنما لسان حالها يقول" ماقيمة حياة في موت أعز الناس"
إنها تناجيه في في يقظتها ومنامها،في سرها وعلانيتها،في صبحها ومسائها،في عشيها وأبكارها.
فصيغة الأمر" أبكي" دليل صدق على تداول البكاء والا ستمرار فيه والتوغل في تشعباته المتعددة باعتبار" البكاء" رمزا للحزن والألم والتعاسة والفاجعة والكآبة"
الخنساء اذن تعيش حالة سوداوية،وانتكاسة متواصلة لا حدود لها.
لقد شبهت الخنساء صخرا بطائر القطا الذي يضرب به المثل في الهداية فيقال" أهدى من القطا"
وصخر لا يركب من الخيول إلا الفرس الحسن الجميل الجسم،الواسع الجوف العظيم المركل،نسبة للحصان القوي العربي الأصيل.
تقول الخنساء:
هو الفتى الكامل الحامي حقيقته * مأوى الضري إذا ماجاء منتابا
يهدي الرعيل إذا ضاق السبيل بهم *نهدالتليل لصعب الأمر ركابا(5)
تفننت الخنساء في وصف أخيها صخرا وعلاقته الحميمية بالفقراء والمحتاجين والمستضعفين في الأرض كعلاقة الشجرة بجذورها،وعلاقة الموج بالبحر،وعلاقة الأم بطفلها،لا فكاك لهذا من ذاك.
فصخر هو حامي الفقراء والمشردين والمعوزين،وهو المدافع عن القبيلة والعشيرة والحي.
وهو تصوير فني من الخنساء،على اعتبار صخر له شعبيته الواسعة لدى الفقراء،يتفهم وضعياتهم،ويساعدهم والدليل على ذلك هو أن هؤلاء المحتاجين يعودون مرات متعددة من أجل أن يكرمهم،ويمدهم بسخائه وكرمه الحاتمي.
فهو يمد يده البيضاء مد الكريم،ويبسطها بسط الجواد الندي اذا منح لا يتوقف عن العطاء،واذا وهب فهبته كبيرة كبر قدره وعالية علو مكانته.
وبعد أن تسرد علينا الخنساء فضل صخر على الفقراء،تعود لتسمعنا من درر شعرها على فجاعة الفقدان،وحدة المصيبة التي ألمت بها لرحيل كبير الفرسان وحامي الديار.
مابال عينيك منها دمعها سرب * أراعها حزن أم عادها طرب
أم ذكرصخر يعيد النوم هيجها * فالدمع منها عليه الدهر ينسكب(6)
عيون الخنساء" تورمت من البكاء،الدموع منهمرة غزيرة لا تتوقف،إنها نزيف مسترسل،هي فيض الأسى لا تلتئم جراحها،شيء ما يحدد على الخنساء مواجعها،يعادها الدمع،ولا يهادنها،إنه يفجر ما تبقى من طاقتها على الصبر،يفتت كبدها،ويشعل النيران في صدرها ويحرق قلبها.
لقد تمكنت الخنساء ببراعة تصويرها من الجمع بين دلا لتين موحدتين: (الحزن/ والطرب) لكي تؤكد أن مأساتها مراتب وطبقات والطرب هنا( بفتح الطاء والراء) هو الحزن الشديد.
الشيء الذي لا يختلف فيه ناقدان،ولا يتنازع حول صحتها قارئان نموذجيان،كون الخنساء تنتفي عنها صفة" النسيان" فكل من فجع في قريب له إلا وينسى فجيعته مع الزمن، إلا الخنساء فقد اتخذت على نفسها عهدا ألا تنسى فواجعها ومآسيها.
والنسيان في التحليل النفسي" حالة لا شعورية"فنحن لا ننسى الا الأشياء التي نكرهها،أو تمثل ذكرى قاسية علينا عشنا أحداثها.
الخنساء لا تنسى..ولا تريد أن تنسى،لقد ظلت ترثي اخويها صخرا ومعاوية وابنائهم الى أن لحقت بهم .
وهذا الإلتزام في تذكر الخنساء لأخويها وأبائها هي ظاهرة منفردة ومختلفة يمكن لكل ناقد او قار ئ لشعر الخنساء أن يتوقف عندها،
فهذا الا ستحضار المتجدد في ذاكرة متجددة كذاكرة الخنساء لحديرة منا بأن نفرد لها دراسة خاصة حول تمسك الخنساء بنفس المشاعر الصادقة المتأججةو الدائمة لكل من فقدتهم من عائلتها،وهم ما يجعل الكثيرين يقفون وقفة إجلال لهذه الشاعرة التي ماتراجعت قيد أنملة فيما أخلصت له ونذرت نفسها من أجله.
فالخنساء عبقرية في شعرها وفي ابداعها وفي مواضعيها المرتبطة بالرثاء بلغة شعرية متجددة وأفكارراقية.
التذكر عند الخنساء هو نقيض النسيان،إنه إكسير الحياة الذي يمنحها القوة والمناعة على استمرارتعلقها بأخيها صخرا،إن التذكر بقدر ما هوترياق يمنح الخنساء الشعور برغبتها في الوفاء بنذرها لأخيها،والوفاء لذكراه،بقدرما تتملكها حالة من الهستيريا،إنها في لا شعورها تتنا قض مع قدرتها على تقبل فكرة الإيمان بالقضاء خيره وشره.
الموت حق "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"(7).
التذكر يهيج الخنساء،وبطريقة لا شعورية تنسكب الدموع من عيونها مدرارا.
لقد ظلت الخنساء محملة بأحزانها المبطنة في أشعارها في رحيلها وترحالها،حتى في سوق" عكاظ" الشهيرة" كانت الخنساء لا تتنازل عن الموضوع الذي التزمت به وهو رثاء صخر،وهذا ما سنؤكده من خلال هذا الحوار.
"أتت الخنساء النابغة في سوق عكاظ وأنشدته:
قذى بعينك أم بالعين عوار * أم أقفرت إذا خلت من أهلها الدار
فلما بلغت قولها:
وإن صخرا لتأثم الهداة به * كأنه علم في رأسه نار
قال :
ما رأيث ذا مثانة أشعر منك"
ويروى أنه قال لها" لولا أن أبا بصير سبقك لقلت أنك أشعر من في السوق"
(8)
لقد ظل صخر تلك الصورة الحية التي لا تمحى من ذاكرة الخنساء،وتناسلت خيوط الحزن،وسبائك الألم،وامتزج التذكر بالبكاء،والأسى باستحضار الفاجعة.
صخر في نظر الخنساء ما مات ولن يموت،كل شيء يذكرالخنساءبه،والتذكر أصل امتداد الفاجعة عند الخنساء.
إني تذكرته والليل معتكر * ففي الفؤاد صدع غيرمسغوب
نعم الفتى كان للأطياف إذ نزلوا * وسائل بعد النوم محروب(9)
فالخنساء تذكر صخرا بالليل الشديد الظلام،وفؤاده( أي قلبها) متصدع من شدة التعلق بصخر الذي ترك فراغا كبيرا في قلب الخنساء.
صخر المضياف الذي أعطى وأجزل العطاء،ولم تكن قسمته ضيزى.
فالتذكر هو زيادة في ألم الخنساء،والتذكر عند الخنساء،جعل السيل يبلغ الزبى،إنه الطامة الكبرى التي حلت بها،ودمرت حياتها.
ذكرتك،فاستعبرت والصدر كاظم * على غصة من الفؤاد يذوب
لعمري لقد أوهيت قلبي عن العزا * وطأطأت رأسي والفؤاد كئيب (10)
إن تكرار الفعل" ذكرتك" خصيصة جوهرية في شعر الخنساء،والغاية من توظيفه هو التأكيد على فداحة الأمر،وتعلق الشاعرة بأخيها الذي رحل إلى دار البقاء.
وارتبط التذكر عند الخنساء بذرف العبرات،فيحين يظل الصدر كاظما للحرقة الداخلية،تلك النار التي لا يطفئها أي عزاء مهما كان نوعه،وقلب الخنساء يذوب من شدة المعاناة.
لقد أقسمت الخنساء مخاطبة صخرا أنها لن تستلم لهذا الوهن والضعف الذي قصد قلبها ،وأحزن فؤادها بأنها بصيغة أخرى تبحث عن وسيلة أخرى لتجديد تعاقدها مع الحزن.
ياعيني جودي بالدموع * المستهلات السوافح
فيضا كما فاضت غروب * المترعات من النواصح
وابكي لصخر إذ ثوى * بين الضريحة والصفائح.(11)
إن علاقة العيون بالدمع علاقة قديمة،ارتبطت بذات الخنساء،وفاضت دموعها.
لا تتحدث الخنساء عن العيون دون استحضار العبرات با عتبارها الوجه الآخر للفاجعة.
الخنساء تطالب الدموع بالفيض والامتلاء كما الغروب.
اكتمل الألم عند الخنساء بالإنتقال من حدث خارجي يرتبط بها(الدموع والبكاء) الى حدث داخلي يرتبط بقبر صخر الذي أقام وسط حفرة بها حجارة رقاق تسقف بها القبور.
قبر صخر تمر عليه الرياح النوافح لا أحد سيذكره سوى الخنساء،الأخت الوحيدة التي أخلصت لذكراه،وأحيت أمجاده وخصاله الحميدة.
الغبار والرياح والحجارة ثالوث يجسد إحدى السمات الأساسية للنهاية اليقينية للإنسان،القبر نهاية كل حي،وصخر أودت به شجاعته،لفه الردى وطواه القبر وحملته المنية الى باطن الأرض.
لا تخل أنني لقيت رواحا * بعد صخر حتى أثبن نواحا
من ضميري بلوعة الحزن حتى * نكا الحزن في فؤادي فقاحا(12)
إن الخنساء في كل ديوانها تجدد ميثاقها مع القارئ كونها لم تنس صخرا ولو لحظة واحدة،إنه يسكن جوارحها،ويستوطن في قرارات نفسها،هي لا تسلوه،حتى وإن طال الزمن،بل هي متشبثة بذكراه، إنها قد نحتت له تمثالا بداخلها،هو جزء منها ولا فكاك لها من ماضيه المجيد،وأريحيته الزكية،وسيرته العطرة.
الخنساء لم يعرف قلبها الفرح،ولاطرقت ابوابه السعادة بعد موت صخر،حياتها عذاب،وتفكيرها كله مشدود الى معضلة كبرى،معضلة الفراق القاهرنالموت تلك القوة المدمرة التي نالت من الخنساء وأخيها.
لوعة الحزن سرمدية تابثة في قلب الخنساء،ذاكرتها تنكأ الجراح،وتجدد المواجع.
الحزن لا يعيد الموتى،لكن الخنساء مصممة على أن تظل أجواء الحزن والألم مخيمة على نفسها جاثمة على روحها حتى لا تخون ذكرى صخر.
ضاقت بي الأرض وانقضت محارمها* حتى تخاشعت الأعلام والبيد
وقائلين تعزي عن تذكره* فاصبرليس لأمر الله مردود(13)
إن الشاعرة التي جربت كل أنواع الأحزان،كآبة وألم ودموع وجزع،ولوعة وحرقة وصلت للطريق المسدودنوضاقت بها الأرض بعد يأس ذريع.
لقد تلقت الخنساء نصائح متعددة بنسيان صخر،ولا وسيلة لنسيانه إلا التسلح بالصبر.
• لا ئحة المراجع:
(1) كرم البستاني"ديوان الخنساء" دار صادرـ بيروت ط1 1996 ص5.
(2) نفس المرجع: ص6.
(3) نفس المرجع:ص7.
(4) نفسه ص7
(5) نفسه ص7
(6) نفسه ص8.
(7) سورة الرحمان: ىية26/27.
(8) الدكتور عبد المنعم خفاجي" الشعر الجاهلي" دار الكتاب اللبناني ـ بيروت ـ ط2 ص 145.
(9) كرم البستاني"ديوان الخنساء" دار صادرـ بيروت ط1 1996 ص14.
(10) نفس المرجع ص15.
(11) نفسه ص26.
(12) نفس المرجع ص26.
(13) نفس المرجع ص41.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
دراسة تحليلية " تجليات المأساة في شعر الخنساء"
(الجزء الثاني)
بقلم: السيد خا لد عبد اللطيف
الخنساء تعلم علم اليقين كما نصحها أهل الخير والصبر،أن الله استرد وديعته،ولاراد لقضائه فالموت مصير كل حي فلم البكاء؟
لقد رثت الخنساء أخاها صخرا،لكنها في قصائد أخرى جمعت بين كل من رثتهم من أحبتها إذ تقول:
أبكي عمرا بعين عزيرة* قليل اذا نام الحلي هجودها
وصنوي لا أنسى معاوية الذي* له من سراة الحرتين وفودها
وصخرا ومن ذا مثل صخر إذا غدا* ساحته الأبطال قزم يقودها(14)
في هذه الابيات الثلاثة،رثت الخنساء أخويها صخرا ومعاوية وأباهاعمرا،لكي تؤكد للشاعرة هند بنت عتبة بأنها أعظم العرب مصيبة/فموت الاب فاجعة،وفقدان صخر كارثة،ورحيل معاوية مأساة لا تعادلها كل مآسي الدنيا.
ظلت الخنساء في جل أشعارها مهووسة بالبكاء وذرف الدموع/وسكب العبرات،متنقلة بين الوادي والجبل،والصحراء والواحة،وبين كل هذه الأمكنة المختلفة،تتذكر كل عائلتها الذين فقدتهم الواحد تلو الآخر،صخر ومعاوية وعمرا وأولادها الأربعة .
وقد خلف موتهم حسرة في نفي الخنساء،ومن مثلهم في الناس معاوية بأصله الشريف،وصخر البطل الصنديد وعمر الاب العربي الأصيل.
لقد أرادت الخنساء أن تجسد لنا في قصائدها مطولات شعرية رثائية بامتياز،تمتح من معجم المأساة والفاجعة والكرب الشديد والخطب العظيم.
الخنساء لا يشبهها شاعر في الرثاء،باكية طول الدهر،وكل من سمع بكاءها يبكي معها،نائحة تفيد فن النواح،هائمة على وجهها في الفيافي والكثبان شاكية/مشتكية/داعية مدعوة لطقوس البكاء والنحيب.
الخنساء مدعوة الى الانخراط في رباط الأحزان،وفضاءات النحيب،وشق الجيوب.
لقد وظفت كلمة البكاء في الديوان 96 مرة تقريبا.
يذكرني طلوع الشمس صخرا* وأذكره لكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي* على اخوتهم لقتلت نفسي
ولكن لا أزالا أرى عجولا* وباكية تنوح ليوم نحس(15)
التذكر هو صمام الأمام بالنسبة للخنساء في استمرار حزنها،إنه الطاقة الكبرى التي تتقد همة الشاعرة من عدم النسيان.
التذكر بالنسبة للخنساء،بلسم لروحها،إنه الشرارة المتقدة على الدوام والتي تمنح لتماضر بنت عمرو( أي الخنساء) قوى خفية على مواصلة الحزن والاستمرار في رثاء صخر.
تتحدث الخنساء عن عدم قتلها لنفسها لأن أحزانها قد تقاسمته معها مجموعة من الباكين على من فقدوا أحبتهم وذويهم.
لكن الخنساء رأت في في بكاء(العجول)/ الثكلى اللواتي فقدن أبناءهن وفلذات أكبادهن علامة نحس مؤشر خيبة على استمرار مسلسل الفجائع الى ما لا نهاية.
وذكر الخنساء للعجول دليل على همنية النزعة التشاؤمية لدى الخنساء،فهي لم تعد في هذا العالم غير توالي الفجائع، وتوالد النكسات وتناسل المآسي،وبروز المصائب ورزايا الدهر،إنها حرب لا تبقي ولا تذر.
تعددت مستويات الرثاء عند الخنساء درجات تزداد حدة،ومع اختلاف هذه المستويات نسجل بنية إيقاعية حزينة يمكن اثباتها من خلال طغيان الحروف المهموسة في الديوان خصوصا حرف السين.
وإذا أحصبنا توظيفها لحرف السين نجده قد هيمن بنسبة 70/ من الديوان،فمنذ بداية القصائد الى آخرها نجد حرف السين والهاء والفاء والحاء.
ويجمع نقاد الشعر على آن الحروف المهموسة ترتبط إيقاعيا بدلالات الحزن والألم والبكاء وهذه الحروف المهموسة نجدها أكثر في بحور شعرية بعبنها مثل:
ـ البحر الطويل
-البحر المديد
- البحر البسيط.
وقد استأنست الخنساء بالبحرين الطويل والبسيط في رثاء ابيها واخوتها وابنائها مفضلة هذين البحريين الشعريين على باقي البحور الشعرية للأسباب التالية:
1/ لتماشي هذين البحرين القويين في إيقاعا تهم الحزينة مع نفسيتها المدمرة كليا.
2/معرفة الخنساء مسبقا أن هذين البحرين لا يستعملهما إلا فحول الشعراء.
3/ كون هذين البحريين ومنذ الأبيات الأولى يؤجج صدر الخنساء ويقويها على متابعة نظم القصائد.
تقول الخنساء:
لا خير في عيش وإن سرنا* والدهر لا تبقى له باقيه
كل امرئ سر به أهله* سوف يرى يوما على ناحية(16)
لقد تأكدت الخنساء أن الزمان لا يوثق به،والحياة بكل ملذاتها وأطايب عيشها آيلة الى الزوال،وأن صفاء العيش ينغصه كدر الموت،وبهاء الشباب يفسده مجيء الشيب،وتاج الصحة يهدمها معول الأسقام،وشساعة القصور ورحاب الضيعات يخربها ضيق القبر،ونور الدنيا تفسده ظلمة اللحود،فأي مسار يختار الإنسان في هذه الدنيا،ولكأن الخنساء تعي قول زهير بن أبي سلمى:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته* يوما على آلة حدباء محمول.
لاشيء يسر في هذا الدنيا الغادرة،اليوم على ظهرها وغدا في بطنها والعاقل من اتعظ والحكيم من اتخذ العبرة من الراحلين كل يوم الى دار البقاء.
لاشيء يفرح في هذه الدنيا،الخنساء اقتنعت بهذه الرأي،موت صخر وموت الاب والأبناء اكبر رزية ،فماذا تبقى للخنساء غير الأحزان واليأس والبكاء.
الخنساء وحدها تعرف ماذا يعني أن يبقى الإنسان لوحده دون عائلة،أن يحثث كل ما من شأنه أن يخلق لها السعادة.
ما قيمة كل حي الى الموت يؤول؟ هذا ما تطرحه الخنساء في صبحها ومسائها.
وأعز ما يعتبره الانسان مصدر سعادته يخطفه الموت خطفا،وينتزعه نزعا من بين أهله وأحبته وهم يبصرون.
قال تعالى"فلولا إذا بلغت الحلقوم،وأنتم حينئذ تنظرون،ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون" سورة الواقعة الآية83/84/85 . (17)
الخنساء تعلم علم اليقين أن الموت حق،وأن كل إنسان له نهاية مهما عمر طويلا.
فالحياة مهزلة والجاهل من وثق في عهودها،واطمأن الى الخلود بها،فهي دار الزوال والعائش فيها كالضيف أو الطيف ليست له إقامة.
تقول الخنساء:
ألا ليت أمي لم تلدني سوية * وكنت ترابا بين أيدي القوابل
وخرت على الأرض السماء فطبقت* ومات جميعا كل حاف وناعل
غداة غدا ناع لصخر فراعني* وأورثني حزنا طويل البلابل.(18).
من شدة الحزن والبكاء واللوعة،تمنت الخنساء لو أن أنها لم تلدها مستوية الخلق لا عيب فيها،ومن شدة الجزع الأكبر تمنت الشاعرة لو أنها ماتت وهي بين أيدي القوابل.
إن صيغة التمني عند الخنساء ترقى الى مستوى/عدمي موغلة في التشاؤم والسوداوية،فالخنساء قد وصلت بها درجة اليأس الى تمني الموت أو التحول الى تراب.
كل شيء بالنسبة للخنساء ميت،الحافي والناعل،فالحياة لا تمنحك بقدر ما تنزع منك أعز الأشياء إليك،إنها بالوعة تبتلع كل شيء،وتأتي على الأخضر واليابس.
الموت توأم الغدر،والمنية رفيقة الجزع،والردى يصاحب الألم والتوجع.
اصعب يوم في حياة الخنساء هو اليوم الذي وصلها فيه نعي صخر.
فاسوأ الأخبار،لما علمت الخنساء أن صخرا قد مات،صدمتها كانت أكبر، ومأساتها لا تعادلها مأساة،وموته تسبب لها في حزن طويل لا يتوقف نزيفه، ونهر كبير من الدموع تصب صببيا لا ينقطع.
خبر الموت هو الفاجعة الكبرى،والألم الصعب الذي يتقد في قلب الخنساء ويحرقها،هو الموت الذي لا يرحم،وقساوته أنه اختار صخرا أعز الاخوة على الخنساء وأقربهم إلى قلبها.
لعل ما يميز شعر الخنساء من خلال هذه الدراسة التحليلية لديوانها،هو احتفاؤها بنزعة الحزن،وحاولنا أن بين تجليات المأساة في شعرها من خلال موقعها كشاعرة رثاء عاشت تجارب مريرة قطبها الموت ومركزها تداعيات الفاجعة بكل مسمياتها،وثأتيرها على التجربة الشعرية للخنساء.
وعن شعر التجربة يقول: روبير لانكبوم
" تختلف الإستجابة الموحدة،عند التجلي،عن الإستجابة للشعر العادي في كونها تقوم على انفكاك أصلي للفكر عن الشعور،ثم يتم إنجازها بالظفرعلى ذلك التفكك.في الشعر التقليدي تنتمي
الا ستجابة الموحدة إلى الشاعرباعتبارها أداته العادية،وبوصفها استجابة مناسبة لحقيقة موضوعية تضم الواقعة والقيمة،أما في التجلي فتنبثق كذروة لفعل مسرحي لا تلبث الا برهة فقط،وبعدها نعود إلى عالم الإدراك العادي حيث نترك للتساؤل إن كانت الفكرة التي حملناها من التجربة صحيحة.إنه بهذا الفصل بين لحظة الا ستبصارالأكيدة والفكرة الا شكالية التي نجردها منها،وبانعدام التوازن الجديد بينهما،نتمكن من أن نميز تميزا واضحا الشكل الأدبي الحديث،وهو شكل لا يحاكي الطبيعة ولا نسقا من الأفكارعن الطبيعة،وإنما يحاكي بنية التجربة ذاتها: فهو شعر التجربة"(19)
ولعل أجمل الشعر وأعذبه فنيا هو أصدقه وتمثيله للواقع،وتجسيدة للمعاناة الإنسانية في ابرز صورها،فمن لم يعش الألم ويجرب المأسي لن يمتلك القلب المرهف والإحساس الرقيق والمشاعر الصادقة،والخنساء من خلال صدماتها عاشت هذه المراتب من الحزن،وعانت ويلات الفراق والرحيل،وذاقت من الآلام والأحزان مالم يذقه إنسان،وتجرعت غصص الفاجعة الكبرى في أعلى مستوياتها وأعتى لحظاتها.
الخنساء شاعرة محنكة استلهمت شاعريتها من تجربتها الذاتية،فصورت ألامها في حلة فنية متميزة،فنظمت اشعارا تدمي القلب،وتججد المواجع على كل من ابتلي بموت الأخ أو الام أو الحبيب.
شعر الخنساء عبارة عن صور واقعية تضم عدة إشارات قوية الى من اغتر بهذه الدنيا وجعلها أكبر همه.
الحياة غادرة لا يمكن الركون البها،وما عانته الخنساء من ويلات دليل صدق على أن الدنيا لا يؤمن جانبها،ولا يمكن الركون إليها.
لقد جسدت الخنساء في ديوانها رؤية جديدة للإنسان والكون والعالم،وعبرت عن هذا الرؤية من خلال زفرات وآهات لا يستسيغ مرارتها إلا من كابد المعاناة
وأصابه القرح الشديد.
بعد سنوات طويلة من الحزن والالم والرثاء،نتساءل هل توقفت عيون الخنساء عن البكاء؟ هل ضعفت همتها بعد تكرار الحزن الطويل والعبرات المسترسلة،
لنقرأ هذا المقطع لعله يجيب عن بعض تساؤلاتنا.
" قيل إن عمر بن الخطاب دخل البيت الحرام فرأى الخنساء تطوف بالبيت محلوقة الرأس تبكي وتلطم خذها وقد علقت نعل صخرفي خمارها.فوعظها فقالت: إني رزئت فارسا لم يرزأ أحد مثله.
فقال: إن في الناس من هو أعظم مرزئة منك،وإن الإسلام قد غطى ما قبله،وإنه لا يحل لك لطم وحهك وكشف رأسك.
فكفت عن ذلك وقالت ترصي أخاها معاوية وأخاها صخرا:
هريقي من دموعك أو أفيقي * وصبرا،وإن أطقت،ولن تطيقي
وقولي إن خير بني سليم * وفارسهم بصحراء العقيق
وإني والبكاء من بعد صخر* كسالكة سوى قصد الطريق(20)
الخنساء من خلال حوارها مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم تتوقف عن الرثاء والبكاء والدليل هو انها نظمت أشعارا في حضرته.
• لا ئحة المراجع:
(14) كرم البستاني"ديوان الخنساء" دار صادرـ بيروت ط1 1996 ص44.
(15) نفس المرجع ص85.
(16) نفس المرجع ص147.
(17) سورة الواقعةالآية 83/84/85 .
(18) كرم البستاني"ديوان الخنساء" دار صادرـ بيروت ط1 1996 ص112.
19/ Robert langbum.the poetry of experience.penguinBooks 2.nd Ed.1974.p40.
(20) كرم البستاني"ديوان الخنساء" دار صادرـ بيروت ط1 1996 ص103.
--------------------------------------------------------------------------------