مشاهد ادكار بين (بلد الوليد ومطار مدريد).
لا تجد نفس الشعور وأنت معلق في الجو؛ لا يشد ذاتك، ولا مكانك، ولا رَكوبك آخية مركوزة في الأرض، ولا حِمالة يمسكها عمود تمسكه الأرض، وتصير فجأة أقرب إلى ما تخاف وتحاذر من المخاطر المحدِقة بك، المشرَعة على بَغَتات حتفك في كل آن، فتحسب كل نَفَس جرى بأمنك آخر نفس من عمرك، لأن كل ما لديك مما تتحكم فيها ساعتها يصير بلا قيمة.
ليس لأن العقل والتوكل كعدمهما؛ كلا ..، ولكن لأن القدر محيط بكسب العبد إحاطة سور البلد بأسوار مساكن أهله.
بيد أن ذلك الفارق في الشعور ليس تحولا أو فارقا في مصيرك المسطور بين ما آل إليه حالك، وما كان سيكون لو لزمت مكانك من الأرض، ولكنه خوف فُطرتَ عليه، وتوجس أصيل العمل في جبلتك الأولى، لا يدفع موجبات المآلات، ولا يشفع سالبها.
سطرت هذه الكلمات لحظات معدودة قبل أن يظلم مسارنا في السماء، ويغمره رعد وبرق تخطف الأبصار، وأفرغ الأفئدة؛ مشرفا بالركاب على أعظم الأخطار؛ وليس بيننا وبين موعد هبوط الطائرة في مطار مدينة مدريد إلا دقائق، فأعلن فريق المتابعة أن الهبوط سيتأخر دقائق أخرى، لكن هذا المتاح المرجو لم يكن سوى (مهدئ وهمي)، ثم أعلنوا مرة أخرى أن الهبوط سيكون في مطار ( valladolid ) بمدينة قريبة بعيدة من مدينة مدريد؛ هي مدينة (valladolid - بلد الوليد)، ثم تقلنا حافلات من هناك إلى مطار مدريد.
فحُلت لهذا الطارئ المقدَّر مواعيد كانت مبرومة، وقطِّعت أسباب كانت موصولة، وتبدل حال كل منا غير الحال الأول على نحو ما فتئت حكمة الرب جل وعلا فيه مشهودة التجلي، حقيقة بكثير من الإبصار والتملي.
وبعد أكثر من خمس ساعات (ألقيت عصا التسيار) بمطار مدريد، وجرى بحمد الله تعالى ما جرى من سابغ فضل الله تعالى وعطفه، وغامر رفده ولطفه، فأتاني الإخوة الكرام الفضلاء - المشرفون على مركز الأمة الثقافي بـفيونلابرادا (fuenlabrada )إلى حيث صرت؛ مواصلين كبير عنايتهم المعهودة، وعظيم رعايتهم المشهودة جزاهم الله خيرا.
ولم أعدم بحمد الله تعالى الانتفاع وعجيب الاستمتاع ببعض ثمرات حكمة الله في تحويلي من قضاء إلى قضاء، وإحالته إياي بكتاب على كتاب أدعى للتفكر والتذكر، كأني بحاجة إلى قدر يستخرج كراهتي لقدر آخر يدافعه لأدرك أسرار القدرين.
وإلا فأنى لي أن أدرك بقلتي، وغاية إعوازي وحسور حيلتي أني -خلال رحلة الحافلة الواصلة لما توهمت من الانفصال- سأمر بـ (بلد الوليد)، وأحيي ذكرى وصال بوجودي الاعتباري، وانتمائي التاريخي الحضاري ...، ذكرى يتفطر لأثرها الأليم الفؤاد، ويتفصم الكيان، وتتمزع الأكباد .. ذكرى مفرَّقة شَذَر مَذَر بين فخر الفتح والانتساب، وقهر النزع والاستلاب ... وشؤون أخرى يأتي ذكرها إن شاء الله خلال مشاهد آتية أوشّي بها من جديد (بشرى الرفاق وسلوى الوفاق).