الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضاً وأصل هذا كله الحسد ثم نظرت إلى قول الله عز وجل " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " فتركت الجسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت عداوة الخلق عني.
السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضاً فرجعت إلى قول الله عز وجل " إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً " فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي فتركت عداوة الخلق غيره.
ا لسابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له ثم نظرت إلى قوله تعالى " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده.
الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق - هذا على ضيعته وهذا على صحة بدنه - وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله فرجعت إلى قوله تعالى " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه الثمان مسائل فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة فهذا الفن من العلم لا يهتم بإدراكه والتفطن له إلا علماء الآخرة فأما علماء الدنيا فيشتغلو بما يتسير به اكتساب المال والجاه ويهملون أمثال هذه العلوم التي بعث الله بها الأنبياء كلهم عليهم السلام وقال الضحاك بن مزاحم: أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم ما يتعلمون إلا الكلام.
ومنها أن يكون غير مائل إلى الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك ويتشبه فيه بالسلف رحمهم الله تعالى ويميل إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك وكلما زاد إلى طرف القلة ميله ازداد من الله قربه وارتفع في علماء الآخرة حزبه.
ويشهد لذلك ما حكى عن أبي عبد الله الخواص - وكان من أصحاب حاتم الأصم - قال: دخلت مع حاتم إلى الري ومعنا ثلثمائة وعشرون رجلاً يريد الحج وعليهم الزرمانقات وليس معهم جراب ولا طعام فدخلنا على رجل من التجار متقشف يحب المساكين فأضافنا تلك الليلة فلما كان من الغد قال لحاتم: ألك حاجة فإني أريد أن أعود فقيهاً لنا هو عليل قال حاتم عيادة المريض فيها فضل والنظر إلى الفقيه عبادة وأنا أيضاً أجيء معك.
وكان العليل محمد بن مقاتل - قاضي الري - فلما جئنا إلى الباب فإذا قصر مشرف حسن فبقي حاتم متفكراً يقول: باب علام على هذه الحالة ثم أذن لهم فدخلوا فإذا دار حسناء فوراه واسعة نزهة وإذا بزة وستور فبقي حاتم متفكراً ثم دخلوا إلى المجلس الذي هو فيه وإذا بفرش وطيئة وهو راقد عليها وعند رأسه غلام وبيده مذبة فقعد الزائر عند رأسه وسأل عن حاله وحاتم قائم فأومأ إليه ابن مقاتل أن اجلس فقال لا أجلس فقال لعل لك حاجة فقال: نعم قال: وما هي قال: مسئلة أسألك عنها قال: سل قال: قم فاستو جالساً حتى أسألك.
فاستوى جالساً قال حاتم: علمك هذا من أين أخذته فقال: من الثقات حدثوني به قال: عمن قال: عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن قال: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمن قال: عن جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل.
قال حاتم ففيما أداه جبرائيل عليه السلام عن الله عز وجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأداه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وأصحابه إلى الثقات إليك هل سمعت فيه من كان في داره إشراف وكانت سعتها أكثر كان له عند الله عز وجل المنزلة أكبر: قال: لا.
قال: فكيف سمعت قال: سمعت أنه من زهد في الدنيا ورغب في الآخرة وأحب المساكين وقدم لآخرته كانت له عند الله المنزلة قال له حاتم: فأنت بمن اقتديت أبالنبيصلى الله عليه وسلم وأضحابه رضي الله عنهم والصالحين رحمهم الله أم بفرعون ونمروذ أول من بنى بالجص والآجر يا علماء السوء مثلكم يراه الجاهل المتكالب على الدنيا الراغب فيها فيقول: العالم على هذه الحالة: أفلا أكون أنا شراً منه وخرج من عنده فازداد ابن مقاتل عرضاً وبلغ أهل الري ما جرى بينه وبين ابن مقاتل فقالوا له: إن الطنافسي بقزوين أكثر توسعاً منه.
فسار حاتم متعمداً فدخل عليه فقال.
رحمك الله أنا رجل أعجمي أحب أن تعلمني مبتدأ ديني ومفتاح صلاتي كيف أتوضأ للصلاة قال: نعم وكرامة يا غلام هات إناء فيه ماء.
فأتى به فقعد الطنافسي فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال: هكذا فتوضأ.
فقال حاتم: مكانك حتى أتوضأ بين يديك فيكون أوكد لما أريد فقام الطنافسي وقعد حاتم فتوضأ ثم غسل ذراعيه أربعاً أربعاً فقال الطنافسي: يا هذا أسرفت.
قال له حاتم: فبماذا قال غسلت ذراعيك أربعاً.
فقال حاتم: يا سبحان الله العظيم أنا في كف من ماء أسرفت وأنت في جميع هذا كله لم تسرف فعلم الطنافسي أنه قصد ذلك دون التعلم فدخل منزله فلم يخرج إلى الناس أربعين يوماً فلما دخل حاتم بغداد اجتمع إليه أهل بغداد فقالوا: يا أبا عبد الرحمن أنت رجل ولكن أعجمي وليس يكلمك أحد إلا قطعته قال: معي ثلاث خصال أظهر بهن على خصمي أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ وأحفظ نفسي أن لا أجهل عليه.
فبلغ ذلك الإمام أحمد بن حنبل فقال: سبحان الله ما أعقله قوموا بنا إليه.
فلما دخلوا عليه قال له: يا أبا عبد الرحمن ما السلامة من الدنيا قال: يا أبا عبد الله لا تسلم من الدنيا حتى يكون معك أربع خصال: تغفر للقوم لاجهلهم وتمنع جهلك منهم وتبذل لهم شيئك وتكون من شيئهم آيساً فإذا كنت هكذا سلمت ثم سار إلى المدينة فاستقبله أهل المدينة فقال: يا قوم أية مدينة هذه قالوا: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأين قصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصلي فيه قالوا: ما كان له قصر إنما كان له بيت لاطىء بالأرض قال: فأين قصور أصحابه رضي الله عنهم قالوا: ما كان لهم قصور إنما كان لهم بيوت لاطئة بالأرض قال حاتم: يا قوم فهذه مدينة فرعون فأخذوه وذهبوا به إلى السلطان وقالوا.
هذا العجمي يقول هذه مدينة فرعون قال الوالي: ولم ذلك قال حاتم: لا تعجل علي أنا رجل أعجمي غريب دخلت البلد فقلت مدينة من هذه فقالوا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت فأين قصر.
وقص القصة ثم قال: وقد قال الله تعالى " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " فأنتم بمن تأسيتم أبرسول الله صلى الله عليه وسلم أم بفرعون أول من بنى بالجص والآجر فخلوا عنه وتركوه.
فهذه حكاية حاتم الأصم رحمه الله تعالى.
وسيأتي من سيرة السلف في البذاذة وترك التجمل ما يشهد لذلك في مواضعه.
والتحقيق فيه أن التزين بالمباح ليس بحرام ولكن الخوض فيه يوجب الأنس به حتى يشق تركه واستدامة الزينة لا تمكن إلا بمباشرة أسباب في الغالب يلزم من مراعاتها ارتكاب المعاصي من المداهنة ومراعاة الخلق ومراءاتهم وأمور أخر هي محظورة والحزم اجتناب ذلك لأن من خاض في الدنيا لا يسلم منها ألبتة ولو كانت السلامة مبذولة مع الخوض فيها لكان صلى الله عليه وسلم لا يبالغ في ترك الدنيا حتى نزع القميص المطرز بالعلم ونزع حاتم الذهب في أثناء الخطبة إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه.
وقد حكي أن يحيى بن زيد النوفلي كتب إلى مالك ابن أنس رضي الله عنهما " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على رسوله محمد في الأولين والآخرين من يحيى ابن يزيد بن عبد الملك إلى مالك بن أنس أما بعد فقد بلغني أنك تليس الدقاق وتأكل الرقاق وتجلس على الوطىء وتجعل على بابك حاجباً وقد جلست مجلس العلم وقد ضربت إليك المطى وارتحل إليك الناس واتخذوك إماماً ورضوا بقولك فاتق الله تعالى يا مالك وعليك بالتواضع.
كتبت إليك بالنصيحة مني كتاباً ما اطلع عليه غير الله سبحانه وتعالى والسلام " فكتب إليه مالك " بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
من مالك ابن أنس إلى يحيى بن يزيد سلام الله عليك أما بعد: فقد وصل إلي كتابك فوقع مني موقع النصيحة والشفقة والأدب أمتعك الله بالتقوى وجزاك بالنصيحة خيراً وأسأل الله تعالى التوفيق ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فأما ما ذكرت لي أني آكل الرقاق وألبس الدقاق وأحتجب وأجلس على الواطىء فنحن نفعل ذلك ونستغفر الله تعالى فقد قال الله تعالى " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق " وإني لأعلم أن ترك ذلك خير من الدخول فيه.
ولا تدعنا من كتابك فلسنا ندعك من كتابنا والسلام " فانظر إلى إنصاف مالك إذ اعترف أن ترك ذلك خير من الدخول فيه وأفتى أنه مباح وقد صدق فيهما جميعاً ومثل مالك في منصبه إذا سمحت نفسه بالإنصاف والاعتراف في مثل هذه النصيحة فتقوى أيضاً نفسه على الوقوف على حدود المباح حتى لا يحمله ذلك على المراءاة والمداهنة والتجاوز إلى المكروهات وأما غيره فلا يقدر عليه فالتعريج على التنعم بالمباح خطر عظيم وهو بعيد من الخوف والخشية وخاصية علماء الله تعالى الخشية وخاصية الخشية التباعد من مظان الخطر.
ومنها أن يكون مستقصياً على السلاطين فلا يدخل عليهم ألبتة ما دام يجد إلى الفرار عنهم سبيلاً بل ينبغي أن يحترز عن مخالطتهم وإن جاءوا إليه فإن الدنيا حلوة خضرة وزمامها بأيدي السلاطين.
والمخالط لا يخلو عن تكلف في طيب مرضاتهم واستمالة قلوبهم مع أنهم ظلمة.
ويجب على كل متدين الإنكار عليهم وتضييق صدرهم بإظهار ظلمهم وتقبيح فعلهم فالداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تجملهم فيزدري نعمة الله عليه أو يسكت عن الإنكار عليهم فيكون مداهناً لهم أو يتكلف في كلامه كلاماً لمرضاتهم وتحسين حالهم وذلك هو البهت الصريح أو أن يطمع في أن ينال من دنياهم وذلك هو السحت وسيأتي في كتاب الحلال والحرام ما يجوز أن يؤخذ من أموال السلاطين وما لا يجوز من الإدرار والجوائز وغيرها.
وعلى الجملة فمخالطتهم مفتاح للشرور وعلماء الآخرة طريقهم الاحتياط وقال صلى الله عليه وسلم " بدا جفا - يعني من سكن البادية جفا - ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن " وقال صلى الله عليه وسلم " سيكون عليكم أمراء تعرفون منهم وتنكرون فمن أنكر فقد برىء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع أبعده الله تعالى.
قيل: أفلا نقاتلهم قال صلى الله عليه وسلم: لا ما صلوا "
وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك.
وقال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن قيل وما هي قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول فيه ما ليس فيه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " العلماء أمناء الرسل على عباد الله تعالى ما لم يخالطوا السلاطين فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم " روا أنس.
وقيل للأعمش: ولقد أحييت العلم لكثرة من يأخذه عنك فقال: لا تعجلوا ثلث! يموتون قبل الإدراك وثلث يلزمون أبواب السلاطين فهم شر الخلق والثلث الباقي لا يفلح منه إلا القليل.
ولذلك قال سعيد بن المسيب رحمه الله: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحترزوا منه فإنه لص
وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملاً.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " شرار العلماء الذين يأتون الأمراء وخيار الأمراء الذين يأتون العلماء "
وقال مكحول الدمشقي رحمه الله من تعلم القرآن وتفقه في الدين ثم صحب السلطان تملقاً إليه وطمعاً فيما لديه خاض في بحر من نار جهنم بعدد خطاه.
***
المصدر : احياء علوم الدين للغزالي رحمه الله
الجزء الأول ( 4 من 100 )
_________________
لمن يرغب بقراءة الكتاب الشيق كاملا فهو ثروة مفيدة في هذا الشأن والموضوع وهو قديم جديد في الواقع لانه يناقش صفات علماء السوء التي تنطبق على من عاصرهم ونعاصرهم نحن في أيامنا هذه :
إحياء علوم الدين
حجة الإسلام أبو حامد محمد الغزالي الطوسي الشافعي
منقول