زمن التراجع الأمريكي
نشر على الجزيرة نت
عبد الستار قاسم
20/كانون أول/2013
فرحت أمريكا كثيرا بانهيار الاتحاد السوفييتي مع بداية العقد العاشر من القرن العشرين، ولم تخف بهجتها في الاندفاع ببرنامج عولمة هادف إلى التأثير فكريا وثقافيا في الحضارات العالمية والدول على اختلاف أشكالها. رأت الولايات المتحدة أن الفرصة قد باتت مواتية لها، والطريق ممهدة أمامها لكي تستأثر بالوضع العالمي، وتجعل من فكرها الرأسمالي والسياسي وثقافتها السياسية والاجتماعية محورا أساسيا يطغى على العالم، ويزحف على الثقافات الأخرى. وقد حققت نجاحا كبيرا في عدد من المواقع على المستوى العالمي، وأخذت شعوب كثيرة بخاصة في الوطن العربي تقلد الأمريكي في أشياء مظهرية متعددة مثل الأطعمة والألبسة، وبدأت الحضارة الأمريكية تطغى تدريجيا على حضارات عدد من الأمم.
لم يكن من المتوقع أن تقدر الولايات المتحدة على أمركة العالم لأن التاريخ في حالة تغير مستمر، ولا يبقى واقع على ما هو عليه، ولا يمكن لقوي أن يبقى ممسكا بسيادة القوة، ولا للضعيف أن يبقى تحت العصا. يشهد العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين تحولات في السياسة الخارجية الأمريكية تنم عن حلقة أو منحنى من التراجعات القادمة في السياسة الخارجية الأمريكية. أي أن أمريكا التي رأت في نفسها سيدة العالم في القرن الماضي، لن تبقى كذلك، وسيادتها ستشهد تراجعا إبان هذا العقد بحيث يغيب احتكارها للقوة إلى حد ما لصالح قوى أخرى تتبلور في العالم.
أخطاء أمريكية
ارتكبت أمريكا عددا من الأخطاء الجوهرية في سعيها لعولمة العالم على طريقتها الخاصة أذكر منها:
1- ركزت أمريكا تفكيرها أساسا على عضلاتها في محاولاتها لتكون الآمر الناهي على المستوى العالمي، ولم تفكر بعقلها لتميز بين الخبيث والطيب. لقد فُتنت بقوتها فظنت أن القوة دائما هي المفتاح للسيطرة والهيمنة والتطويع. ولهذا اندفعت بقوة إلى حروب جديدة وخاضت حربين ضد العراق وأفغانستان.ربما رأت أمريكا انها قادرة على إقناع العالم بقدراتها العسكرية من خلال غزوها العراق على اعتبار أن العراق كانت دولة قوية وذات جيش كبير، لكنها لم تهنأ بسيطرتها على العراق، وبقيت المقاومة مشتعلة حتى أخذ يشعر الجيش الأمريكي بالحرج أمام متفرجين كثر يتمنون هزيمة أمريكا في العراق إنقاذا لأنفسهم مما قد سيأتي من الهيمنة الأمريكية.
2- لم تحاول أمريكا إقامة صداقات مع شعوب الأرض، وإنما عملت على الإخضاع والتأثير على ثقافاتها لصالح الثقافة الأمريكية التي لا تتمتع بعمق تارخي. ثبت أمام العديد من الشعوب أن الولايات المتحدة ليست دولة صديقة، أو مؤمنة بالصداقة، وإنما دولة استعمارية تعمل على إخضاع الشعوب وليس احترامها. وواضح من خلال استطلاعات الرأي على الساحة الدولية أن أمريكا لا تحظى بمحبة الشعوب، وبدل أن تقيم العدالة ذهبت أمريكا إلى أرجاء العالم تبحث عن الكراهية.
3- لدى أمريكا مشكلة في أنها ترى في المال أداة أساسية لتطويع الآخرين، وطالما استعملت المال لشراء ذمم الحكام، واستقطاب تأييد الشعوب. كل الشعوب تقدر المساعدات التي يمكن أن يتم تقديمها من هذه الدولة أو تلك، لكنها تنكفئ عندما ترى أن هذه المساعدات تنطوي على أهداف سياسية تصب لصالح الدولة التي تقدم المساعدات. لم تحسب الولايات المتحدة ردود الفعل السلبية تجاه مساعداتها.
4- ظن عدد من المفكرين الأمريكيين أن سيادة أمريكا على العالم هي نهاية التاريخ. ظن الفيلسوف الألماني هيجل أن هناك نهاية للتاريخ، وكذلك فعل كارل ماركس، ومجرى التاريخ لم يؤيد أحدا منهما. رأى فوكوياما مثلا أن التاريخ سينتهي عند الرأسمالية الليبرالية الحديثة، وكذلك فعل أمريكيون آخرون، وعكست آراؤهم وسائل الإعلام التي لم تضع أي كوابح على مثل هذا الطرح. التاريخ لا يتوقف ولن يتوقف، وحركة التاريخ ستبقى مستمرة ما دامت هناك حركة حياة.
5- تمادت الولايات المتحدة في توسيع آفاق الرفاه لشعبها، ووجدت في النهاية ما لا يرضيها، ولا يدعم مكانتها على المستوى العالمي. لقد وقعت في أزمة مالية كبيرة، وما زالت تعاني منها حتى الآن ماليا واقتصاديا.
ظهور قوى منافسة ومؤثرة
التاريخ لم يتوقف عند انهيار الاتحاد السوفييتي، وما هي إلا عدة سنوات حتى بدأت تظهر قوى جديدة على الساحة الدولية، منها من يتحدى الإدارة الأمريكية، ومنها من أخذ يفرض نفسه على الساحة الدولية. من هذه القوى:
أ- ظهرت الصين كقوة اقتصادية صاعدة بتسارع قوي، وهي مصنفة الآن كثاني اقوى اقتصاد على المستوى العالمي. مع هذا النهوض الاقتصادي الذي قد يحول الصين إلى الدولة الأقوى اقتصاديا، توسعت نشاطات الصين على المستوى العالمي بخاصة في أفريقيا، وتصاعدت قدراتها العسكرية والتقنية. تقيم الصين الآن علاقات جيدة مع العديد من دول العالم، وعلى أسس أكثر ذكاء من أسس الأمريكيين. يذهب الصينيون إلى دول العالم طالبين للصداقة لا فارضين للإرادة.
ب- بدأت روسيا بتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ومواردها المالية تحسنت كثيرا عما كانت عليه الأمور عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، ووضعت استراتيجية شاملة للتأثير في الأسواق العالمية الخاصة بالغاز والنفط، وأقامت شبكة من العلاقات الاقتصادية مع دول أواسط آسيا، وطورت قدراتها التسليحية بخاصة في المجال النووي، وأصبحت الآن مهيبة الجانب. وبعد أن كانت تتجنب روسيا المواجهات الديبلومساية مع الولايات المتحدة، أخذت تسترخي وتستعمل حق النقض في مجلس الأمن.
ت- هناك قوى اقتصادية كبيرة تتنامى، وسيكون لها تأثير كبير على الساحة الدولية، وعلى رأسها الهند والبرازيل، واللتين تشكلان مع روسيا والصين وجنوب أفريقيا مجموعة البريكس التي يمكن أن يكون لها مستقبل اقتصادي واعد. في الوقت الذي تغرق فيه أمريكا بالديون والأزمات الاقتصادية، تظهر دول أخرى تحقق نموا اقتصاديا كبيرا ويتخطى معدلات النمو في الدول الغربية.
ث- تشكل إيران قوة إقليمية كبيرة، ومن المتوقع أن تكون قادرة على قيادة العالم الإسلامي خلال السنوات العشرة القادمة. قفزت إيران خطوات واسعة في المجالين العلمي والتقني، وطورت قدرات دفاعية متنوعة تجعل الدول الغربية مترددة في الاعتداء عليها أو تحديها بصورة صلفة. وبعد أن كانت المنطقة العربية الإسلامية مسرحا لأمريكا وحليفتها إسرائيل، استطاعت إيران أن تكسر هذا الأمر، وتجعل من المنطقة منطقة منافسة وتحدي.
سوريا والبرنامج النووي الإيراني
أصيبت الولايات المتحدة بنكستين كبيرتين في أفغانستان والعراق، وأثرا على وضعها الداخلي والخارجي. على المستوى الداخلي، يبدو الشعب الأمريكي مثقلا بالخسران العسكري وبالنفقات المالية الهائلة التي ترتبت على الحربين. والأمريكي بات يتساءل عن جدوى الحربين وعن جدوى التضحية بأمريكيين من أجل أهداف غير واضحة المعالم. أصيب الأمريكي بدمه وماله، وتقلصت بذلك رغبته في خوض مغامرات جديدة قد لا تكون مجدية. أما على المستوى الخارجي، فقد أدت حروب أمريكا إلى توسيع رقعة الفئات المسلحة التي تقاتلها وتقاتل الدول الغربية، وأن الإرهاب الذي قالت إنها تحاربه يزداد قوة وانتشارا. هذا فضلا عن أن مكانتها العالمية كقوة عسكرية تفوق التحدي قد تقلصت، وأصبحت لدى الدول الأخرى شكوك حول الاعتماد على القوة الأمريكية لحسم صراعات عالمية أو إقليمية.
برز الوهن الأمريكي في قضيتي سوريا وإيران. على المستوى السوري، وقفت أمريكا عاجزة حائرة وغير قادرة على اتخاذ قرارات. صحيح ان أمريكا لم تجد بديلا لنظام الأسد، لكنها أيضا عجزت عن أن تكون منافسا حادا لدول أخرى تدعم النظام السوري. واجهت أمريكا النقض الصيني والروسي في مجلس الأمن، وبقيت الدول الغربية مشلولة وغير قادرة على العمل وفق رغبات حلفائها العرب، وجاءت خيبتها كبيرة عندما قررت أمريكا حشد أساطيلها قبالة الساحل السوري، ومن ثم سحبها والكف عن التهديد.
بالتأكيد قامت أمريكا بالكثير من الحسابات حول المسألة السورية، وربما لو لم يكن هناك إيران وحزب الله لما ترددت في ضرب سوريا عسكريا. كان من الممكن أن تغامر أمريكا بحرب تشتعل في المنطقة ككل، وفي هذا ما ينبئ بتورطها في حرب قد لا تكون رابحة، وتنعكس سلبا على الداخل الأمريكي. ولهذا هرب الرئيس الأمريكي من مسؤوليته في اتخاذ القرار ليطلب معونة الكونغرس وليتغطى به في حال الفشل. ولم تخرج أمريكا من مأزقها إلا بمنحة روسية. هذه روسيا التي ظنت أمريكا أنها ستطوعها قد قدمت حبل الخلاص للرئيس الأمريكي عندما طلبت مقايضة الكيماوي السوري بالعزوف عن الضربة العسكرية. تلقفت أمريكا المبادرة بسرعة، وأوقفت كل إجراءاتها باتجاه ضربة عسكرية لسوريا.
أما بخصوص إيران فقد قبلت أمريكا ومعها الشركاء الغربيون ما كانت قد رفضته عبر السنين. كانت تصر أمريكا على تفكيك المنشآت النووية الإيرانية، وعلى وقف تخصيب اليورانيوم، وعدم زيادة أجهزة الطرد المركزي، لكنها في النهاية تراجعت عن مطالبها واكتفت بسقف محدود لتخصيب اليورانيوم. صحيح أن إيران لم تجن الكثير في مجال تخفيف العقوبات، لكنها كسبت كثيرا في مجال الاستمرار في العمل النووي. وواضح أن أمريكا لم تقدم على اتفاق مع إيران عبثا، وإنما لا بد أن حساباتها أشارت إلى أن الحل الديبلوماسي أفضل من الاستمرار في التهديد والوعيد. حتى أن أمريكا لم تعط الكثير من الاحترام لحلفائها العرب والإسرائيليين عندما قررت أن تسير في الحل السلمي مع إيران.
المستقبل
قد تزداد قوة أمريكا الاقتصادية والعلمية والتقنية والعسكرية عبر السنوات القادمة، لكن هذه الزيادة ستكون بتسارع أقل من تسارع الزيادة لدى دول أخرى مثل الصين وروسيا وإيران. أمريكا متطورة جدا علميا وتقنيا، وغالبا ما يكون تسارع اللاحقين أكبر من تسارع الواصلين. أي أن تسارع الصين في النمو الاقتصادي سيكون أكبر من تسارع أمريكا لأن الصين ما زالت تستغل الكثير من الموارد غير المستغلة، وكذلك الأمر بالنسبة للهند وروسيا والبرازيل، الخ.
المعنى أن قوة الدول المنافسة لأمريكا سترتفع بنسب أعلى من ارتفاع القوة الأمريكية، ما يعني أن موقع أمريكا على الساحة الدولية سيستمر بالتقلص. أمريكا لن تكون ضعيفة خلال هذا العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، لكن سطوتها على العالم ستتراجع رويدا رويدا، وستتبخر فكرة العولمة الأمريكية تدريجيا. ذلك الحلم الأمريكي بجعل العالم أمريكيا سيتبدد إلى حد كبير، وستظهر عدة أقطاب عالمية وإقليمية تأخذ مكانها في التأثير على السياسة الدولية. وهذا يعني أن مكانة إسرائيل وبعض الدول العربية التابعة لأمريكا ستتأثر سلبا.