أزمة أدباء .. لا أزمة أدب
أصل أزمة المثقفين العرب حاليا ومن خلفهم سائر الجماهير المهتمة بممارسة الحق الطبيعى لأى عقل فى التفكير , تكمن فى عدم وضوح الحدود والمعالم وعدم وضوح الألوان بعد أن أصبحت كلها باهتة
ولو أننا أحببنا إظهار أهمية المناقشات بصفة عامة لأى أمة لها نذر يسير من الحضارة فيمكننا القول أن أى أمة فى صدد قضاياها تواجه حالتين من القضايا لا ثالث لهما
إما قضايا واضحة الألوان محددة المعالم وهذه أمرها مفروغ منه لا يحتاج نقاشا ومن ثم تكون المرجعية فيها واضحة كالعقيدة مثلا فلن يتم النقاش بين الأمة الإسلامية وبعضها البعض فى كنه الإسلام كعقيدة هل هو الدين الخاتم أم لا
والنوع الثانى وهو نوع القضايا الباهتة الألوان المتشابكة الحدود والتى تحتاج فصلا وتجنيبا فيما بينها لنقف عند تعريف جازم لها ومن ثم تزول المشكلة ,
أزمة أدباء لا أزمة أدب
فلو أننا طبقنا تلك المبادئ على عدة قضايا مثارة بين الأدباء فى أزمة تخصهم لكنها لا تخص الأدب ذاته , لأن الموضوعات يتم طرحها بعناوين على شاكلة
*
هل هناك تصنيف معتمد للحكم على العمل الأدبي بأنه أدبي فقط أم أنه فكرى أو علمى
*
وهل هناك تصنيف ملزم للأدباء لكى يفرقوا بين مسميات النصوص من شعر ونثر
ولو أننا دخلنا بالنقاش مباشرة لما وصلنا لنتيجة لأنه يجب فى الأصل أن ننتبه لفحوى المقدمة ونفصل فيما بينها لأن احتوت على متناقضات لا علاقة لها ببعضها البعض
فالسؤال الأول يقول هل يجوز أن نصنف العمل الأدبي كنوع محدد من العمل {
والقول نفسه يحمل إجابة فى قوله عمل أدبي وهذا تصنيف تلقائي }
ثم يطرح مثلا لذلك بسؤال آخر هل هناك إمكانية أن نقول عن هذا العمل أنه قصيدة ولا نقول حوار فلسفي {
وهنا خلط يجب إيضاحه إذ أن التصنيف بين الأعمال الأدبية هو الذى يظهر فيه حصرا مسميات شعر وقصة ورواية أما تصنيف فلسفة فهذا تصنيف آخر تماما يختص بالمجال ويعتبر تصنيفا أعلى حيث تصنف الأعمال تصنيفا أوليا فنقول عمل أدبي وعمل فكرى وعمل علمى وهكذا .. }
ثم نصنف المجالات الرئيسية إلى أعمال متخصصة فنقول أن العمل الأدبي فيه القصة وفيه الرواية وفيه الشعر
والعمل العلمى فيه عمل فيزيائي وعمل كيميائي وعمل طبي وهكذا ..
وليس هناك بأس أن تكون فكرة القصة فكرة خيال علمى مثلا أو فكرة القصيدة فكرة فلسفية فهذا لا ينقلها من خانة العمل الأدبي بل تظل فى الأصل قصة أو قصيدة ولكنها تحمل معها روح ثقافية فى مجال آخر بدرجة وعى معينة لكنها لا تبلغ أبدا درجة التخصص فنقول أن القصة بحث علمى !
وتلك المقدمة كان يجب تنقيتها أولا من هذا الخلط لأن القضية الرئيسية تتضح فى سؤال هل يمكن أن نصنف العمل الأدبي على أنه قصة وقصيدة .. هذا هو لب المشكلة كلها
وما يغفل عنه الكثيرون أنت هذا التيار المنادى بما يسمى التحديث لا علاقة له بقضايا الأدب والأدباء بل علاقة بالإستشراق , فاللغة العربية وآدابها وفنونها هى الطريق الذهبي الضرورى لعلوم الإسلام وحضارته دون شك , وبالتالى فإن النيل منها كان ولا زال أحد أهم الأهداف التى سعا إليها الغرب وجنوده من الشرق
ففي نفس الوقت الذى كانت فيه حركات الإستشراق والعلمانية تضرب الثوابت الدينية فتنادى بتحديث العقول عبر هجر الإلتزام العقدى والانطلاق بالعقل دون رقيب من مبادئ الدين والتوحيد كانت ذيولها تضرب أيضا فى اللغة فظهرت التيارات الجديدة التى تنمى وترعى بشكل رسمى وإعلام مدعوم إتجاهات ما يسمى بقصيدة النثر والقصة القصيدة وما إلى ذلك من ألفاظ خريجى مستشفيات الأمراض العقلية !
وهى كذلك دون شك إذ أنها تخلط الألوان والتراكيب فى فوضي شاملة لا هدف لها فى الواقع إلا هدم ثوابت اللغة وجماليتها التى تنوعت وتصنفت وأمتعت عبر القرون بتلك المبادئ التى يسعون لتذويبها حتى إذا ذابت تلك المبادئ فقد التراث العربي بكل بهائه قيمته الكبري عند أبنائه إذ أن آلة الإستيعاب عندئذ ستصبح معطلة !
وهذا طبيعى فكيف يستجيب القارئ لبيت شعر مثل قول الإمام البيضاوى فى تشطيره لبردة البوصيري
الله أفـــهم قلبي منذ كنت فــــتى ×× فلا تــرانى لغير الحب ملتفتــــــــا
كم عاذل عاد لى بالعذل ما سكتا ×× وصاحبي صــــــــاح بي لما إلىّ أتى
فما لعينيك إن قلت اكففا .. همتا ×× وما لقلبك إن قلت استفق .. يهم
كيف يستجيب لتلك التعبيرات والتصوير المبدع وقد توجهت أفهامه إلى مثل قول القائل
تعلقت العروس الخشبية فى مرآة السيارة
تعيد قصة المغول
بالطبع لا يمكننا التعليق على مثل هذا القول الذى لا تعرفه صادرا من إنسان عاقل , فضلا على خلوه من أدنى هدف حتى أنه ذكرنى بتقرير طبيب منتدب للمحكمة لتحديد مدى القوة العقلية لأحد المتهمين المضطربين ذهنيا والمتحدثين خرفا
فالقضية ليست قضية تحديث أو حداثة وليست قضية أدبية أيضا بل هى كما سبق القول إحدى المحاولات لفصل الجيل الحالى المفصول أصلا عن لغته وتراثه ,
ويكفينا لإدراك مكمن الخطورة أن نعرف قدر ومقدار اللغة فى فهم وتدبر القرآن الكريم والذى يعد الطريق التقليدى له هو إدراك اللغة العربية ذاتها فى أعمال التراث الأصيل
فالحضارة العربية حضارة بيان لا حضارة بنيان وما كان تسليمهم لله ورسوله إلا بإدراكهم الفائق لإعجازية القرآن لغويا
وفى الواقع أن سائر الحجج التى تم طرحها من أنصار اتجاه الهدم لا التحديث عبارة عن كلام مرسل مطاط لا علاقة له بأدنى عقل ومنطق ,
لا سيما وأن التحديث ليس معناه أن تأتى على الأركان والقواعد فتهدم الفوارق الأصيلة بين الشعر والنثر وعندما نتساءل كيف سنفرق بين الشعر والنثر مع ضياع الوزن والعروض يجيبون بأن الإحساس هو الحكم !
ولست أدرى فى الواقع هل لو كان النص ساخنا مثلا يصبح قصيدة ولو كان حارا يصبح قصة ؟!
ثم تطورت الحالة النفسية لدى هؤلاء فقاموا بالدعوة لهدم الفوارق ذاتها فلا نقول أن هذا النص قصة و ذاك النص قصيدة بل الأعمال تترك هكذا ولا داعى للإغراق فى الشكليات !!
وهذا التطبيق نتائجه لا تقتصر فقط على ضياع هيبة اللغة وقيمة الموهبة والموهوبين فيها بل تتسع لتنزع وظيفة الآداب فى التعبير قضايا الأمة وإثراء الإحساس الحقيقي بها , وهو كما سبق القول القائد الطبيعى لإدراك التعبير القرآنى والحديث
والقضية مثلها مثل سائر القضايا الفارغة من المضمون تجدها زاخرة بالكلام دون مضمون حقيقي أو نقطة نتوقف عندها وتعتبر جدية للنقاش
فلم يعترض أحد على تطوير وتحديث الأعمال الأدبية , بل إن التطوير واقع فعلا ,
فكل قيد تعبر بأدوات عصرها وصورها عن واقعها ولكن فى حدود الضوابط التى تفرز الفوارق بين موهبة وأخرى وبين موهوب ومدعى .
ففى الشعر الجاهلى
كانت أدوات الشعر هى الخيمة والطلل وسائر مفردات الطبيعة الصحراوية فى تعبيرات بالغة الروعة وغير مسبوقة البلاغة فى أشعار النابغة الذبيانى وعنترة وامرؤ القيس ومثلت الأصل العام الذى انحدرت منه سائر الأعمال التالية مثل قول عنترة العبسي
يا طائر البان قد هيجت أحزانى ×× وزدتنى شجنا .. يا طائر البان
إن كنت تندب إلفا قد فجعت به ×× فقد شجاك الذى بالبين أشجانى
وفى العصر الإسلامي
كانت المفردات والتصوير تظهر فيه مفردات الجهاد والسيف والهداية والنور تعبيرا عن العصر مثل أشعار
حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة والإمام على بن أبي طالب وأشعار الإمام الشافعى وغيرهم واتسمت بنفس البراعة فى التعبير والدقة فى التصوير , مثل قول حسان بن ثابت
خلقت مبرأ من كل عيب ×× كأنك قد خلقت كما تشاء
فأجمل منك لم تر قط عينى ×× وأكمل منك لم تلد النساء
وفى العصر العباسي
بعد انتشار حياة الدعة والخمول ظهر التصوير للخمر والعشق والحب العذرى والغزل فظهرت الطفرة الأدبية الكبري , على يد العمالقة من أمثال
جرير والفرزدق والأخطل وأبي نواس الحسن بن هانئ ويزيد بن معاوية كذلك كان معهم فى عصور تالية مبدعى الأندلس بزعامة
بن زيدون واختلف التصوير لكن ظل الإبداع فى إطار الأصالة والقواعد الأصلية فرأينا إبداعات مثل قول يزيد بن معاوية واصفا الدموع فى قصيدته و( أمطرت لؤلؤا )
وأمطرت لؤلؤا من نرجس وسقت ×× وردا وعضت على العناب بالبرد
وهى القصيدة الفاتنة فى تاريخ الشعر العربي وهذا البيت يعتبر نسيج وحده حيث تمكن الشاعر فيه من صياغة لوحة متكاملة متعددة التصوير فى بيت واحد فوصف الدمع باللؤلؤ والأحداق بالنرجس والخد بالورد الذى ينزل عليه مطر الدمع فيرويه واكتمل المشهد بأن عضت شفتيها الموصوفان بالعناب بأسنانها التى فى لون البرد
فأى إبداع وأية أصالة
وفى عصرنا الحالى
وفى نفس إطار الحدود المعروفة والضوابط المنهجية للأدب وفنونه ظهرت الأعمال التى لا تقل قيمة وعظمة عن أعمال السابقين ولكن بمفردات وتصوير العصر بعد ثورة العودة لأصالة الشعر التى قامت على يد مؤسس مدرسة الإحياء والبعث
محمود سامى البارودى الذى ظهر بين معاصريه يصوغ شعرا ما ألفه العرب قبله فى ظل العصور المملوكية والعثمانية التى اتسمت بانهيار حضاري غير مسبوق وضاعت اللغة فى ظل التتريك الذى حجب العربية وآدابها
وظهر مع البارودى أمير شعراء العصر الحديث والشاعر الذى أدى وحده دورا لم يستطع تأديته الفطاحل على مر العصور ألا وهو
أحمد شوقي الذى أيقظ التراث الأدبي بالكشف عن إبداعات العصر الجاهلى والعباسي والأندلسي وأحيا بها فن المعارضة الذى مات ليخلق تنافسا حرا بين الشعر القديم والشعر الحديث فى إطار الأصالة الحقيقية
وكان شوقي سباقا فى مخزونه اللغوى حيث كانت حافظته اللغوية مكدسة بالمفردات البلاغية التى انتهت فى زمان الأتراك فخرج مع
حافظ إبراهيم وخليل مطران وإبراهيم ناجى وأحمد أبو شادى ليثروا الشعر العربي بمئات القصائد التى صنفها النقاد على أنها أعمال أتت بروح العصر ولكنها محملة بأصالة التراث البالغ الثراء ,
وتجددت الأغراض التى عالجها الشعراء بنفس الأسلوب الذى جدد به العباسيون وغيرهم أغراض الشعر لتناسب قضاياهم المعاصرة , فكتب الباردوى فى شعر الحماسة معبرا عن تجربته النضالية فى الثورة العرابية وكان منها
نصحت قومى .. فقلت الحرب مفجعة ×× وكان أولى بقومى لو طاعونى
تأتى الرياح على ما ليس فى خلد ×× ويخطئ الظن فى بعض الأحايين
وكتب شوقي فى سائر الأغراض السياسية والعاطفية والإجتماعية فوصف مخترعات العصر الحديث كالطائرة وتصدى بالوصف لتجربة المنفي فى الأندلس وكتب فى مجال شعر العاطفة والغزل أبدع تجاربه الشعرية , ودخل حافظ إبراهيم مجددا عظيما داعيا ولافتا الجماهير لعبقرية اللغة العربية بقصيدته الشهيرة عنها
وظهرت ألوان الشعر السياسي
لمظفر النواب وهشام الرفاعى وأحمد مطر وكمال عبد الحليم , وكل تلك الأعمال كانت فى إطار الأصالة متقعدة بالقواعد الفارقة بين مختلف الفنون الأدبية ومطورة فى أساليب التناول وروح العصر بتطوير متقدم لا هادم فرأينا قصيدة الرفاعى الماتعة {
رسالة فى ليلة التنفيذ } يقول فى بدايتها
أبــتـاه ماذا قد يخـــط بنـــانى ×× والحبل والجلاد منتظران
هذا الكتاب إليك من زنزانة ×× مقرورة صخرية الجدران
ولو تأملنا الألفاظ والتراكيب والتصوير بين مختلف العصور السابقة لوجدناها تتفق فى التزامها بالقواعد وكذلك فى التعبير الحقيقي عن عصرها وقضاياه
هذه هى الأصالة وهذا هو التطوير ,
أما ما يدعون إليه من هدم الفوارق فهو محض تدمير
وكما يدعون فى الآداب لهدم ضوابط الشعر وفوارقه عن النثر أو بين سائر الأعمال الأدبية يحملون نفس التوجه من الناحية الفكرية , فقالوا بوجوب الخروج من التخلف الماضي وترك ما يسمى بالدين والعقيدة وأن الناس جميعا تدين بالإنسانية وهى المذهب الجديد الذى لا يعرف خلافا ولا اختلافا !
وتتسم جميع تلك النداءات أنها من ظاهرها براقة ومن داخلها .. الله المستعان
وبالطبع استمع لهذه النداءات جمهور كبير من المدعين والذين رأوها فى مصلحتهم لأنهم فى ظل القواعد التى تفرق بين الموهوب والمدعى لم يجدوا منفذا إلى وصف شاعر أو روائي أو أديب
فجاءتهم نداءات الحداثة لتنقذهم بتلك النداءات التى تهدم القواعد وتفتح الباب واسعا أمام كل أحد ليصبح أديبا حتى وهو فى عرف الأدب الحقيقي لا يصلح قارئا فضلا على عدم صلاحيته للإبداع
يتبع ..