كان واقفا أمام مرسمه..لم يستدر حينما فتح الباب لكنها تعلم
أنه قد سمع و تعلم أنه مجروح..تقف وراءه ..تضع ذراعيها حول
عنقه..و كما قطة تتملق صاحبها تحك رأسها على كتفيه إلى أن تضع وجهها على خده.
هذه الاستراتيجية لم تفشل معه قط و لكنها تخذلها الآن..هي تتوقع
الأسوأ.
ما كل أعشاب الكآبة هذه التي تنبت على وجهك؟
تهمس بذلك و هي تمرغ خدها على وجهه.
أبعد وجهه عنها ثم تخلص من سجن ذراعيها.. استدار نحوها..لكنه يهرب من حصار نظراتها إلى تأمل قدميه.
فجأة تقرر الذهاب إلى الجهة المقابلة من الغرفة.. تقف هناك عند
النافذة..تضع ذقنها بين يديها.
الشمس اختفت خلف الأشجار.. الليل القادم رمى بياضا كلسيا على
البحر و الأغصان فقدت رونق ألوانها.
ماذا هناك بابا؟
ضحك..و لأنها لم تسمعه يضحك بهذه الطريقة من قبل،فكرت:"القضية عميقة إذن،لكن ما الأمر؟
على غير ما كانت تتوقع،،يقطع المسافة بينهما..يمسك كلتي يديها بين يديه..ينظر إليها في توسل.
في عينيه المرتبكتين تشهد انقضاء تلك اللحظة الوهمية التي تفرق بين الليل و النهار حينما يمتزج عطر البنفسج و الليلك مع أنسام
البحر و حينما تتقاطع طرق أسراب الحمام العائدة إلى أعشاشها مع
طريق طائر الليل الأسود.
إن السنوات العشرين التي عاشاها معا في هذا البيت الريفي بعيدا
عن زحمة البشر و عن تعقيدات الحياة المدنية جعلتهما ينسجان نوعا
فريدا من علاقة الوالد مع ابنته.
إنهما يتصرفان و كأنهما صديقان تماما.
ربما يكون لوفاة الوالدة دخل في الأمر، فغياب من يلعب دور الوسيط فرض علاقة مباشرة و ألغى الكثير من دور الغموض الذي يلعبه الوالد التقليدي.
من نظرة واحدة يمكنها أن تسبر أغواره فهو كتابها المفتوح و نظرتها هذه المسلطة عليه في عزم و تصميم لن تتركه أبدا و شأنه.
في صمت مطبق تم التفاهم بالنظرات أنه لا جدوى من الهرب.
أسقط يده في استسلام..
في حركة استسلام أمسك يدها..اتخذ له مجلسا..ثم أجلسها قبالته.
لقد وصلتني رسالة تهديد.
كيف؟ممن؟لماذا؟
جاءت أسئلتها هكذا في فوضى و ارتباك.
إنهم يريدون مني أن أوقفك عن الذهاب للجامعة و يريدونني أن أتوقف عن الرسم.
في لحظة استسلام تأخذه في حضنها و تضم حزنها لحزنه..تحس بألم قاطع كالسيف..كما لو كانت تلمس بجرحها جرحه فيصير الألم لذلك مضاعفا آلاف المرات.
ـ سنرحل من هنا.
لكن كل حياتنا عشناها هنا.. كل أمورنا ترتبت على هذا المكان.. ثم
إلى أين نذهب ليس لدينا مكان آخر نلجأ إليه.
"هذا المكان هو جنتك، كل ذكرياتك.. كل لحظات السعادة القصوى
وأحايين الشقاء مرتبطة بركن ما من البيت..بشجرة وارفة الظل
عملاقة تنتصب في إباء و كبرياء بالغابة..بكل أشجار التين و
الزيتون و التوت البري.. بقبر أمك الذي تغطيه نبتة ‘الجيرانيوم‘
الدائمة الاخضرار..بالوادي ذي الماء البارد في عز الصيف و المغارة السرية التي كنت تقيمين فيها مع أبيك موسم ‘التخييم المتوحش‘ و النار التي كنت توقدينها تماما كما كانت تفعل جدتك الأولى و لحظات الفخر الكبرى حينما تقدمين لأبيك طبقا استثنائيا ‘البطاطا المسلوقة على حطب الغابة‘و بتلك البهجة التي تكتشفينها كل صباح عند استيقاظك على صوت الآذان يأتيك من القرية البعيدة و الحياة العائدة مع خيوط الفجر.
يا الله كم كنت تحسين بلحظات الصفاء حينذاك"
تسترجع كل هذه الأشياء الجميلة وتتذكر ما كتبته الوالدة في دفتر
مذكراتها عندما اضطرتها الظروف للعيش في هذا المكان القصي
"إن الإنسان هو روح المكان و عالمنا الحقيقي هو ذلك الذي نحمله في أعماقنا يلازمنا في حلنا و ترحالنا و ما لم تطل الظروف ذلك العالم فلا شيء يمكنه أن يهزمنا و إلا كيف استطاع أبونا آدم أن يعمر الأرض بعد خروجه من الجنة؟"
تأخذ قرارها .
- نعم بابا..سنرحل .