خليل مردم بك
كان هواه مع كل ما هو وطني وقوميبالنشيد العربي السوري "حماة الديار" الذي ردده جمهور مركز ثقافي أبو رمانة مؤخراً بدأ الباحث عيسى فتوح محاضرته عن كاتب كلمات هذا النشيد الشاعر الكبير خليل مردم بِك وذلك ضمن سلسلة "أعلام خالدون" التي اعتاد أن يعقدها المركز شهرياً، مشيراً إلى أن الشاعر كتب هذا النشيد عام 1931 ليلحنه فيما بعد اللبنانيان محمد وأحمد فليفل، وقد اختير ليكون النشيد الوطني بعد أن أعلنت الدولة عن مسابقة لاختيار أفضل نشيد وطني ليكون النشيد الرسمي للدولة، وبيّن فتوح أن المعلومات ضئيلة عن هذا النشيد باستثناء أن الجميع يؤكد أنه متقن للغاية من حيث الصياغة واللحن، وقد لاقى انتشاراً واسعاً وظل النشيد الوطني للدولة منذ عام 1931 وحتى الآن
بين السياسة والأدب
وللتعريف بهذا الشاعر الكبير بيّن فتوح أنه ولِد في دمشق ودرس الحديث على يد مجموعة من علماء دمشق فأفاد منهم وأخذ عنهم أساليب القدماء وطرقهم ليقرض الشعر قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره، وحين جلا الأتراك عن دمشق عام 1918 وقامت الحكومة العربية عيِّن مميزاً لديوان الرسائل العامة، ولما أعلِن استقلال سورية وتألفت أول وزارة سورية سمّي معاوناً لمدير ديوان الوزراء و بعد دخول الجيش الفرنسي دمشق ُصرِفَ من العمل في الحكومة ليؤسس عام 1921 مع مجموعة من الشخصيات كـ ماري عجمي-فخري البارودي-حبيب كحالة، وغيرهم جمعية الرابطة الأدبية التي انتُخِب رئيساً لها، وكانت غايتها –كما أشار فتوح- توحيد قوى الأدباء المتفرقة وتنظيم صفوفهم، وقد أنشأت الرابطة "مجلة الرابطة الأدبية" التي توقفت بعد العدد التاسع بسبب تضييق المستعمر الفرنسي الخناق على الرابطة والمجلة معاً.
وفي العام 1925 انتُخِب عضواً في المجمع العلمي العربي بدمشق، وفي هذا العام اندلعت نيران الثورة السورية فغذاها بقصائده الوطنية اللاهبة التي تدعو إلى إثارة الشعب وردّ الطغيان فطردته السلطات الفرنسية ففرَّ إلى لبنان فالاسكندرية عام 1926 ليغادرها بعد أربعة أشهر إلى لندن لدراسة اللغة الإنكليزية وآدابها ليحصل في نهايتها على شهادة عليا تعادل الدكتوراه، وقد رأى فتوح أن اطّلاع مردم بِك على الأدب الإنكليزي والحياة في بريطانيا كان له أثر محدود في شعره، وظهر ذلك في قصائد محدودة جداً ليشير إلى أنه عاد إلى دمشق عام 1929 بعد أن أمضّه فراقها فحيّاها مباشرة بقصيدة "سلام على دمشق" التي قال فيها :
دمشق، ولستُ بالباغي بديلا
وعن عهد الأحبة لن أحولا
وحين استقر به المقام فيها عيّن مساعداً لرئيس الأدب العربي في الكلية العلمية الوطنية، وظلَّ فيها تسع سنوات ألّف خلالها سلسلة "أئمة الأدب العربي" التي نشر منها خمسة أجزاء، ليصدِر في العام 1933 مع مجموعة من الدكاترة مجلة "الثقافة" التي عاشت سنة واحدة فقط، وفي العام 1941 انتُخِب أمين سرٍّ عاماً للمجمع العلمي العربي، فراح يعمل مع رئيس المجمع محمد كرد علي ليُعيّن عام 1942 وزيراً للمعارف، وبعد أن بلغت شهرته الآفاق انتخبه مجمع اللغة العربية في مصر عضواً فيه عام 1948 وكذلك المجمع العلمي العراقي ومدرسة الدراسات الشرقية في لندن ودائرة المعارف الإسلامية للمستشرقين ومجمع البحر المتوسط في باليرمو في إيطاليا والمجمع العلمي السوفييتي عام 1958 ليعين عام 1952 وزيراً مفوّضاً في السفارة في بغداد وقد تحولت خلال وجوده فيها إلى منتدى أدبي لرجال الفكر والسياسة والأدب، والتي لم يغادرها إلا بعد أن استدعي إلى دمشق ليتسلم حقيبتي وزارة الخارجية ووزارة المعارف ليُنتَخب في الوقت نفسه رئيساً للمجمع العلمي العربي خلفاً لكرد علي الذي توفي في العام 1953 فبلغ بذلك أعلى ما يطمح إليه عَالِم وأديب.
23 كتاباً بين مؤلَّف ومحقَّق
على الرغم من انصراف مردم بِك إلى الأعمال الإدارية والدبلوماسية في وزارتَي المعارف والخارجية والمجمع العلمي العربي إلا أنه ترك لنا 23 كتاباً بين مؤلَّف ومحقَّق، لم يرَ النور منها في حياته إلا كتاب "شعراء الشام في القرن الثالث الهجري" وسلسلة "أئمة الأدب" ودواوين ابن عنين وابن الجهم وابن حيلوس وابن الخياط التي قام بتحقيقها، أما الكتب الأخرى فقد بقيت مخطوطة -كما أشار فتوح- إلى أن قام نجله بإصدارها تباعاً بعد وفاته مثل "أعيان القرن الثالث عشر-شعراء الأعراب-دمشق والقدس في العشرينيات-الشعراء الشاميون" وغيرها.
تأثر وأُعجِب بالبحتري
كان من الطبيعي برأي فتوح أن شاعراً كخليل مردم بك أن يستمد من الأدب العربي القديم نثره وشعره وعناصر طريقته التعبيرية وهو الذي لم يتأثّر بأية ثقافة أو فكر أجنبيين، من هنا أشار إلى أنه تأثر وأُعجِب بالبحتري إلى حد بعيد والذي كان في نظره مقياساً للجودة، فسلك سبيله وتأثر خطاه، ولاسيما في الوصف، وانطلاقاً من ذلك أكد فتوح أنه ليس هناك شاعر وصف غوطة دمشق كما وصفها مردم بِك، ومن العجيب برأيه أن الريف البريطاني الساحر لم يحرّك شاعريته ، فخلا ديوانه من أية قصيدة تصور لندن وضواحيها الجميلة، ولأن هوى مردم بِك كان مع كل ما هو وطني وقومي، صبَّ جام غضبه ونقمته على المستعمرين الفرنسيين، فاهتم بالنواحي القومية والإنسانية في شعره وكان يرى أن على الشاعر مسؤولية إنهاض قومه وإيقاظ شعبه من غفلته :
كما دعا إلى النضال في قصيدته "الحلف والجار" أما الثورة السورية فقد وصفها في قصيدته "يوم ميسلون" :
فما من بقعة بدمشق إلا
تمثل ميسلون وما دهاها
كما دعا إلى الوحدة العربية قائلاً :
وكيف ترجي وحدة عربية
ومن دون راشيا حدود وبيرق
أما شعره الاجتماعي فلا يقل أهمية –برأي فتوح- عن شعره الوطني والقومي وهو الذي دعا إلى إصلاح الفساد الاجتماعي، ولأن الشعر الهزلي مرتبط بالهجاء وهو فن شعري لم يطرقه خليل مردم بِك لأنه كان كثير الحشمة، أبيّ النفس، رفيع الأخلاق، باستثناء قصيدة واحدة نظمها على طريقة ابن الرومي في الإضحاك، وفي غزله أوضح فتوح أنه كان تقليدياً مطبوعاً بطابع الأناقة المهذبة والبعد عن معاني التبذّل والاستهتار.
نثره .. لم يظهر إلا في السبعينيات
أكد فتوح أن نثر مردم بِك بقي خارج نطاق الدراسات التي تحدثت عن شعره لأن ديوانه طُبِع لأول مرة عام 1960 أي بعد وفاته بسنة وصار في متناول أيدي الدارسين، أما باقي كتبه النثرية فلم تظهر إلا في السبعينيات.. من هنا توقف عند بعضها فتحدث عن "شعراء الأعراب" الذي صدر في عام 1978 وفيه تناول طائفة من شعراء الأعراب اعترافاً بفضلهم، وكذلك عن "الشعراء الشاميين" الذي ضمَّ سبعة من شعراء الشام الذين عاشوا في عصور مختلفة، وكانت تجمعهم مدرسة شعرية واحدة هي المدرسة الشامية التي تقوم على تهذيب الشعر وإمعان الفكر وإعمال الروية، وأكد فتوح أن معظم الشعراء الذين اختارهم لم يسبق أن درسهم أحد من قبل دراسة أدبية بالمعنى الصحيح.. من هنا عدّ هذا الكتاب من أفضل الدراسات النقدية المحققة وختم فتوح كلامه عن نثر مردم بِك بالحديث عن كتابه "دمشق والقدس في العشرينيات"، هذا الكتاب الذي ضمَّ مجموعة من المقالات التي كتبها مردم بِك واصفاً فيها غطرسة المستعمرين، خاصة وأنه سافر إلى فلسطين بالقطار عام 1923 ورأى بأمِّ عينه خطر الصهيونية الداهم .
أمينة عباس
جريدة البعث