صفحات أخرى من كتابى: "من كُتَّاب الشيخ مرسى إلى جامعة أكسفورد- محطات على مسيرتى الروحية"
إبراهيم عوض
وفى الصِّبَا كنت أستذكر دروسى، حين أكون بالقرية، فى الحقول وعلى شطوط الأنهار غالبا أثناء النهار، وكانت الطبيعة حنونا علينا تَهَبُ قلوبنا كثيرا من السكينة والبهجة فتعوضنا عن الجهامة والقتامة التى عليها بيوت القرية وشوارعها. وإنى لأشعر الآن أن انطلاقى بين أحضان الطبيعة وشعورى بالفناء فيها حين أجوس خلال الحقول وعلى ضفاف الجداول قد عصمنى من التشوه النفسى. لقد كنت أحس بالطبيعة من حولى وكأنها أم رءوم. وكم قرأت بين أحضانها كتب النحو والصرف والبلاغة التى كنت أستعيرها فى إجازة الصيف من أبناء قريتى الأزهريين وأعكف عليها بين مجاليها الفاتنة أصارعها وتصارعنى كما هو الحال مثلا حين عكفت فى الصيف الذى سبق التحاقى بالمدرسة الأحمدية الثانوية على كتاب "شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك" وحدى دون مشرف أو موجه بعدما أعدت قراءة كتاب "قطر الندى" لابن هشام هو وكتاب الصرف، اللذين كنا قد درسناهما فى المرحلة الإعدادية بالأزهر. وكان كتاب ابن عقيل مطبوعا على ورق جرائد كابٍ، وخاليا تماما من علامات الترقيم والتشكيل. ومع هذا لم أَنْكِل عن أداء المهمة الصعبة، وهو ما نفعنى بعد ذلك بثلاثة أعوام حين التحقت بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة حيث درسنا ذلك الكتاب ذاته، فلم أجد أية مشكلة أو غرابة مثلا فى حفظ الصيغ الخاصة بجموع التكسير التى تزيد على الثلاثين.
وكنت فى البداية أتصور أن هذه الصيغ مبنية على أساس لا يخر منه الماء ومطردة اطرادا لا يعرف الخلل، إلى أن كنت فى أكسفورد بعد ذلك بأعوام طوال وجاءت سيرة تلك الجموع فى مناقشة بينى وبين د.مصطفى بدوى الأستاذ المشرف علىَّ، وهو متخصص فى الأدب الإنجليزى ولغته، فكان من رأيه أنها مجرد صيغ تقريبية. وأنا الآن أرى أن الأمر يقع فى منزلة بين المنزلتين. ومعروف أنه إذا كان هناك، كما هو الحال فى معظم الحالات، أكثر من صيغة جمع تكسيرى للمفردة الواحد فإن الذوق يتقدم لينهض بدوره عندئذ قابلا فى بعض الأحيان استعمال أية صيغة من تلك الصيغ المتعددة بالتساوى أو بالتفاضل، بينما فى بعض الأحيان الأخرى لا يشيع استعمال إحدى الصيغ رغم صحتها. أى أن على الذوق والاستعمال معوَّلا كبيرا، وليست القاعدة صاحبة الكلمة الحاسمة دائما.
وكنا، خلال موسم الاستعداد للامتحان فى تلك الأيام، نخفف التوتر الذى كان يَؤُودُنا بلعب الكرة الشراب فى مباريات تجرى عصر كل يوم فى فناء الوحدة المجمعة التى تقع فى نهاية القرية على الطريق الزراعى المؤدى إلى بسيون. وكان اللعب ممتعا غاية الإمتاع، ولم نكن نضع فى حسباننا أن من الممكن انكسار رِجْل أى لاعب من اللاعبين. ومن ستر الله علينا أن أيا منا لم ينكسر فى تلك المباريات، وإلا لكان معنى هذا عدم دخوله الامتحان وضياع السنة عليه.
وفى أول ليلة لى فى طنطا استعدادا لامتحان الشهادة الإعدادية بدا لى أن أدخل دار الخيالة، وكان الفلمان أجنبيين كما هو الحال معى آنذاك فى الغالب، إذ كنت أوثر مشاهدة الأفلام الأجنبية، وأظن أن السينما التى دخلتُها كانت سينما أوبرا الصيفية التى تقع فى نهاية شارع البحر على ناصية شارع القنطرة. ولكن ما إن اندمجت مع الفلم حتى ركبتنى الوساوس والمخاوف من الامتحان، إذ ثارت المعلومات كلها فجأة فى ذهنى واختلط الحابل منها بالنابل، وبدا لى مخى وكأن ليس فيه شىء يُعْتَدّ به أو يُعْتَمَد عليه، فامتلأتُ هَمًّا ورعبًا أفسد علىَّ المشاهدة، وخرجتُ فى منتصف العرض وأنا أكاد أختنق تحت ضغط الفزع والارتباك. وحاولتُ ليلتها أن أراجع المواد كلها، وهو بطبيعة الحال أمر مستحيل، ولم ينقذنى من الغم إلا النوم طبيب كل الأمراض المستعصية.
وكنت قد مررت قبلها بأيام قليلة، وأنا فى القرية، بتجربة مشابهة، إذ قابلت بين المغرب والعشاء، عند الجامع الكبير قريبا من دكان الشيخ يوسف نصر، الذى كان نوره يضىء المكان، زميلا لى كان راسبا فى الإعدادية فهو يعيدها معنا، وأخذْنا فى الحديث عن الامتحان، فشرع يَكُرّ علىَّ ما حفظه من كتاب الصرف كَرًّا، بينما أقف أنا أمامه ذاهلا لا أكاد أذكر مما قرأته فى هذه المادة شيئا رغم أنى كنت أفهم كل دروسها، وهو ما انتهى إلى أن شعرتُ بالفزع والهم. والغريب أن زميلى هذا رسب فى تلك السنة أيضا وترك التعليم واشتغل بعد ذلك فى الشرطة. وإنى لأشعر الآن بالحنين إليه رغم أننا لم نكن صديقين ولا متفقى المشارب، إلا أن حنينى إلى الماضى الجميل هو سِرّ هذا الشوق الجارف إلى رؤيته. كما كان يتمتع بخفة ظل، وكانت فيه تأتأة بسيطة محببة سماه أصدقاؤه بسببها: "تُهْتُه". وهذا إن كان لا يزال حيا، فقد ترك القرية منذ ذلك الحين إلى الإسكندرية، ومات أبوه، وبيع بيتهم فيما أذكر، ولم أعد أسمع عنه خبرا. وهكذا الحياة!
وقد قابلته مرة فى الإسكندرية أيام الجامعة، ثم لم أره بعد ذلك. وقد غضب فى ذلك اللقاء بناء على سوء فهم لكلمة قلتها، وحاولت بكل طاقتى أن أوضح له مقصدى منها، وكانت بعيدة عن أى سوء فهم، إلا أن فى النفس البشرية زوايا وخبايا لا يستطيع حتى صاحبها أن يتنبه لها أو يوقف تأثيرها عليه رغم عدم منطقيتها. كما كتبت قصة قصيرة فى أواسط سبعينات القرن المنصرم جعلته أحد أبطالها، وسميته باسمه الحقيقى ككل شخصياتها، وكانوا جميعا زملاء لى فى تلك الحقبة، وعنوانها: "بَلَنْطة". وهى تصور فعل الزمن بنا نحن البشر وما ينزله بأجسامنا وأرواحنا من تَحَيُّفٍ وتحويرٍ. وقد نُشِرَتْ فى منتصف سبعينات القرن الفائت بأحد أعداد مجلة "الثقافة"، التى كان يرأس تحريرها د. عبد العزيز الدسوقى. ترى هل ما فَتِئَ زميلى ذاك حيا؟ وإن كان فكيف يعيش؟ عِلْم ذلك عند الله!
وكنت فى ذلك الوقت، وقت امتحان الشهادة الإعدادية، قد اتفقتُ مع ذلك الزميل وآخرين على شاكلته أن نسكن معا أيام الامتحان، إلا أن طالبا من شارعنا أكبر منى كان ذاهبا فى نفس التوقيت لتأدية امتحان الثانوية الأزهرية حذرنى مما كنت أنتويه وأغرانى بالسكنى معه قائلا إن زملائى هؤلاء يمكن أن يتركونى نائما ويذهبوا للامتحان دون إيقاظى فيفسدوا علىَّ مستقبلى. فارتعبت وذهبت معه وقضينا أيام الامتحان فى الحجرة التى كان يؤجرها من سيدة طيبة فى شقتها بشارع عبد الحليم. واطلعت على جانب من شخصيته لم أكن أعرف عنه شيئا من قبل، ألا وهو الفكاهة التى تجعلك تضحك حتى تدمع عيناك وهو يقلد الأطفال الصغار فى أحاديثهم الظريفة أو يعترض طريق أية امرأة كبيرة تقابله متبالها عليها كأنه طفل صغير يتهته فى سذاجة. أرجو أن يعذرنى القراء إذا سمعوا الآن قهقهاتى وأنا أروى تلك الحكايات العجيبة.
ومن الذكريات الطريفة الآن، المخيفة فى إبّانها رغم ذلك، أننى خرجت من امتحان الإنشاء، الذى كان مادة مستقلة قائمة برأسها فى الأزهر، وكانت ثمرةُ القراءة قد بدأت تظهر فىَّ وتؤتى أُكُلَها، فكتبت مائة وخمسة وثلاثين سطرا فى ورقة الإجابة، وخرجت من الامتحان أباهى بذلك من يسألنى عما صنعته فى تلك المادة، فما كان من أحد طلاب قريتنا ممن يكبروننى بسنة أو اثنتين إلا أن صفعنى بالقول بأننى سوف أرسب فى تلك المادة.
- لماذا يا مصطفى، فأل الله ولا فألك؟
- لأن الأساتذة لا تسمح بأكثر من خمسة عشر سطرا فى موضوع الإنشاء.
- إذن يا خراب بيتك يا خِلُّ!
وقضيت وقت انتظار الدخول إلى المادة التالية أمام بوابة المعهد الدينى فى الشارع فى هم عصيب. إلا أن الله، برحمته ذلك الولد المسكين الذى هو أنا، سرعان ما مسح على قلبى الغض الصغير فأنسانى الأمر برُمَّته، فكأنى لم أسمع شيئا ولم يقل لى ابن قريتى شيئا، إلى أن ظهرت نتيجة الامتحان على النحو الذى رويتُ.
ولكى يعرف القراء مدى التطور الذى لحقنى فى ميدان الكتابة أقول إننى فى العام السابق على ذلك العام لم أستطع، إلا باللَّتَيّا والتى، أن أكتب فى موضوع الإنشاء أكثر من ثلاثة عشر سطرا بالتمام والكمال. وكان عن المستشفيات فيما أذكر، وكنت سعيدا حين استطعت أن أضمن موضوعى عبارة "أمشى فى مناكبها" المستوحاة من القرآن، أى مناكب المستشفى. ولا أظننى قلت شيئا له قيمة فى ورقة الإجابة. أما الآن فكنت قد بدأت القراءة بشكل موسع وجاد، وفى فرحة بل نشوة، وكانت المائة والثلاثون والنيف من السطور التى كتبتها فى موضوع الإنشاء هى الثمرة الطيبة لتلك القراءة. وقد هدتنى التجارب الطويلة فى دنيا التعليم إلى أن ضعف الطلاب المزرى الآن سببه أن عقولهم فاضية ليس فيها علم لأنهم لا يقرأون، ومن ثم يعجزون عن التعبير عن أى شىء. ولكن، فى نفس الوقت، إذا أردنا أن يتجاوب الطالب مع العلم ويهتم بالتحصيل والدراسة، فلا بد أن يعرف أن هناك ثمرة لاجتهاده فى المدرسة والجامعة تنتظره بعد التخرج: فى هيئة وظيفة محترمة، ومرتب كريم يكفى حاجاته ويفيض بعضه احتياطا للزمن ومفاجآته، ومسكن لائق بحيث يستطيع أن يتزوج متى قرر الزواج بدلا من عجز الشبان عن إكمال نصف دينهم، وتزايد أعداد العوانس من ثم، بما يهدد بناء المجتمع بالانهيار من خلال الانفلات الجنسى المترتب على هذه الأوضاع المقلوبة. باختصار: على الطلاب أن يقبلوا على العلم فى تبتل وتجرد وإخلاص، وعلى الدولة من الناحية الأخرى أن تكفل لهم مستقبلا طيبا يليق ببنى البشر، وأن تتقارب المرتبات فلا يحصل كثير من المواطنين من وظائفهم على الملاليم، بينما هناك من يكسب الملايين آخر الشهر من خزانة الحكومة، وهو ما ينتظره الناس منذ قيام الثورة الأخيرة.
وقد ذكرنى بالنشوة التى كنت أحسها وأنا أدلف إلى عالم الكتاب والقراءة ما سمعته من طالبة لى منذ سنتين حين أتتنى فى المكتب ووصفت لى فرحتها وتحمسها وهى تتعرف إلى ذلك العالم بعد أن كانت لا تقرأ ولا تفكر فى الإمساك بكتاب غير الكتاب المقرر. لقد كانت عيناها تلمعان وهى تحدثنى عن شعورها بالبهجة عند القراءة، التى لم يكن إقبالها عليها فى البداية إلا تخلصا من كثرة حديثى إليها هى وسائر زملائها وزميلاتها عن وجوب القراءة كى يصبحوا آدميين وكثرة نخسى لهم من أجل هذه الغاية، ثم سرعان ما شَغِفَتْ بها وصارت من مدمنيها، ولم تكن تدرك أو تصدق أن الكتاب يحوى كل هذا القدر من أسباب السعادة والانتشاء كما أكدت لى.
وفى العام الحالى وجدت، وأنا أصحح أوراق الإجابة فى قسم اللغة العربية، طالبا يقول: "قوايل" و"سجوع"، يقصد "أقاويل" و"أسجاع"، ومعظم الطلاب والمعلقين فى الصحف الألكترونية يقولون: "حسالة" بدلا من "حثالة". وكثير من طلابنا يقولون: "عادتًا" و"فجأتًا"، أو إذا لم يعجبك التوت فارض بشرابه وخذ "عادتَنْ" و"فجأتَنْ"، ومن الصعب جدا عليهم أن يكوّنوا جملة مقبولة. وعلى ذلك فَقِسْ. إن العقل البشرى يشبه الحصالة التى تضع فيها ما يتجمع لديك من مال. فإن وضعت فيها شيئا فلسوف تجده عند الحاجة إليه. أما إن تركتها فاضية كما يترك الطلاب والطالبات فى هذا الجيل أمخاخهم خاوية على عروشها فلسوف تجد نفسك عاجزا حائرا بائرا لأنه ليس لديك ما يمكن أن تستخرجه من باطنك لتعرضه على الناس.
أذكر الآن أنه، بعد عودتى من العمل بجامعة قطر منذ ثمانى سنوات، قام طالب فى اللقاء الذى يعقده القسم فى آخر كل فصل دراسى حيث يجتمع الأساتذة ببعض ممثلى الطلاب لإلقاء نظرة على الفصل الفائت وتقويمه، فشكا من أنه مضى عليه لا أدرى كم من الأعوام فى القسم وهو عاجز عن الحصول على الليسانس. وطبعا كان يقصد أن الأساتذة هم المسؤولون عن هذا بتصعيبهم وتحبيكهم الأمور دون داع. وأشار إلى مادة الترجمة التى كنت أدرّسها لهم ثم انخرط فى الموال المعتاد الذى يتلخص فى أننا طلاب بقسم اللغة العربية، فما الداعى لدراسة الإنجليزية أو الترجمة منها؟ فقلت له ضاحكا: دعنا من الإنجليزية، وأخرج ورقة وقلما واكتب لنا بضعة سطور تحكى فيها ما فعلتَه منذ قيامك من النوم إلى أن حضرت هنا. وأعقبت هذا بقولى إنه لا يوجد ما هو أسهل من هذا الطلب بتاتا. فأخذ يلف ويدور محاولا تشتيت انتباهى حتى أنسى ما طلبته منه. إلا أننى أصررت على طلبى، وزدت فوعدته خمسة جنيهات إن فعل، وكانت الخمسة جنيهات أيامها تساوى شيئا. وعبثا حاول التهرب، إلا أنه فى النهاية لم يجد مناصا من تقديم الورقة المطلوبة لأفاجأ بأنها حديث قدسى لم يستطع "بسلامته" أن يكتب فيه كلمة واحدة سليمة لا إملاءً ولا نحوا. ومع ذلك فقد أعطيته الجنيهات الخمسة وأنا أضحك. أما لماذا ضحكت فلكيلا أنفجر من الغيظ.
وبالمناسبة فلا أزال أذكر بعض الكلمات الجديدة التى دخلت معجمى فى ذلك الوقت البعيد حين كنت طالبا فى الإعدادية الأزهرية: فمنها عبارة "بِيَدِه المجرَّدة" فى قول نيقولاى جوجول فى "أمسيات قرب قرية ديكانكا" إن البطل صعد فى السماء وأمسك القمر "بيده المجردة". ولا تسل عن فرحتى الطاغية عندما قابلت هذه العبارة وفهمت من السياق أن جوجول يقصد أن الرجل كانت يداه عاريتين. ومن تلك الكلمات كلمة "مِنْسَأة" فى سورة "سَبَأ"، إذ أخبرنى طالب أزهرى كان يكبرنى ببضع سنين بأن معناها "العصا". وكنا واقفين عند النقطة القديمة أمام نادى الشباب، وكان الوقت بُعَيْد العصر فيما أذكر الآن، وكنا فى إجازة الصيف التى عقبت حصولى على الإعدادية الأزهرية. وكنت سعيدا أَنْ عرفتُ كلمة جديدة أضفتها إلى معجمى، الذى شرع يتكون تكونا منظما ومتسارعا فى ذلك الحين بفعل القراءة المتحمسة. وكنت أنطق عبارة "أُرْتِجَ عليه الكلام"، بمعنى أن باب الكلام قد أُغْلِق بالرِّتَاج، أى بالترباس، فلم يستطع الرد، كنت أنطقها هكذا: "ارْتَجَّ عليه الكلام". صحيح أننى كنت أفهم معناها، لكننى لم أكن أنطقها صوابا. ومثلها عبارة "بَيْدَ أَنَّ"، التى أخذها عنى عدد من طلابى لاستعمالى لها كثيرا فى كتبى، ومعناها: "إلا أن/ لكن"، والتى كنت أنطقها فى تلك الفترة: "بِيَدِ أَنَّ" مثلما يفعلون هم الآن، وكنت رغم ذلك أفهم معناها. وبالمثل كنت أفهم عبارة "بَعْدَ لأْىٍ" وأنها تعنى أن الأمر لم يقع للتَّوِّ بل أخذ وقتا وجهدا، لكنى كنت أوجهها على أن الأمر كان يقابَل فى كل مرة بكلمة "لا" (وهذا معنى "لأى"، أى لأ لأ لأ) قبل أن تتم الموافقة عليه وينفتح فى وجه صاحبه الطريق ليفعل ما يريد. وأذكر هنا أن طالبة من طالباتى القارئات بمدرسة الحلمية الجديدة عام 70- 1971م، وكان كثيرات منهن يقرأن فى ذلك الزمان رغم أن المدرسة كانت مدرسة خاصة وفى حى شعبى، كانت تقول عن "بُغْيَةَ كذا": "بِغِيَّة كذا"، متصورة أن الكلمة هى "غِيَّة" بمعنى "رغبة" كما نقول فى العامية. فـ"بِغِيَّة كذا" معناها أنه فعل ذلك وفى ذهنه تلك الرغبة. وحاولت أن أشرح لها الأمر، إلا أنها لم تقتنع. وواضح أنها تفهم المعنى فهما سليما، لكن الخطأ فى توجيهها للعبارة مثلما كنت أصنع مع بعض العبارات فى صباى وشبابى.
ومن الطبيعى جدا أن نقع فى بداية أمرنا فى مثل تلك الأخطاء. ذلك أن الكلام إذا كان غير مشكَّل فإنه يقبل أكثر من ضبط. فإذا كانت الكلمة جديدة علينا فمن الممكن جدا أن ننطقها خطأ. لكن مع الأيام تتاح لنا الفرص، فرصة بعد الأخرى، لتصحيح الخطإ: إما ممن يعرف النطق الصحيح فيصحح لنا خطأنا حين يسمعه، أو نسمعه نحن فنتنبه إلى ما ارتكبناه من خطإ ونصححه من تلقاء أنفسنا، أو نجده فى نص مشكل فنعرف وجه الصواب فيه ونصححه بناء على ذلك، أو نكشف عنه فى المعجم نطقا ومعنى. وقد كانت ابنتى الصغيرة منذ عدة ليال تقطع معى الشارع الذى أمام بيتنا بعد نزولنا من السيارة عندما نطقت عبارة من هذا النوع خطأ رغم أنه من الواضح أنها تفهم معناها، فصححتها لها فى حنان وفرحة، فحاولت أن تسوغ خطأها، فشرحت لها أننى، مثلها، كنت أقع فى أخطاء مشابهة حين كنت فى سنها، فهدأ بالها.
وليس هذا عيبا فى اللغة العربية كما يحلو لكل متعجل أن يقول، إذ التشكيل هو جزء من لغة الضاد. وكتب الأطفال وكتب المدارس تُطْبَع مشكلَّة الكلمات. وأنا، هذه الأيام، أشترك وبعض الأصدقاء والمعارف فى وضع كتاب اللغة العربية للسنة الأولى الثانوية فنشكل كل كلمة وكل حرف فى الكتاب حتى يعرف الطلاب كيفية نطق الألفاظ نطقا صحيحا. ومن ثم فلا مشكلة مع هذين النوعين من الكتب لو تنبه الأطفال والتلاميذ والطلاب إلى ما يقرأون واهتموا بحفظ النطق الصحيح والحرص عليه. ثم مع الأيام تقل الحاجة إلى التشكيل إلى أن يأتى اليوم الذى لا تكون فيه حاجة إلى التشكيل أصلا، اللهم إلا إذا كان القارئ أمام نص قديم أو نص منقطع الصلة بتخصصه أو بنطاق معرفته وتجاربه حيث تكثر الألفاظ التى يجهلها، ومن ثم لا يعرف كيف تنطق. وحينئذ تشكَّل له الكلمات الصعبة والألفاظ الجديدة. وأنا فى كتبى أحرص على ضبط الكلمات التى أعرف أو يغلب على ظنى أن القارئ يمكن أن يخطئ فى نطقها، فترانى أضبطها له كاملة أو أضبط الحرف أو الحرفين اللذين أتوقع أن يخطئ فى نطقهما. والمهم فى هذا هو أن مثلى كان، فى فترة الصبا والشباب، يعتمد فى تخمين المعنى على السياق، وكان يصيبه فى كثير جدا من الأحيان، وإن لم يكن تخمين النطق الصحيح سهلا بنفس الدرجة. ولكن مع الأيام يتم تصحيح المسار.
وفى تلك الفترة أيضا تعرفت إلى بعض الكلمات الجديدة فى أسلوب المنفلوطى الفخم الجميل، وكان الناشر يشرحها فى الهامش، ومنها كلمة "تمرمر"، أى "اهتزَّ (من الغضب)" حسبما أذكر الآن. ومن هذا الوادى أيضا، ولكن من كتاب ابن هشام فى النحو فيما أظن، معرفتى أن كلمة "سنوات" يمكن أن يقال فيها: "سنهات"، و"سنون وسنين" كأنها جمع مذكر سالم، وكذلك "سنينٌ، وسنينٍ، وسنينًا" كأنها كلمة مفردة مثل كلمة "حين" مثلا. وأذكر أنه، قد طُلِبَ منى بالقرية فى إجازة الصيف التالية لامتحان الشهادة الإعدادية، أن أكتب موضوع إنشاء تصادف أن جاءت فيه كلمة "سنوات"، فغيرتها إلى "سَنَهَات" إدلالا بمعرفتى هذه الصيغة الغريبة. طبعا، وإلا فكيف يعرف الناس أننى "أبو العُرِّيف"؟ وفى ذلك الوقت أيضا كنت أُدِلّ بمعرفتى أن "لـمّا يفعل" تقوم مقام التركيب المعروف: "لم يفعل بعد" نظرا إلى ما قرأناه فى كتب النحو من أن "لما" تعنى هذا المعنى.
ثم قرأت كذلك فى تلك الأيام ما ورد فى كتاب "أنا" لعملاق الأدب والفكر حين قال الشيخ محمد عبده عن العقاد التلميذ بأسوان بعدما سمع إجاباته على بعض ما وجهه للتلاميذ من أسئلة أثناء زيارته للمدرسة هناك: "ما أجدر هذا الطالب أن يكون كاتبًا بَعْدُ" بضم الدال هربا من الاتهام بأنه يلجأ إلى تسكين أواخر الكلمات حتى لا ينكشف عجزه عن الضبط الإعرابى الصحيح. وكنا قد قرأنا فى كتاب ابن هشام: "قطر الندى وبل الصدى" بالأزهر قبيل ذلك أن "قبل وبعد وأمام ووراء وقدام وخلف" تعرب عدة إعرابات من بينها ضمها على تقدير الإضافة دون نية الإضافة الفعلية، فربطتُ بشىء من المباهاة بين هذا وذاك، وجعلت أشعر اننى على الخط مع كبار الكتاب والمفكرين كالشيخ محمد عبده، الذى كان العقاد يجله إجلالا كبيرا، والذى تابعت العقاد فيه متابعة تامة سنوات طويلة، ثم غيرت رأيى فيه بعض التغيير مع الأيام. وكنت قبل ذلك بثلاث سنوات أنطق كلمة "الوثنية" بتسكين الثاء، إذ كنت قادما لتوى من القرية بعُجَرِى وبُجَرِى، أو كما نقول فى قريتى: بعَبَلِى، لم أدرس شيئا سوى أننى حفظت القرآن، وأعرف الإملاء والقواعد الأربع فى حساب الأعداد الصحيحة من جمع وطرح وضرب وقسمة، وكان الله يحب المحسنين. وكانت تلك أول مرة تقابلنى تلك الكلمة، بل ذلك المفهوم كله. وأخذ منى الأمر وقتا قبل أن ينبهنى أحدهم إلى أنها بفتح الثاء لا بسكونها.
وإذا كان الشىء بالشىء يذكر فقد غَبَرَ علىَّ وقت طويل وأنا أتصور أن "القيثارة" معناها "الناى". يا للهول! وفى السنة الأولى بالأزهر قابلتنا كلمات لم يكن لها بها أى علم من قبل ككلمة "بنت لَبُون" و"حِقّة" (وكنت أنطقها: "حُقَّة" بضم الحاء، ولم يصححها لى أحد فيما أذكر إلى أن نظرتها فى "تاج العروس" الآن) و"جَذَعَة" فى باب زكاة البهائم، وككلمة "زُهُومة" لدى الحديث فى كتاب الفقه عن التطهر بالماء المشمَّس، والشروط التى ينبغى توفُّرها فيه حى يصح استعماله فى الطهارة، ومنها ألا تكون به "زهومة، أى دَسَم" بنص الكتاب. والآن لماذا أقف إزاء مثل تلك الأشياء التى تبدو سخيفة لا قيمة لها؟ الواقع أنها ليست سخيفة بأى معنى من المعانى، بل ترينا عمليا كيف ينمو العقل الإنسانى ويكتسب صاحبه اللغة كلمة كلمة، وعبارة عبارة، وتركيبا تركيبا، وصورة صورة... وهكذا حتى يصل إلى المرحلة التى يبدعها إبداعا ويضيف إليها ما ليس فيها.
والحمد لله أننى لا أزال قادرا على تذكر مثل تلك الدقائق والسياقات التى دخلتْ فيها عقلى، فأنضجتْه ونقلتْه من عقل صبى ريفى مسكين لا يكاد يعرف شيئا إلى عقلِ وَلَدٍ يتعلم وينضج ويتفتح ويقتحم ويتطلع، إلى أن أصبح ذلك الدكتور الذى يكتب الآن بعدما قرأ آلاف الكتب وحبر آلاف الصفحات وحاضر آلاف المحاضرات، وما زالت عملية النمو والنضج ماضية فى سبيلها لا تتوقف ولا يمكن أن تتوقف. ومع هذا كله ما فتئتُ أكتشف كل يوم أننى جاهل لا أعرف إلا القشور، أما اللباب فلا يزال وسيظل "بعيدا عن شاربى" كما نقول فى مصر.
وبمناسبة ما نحن فيه وصلنى اليوم، ضمن مجموعة بريدية كبيرة، إيميلٌ من صديقى الألكترونى د. محمد جمال صقر الأستاذ بكلية دار العلوم تَكَرَّر فيه قوله: "جميعا معا" ثلاث مرات، فرددت عليه بما نصه: "الصديق الكريم، سلام الله عليك ورحمته وبركاته جميعا معا: فى البداية دهشت، مجرد دهش، لاستعمالك "جميعا معا"، وسر دهشتى أنى لا أذكر رؤية هذا التركيب بالذات من قبل، وإن سارعت فقلت فى نفسى إنه كقول القرآن مثلا: "فسجد الملائكة كلهم أجمعون" وقول النحاة: "أكتعون أبصعون أجمعون" أو شيئا مثل هذا. ثم بدا لى أن أبحث فى التراث فوجدت الشاعر الأُقَيْشِر يقول: "معا جميعا"، ودِعْبِلاً يقول: "جميعا معا معا"، وفى "البداية والنهاية" لابن كثير أثناء الكلام عن تزامن حمل أم عيسى وأم يحيى بهما عليهما السلام: "جميعا معا"، وفى شعر للحارث الكِنْدِىّ فى "الحيوان" للجاحظ: "معا جميعا"، وفى "الزهرة" لمحمد بن داود الظاهرى: "جميعا معا"، وفى "الصاحبى" لابن فارس: "جميعا معا"، وفى كتاب المهلبى عن مآخذ المتنبى: "معا جميعا"... إلخ. أى أننا قد استفدنا على الصبح استفادة لغوية أَثْرَتْ بها معرفتُنا وتقدَّمْنا إلى الأمام خطوة جديدة. وكنتَ قد قلتَ فى مقالك إن السماع مقدم على الكلام، وهذا صحيح تماما، مع فهم السماع بمعناه الواسع، أى بمعنى التلقى إنصاتا أو قراءة، ومن هنا نرى الطلاب الآن لا يستطيع معظمهم أن يكتب جملة سليمة. ذلك أنهم لا يقرأون ولا يستمعون إلى المحاضرات ولا يحضرون الندوات، فعقولهم حَصَّالات فارغة ليس فيها ما يمكن أن يستمده صاحبها منها عند الحاجة. وشكرا".
ولا ريب أننا قد تعلمنا الكثير من كتب الأزهر ومن الروح الجادة التى كانت تسوده فى ذلك الوقت حتى إنه لم يكن مسموحا مثلا أن يفتح أى منا فمه أثناء الامتحانات. ويكفى أننى تعلمت فى النحو "شرح الآجُرُّوميّة" و"شرح الأزهرية" وكتاب "قَطْر النَّدَى وبَلُّ الصَّدَى" لابن هشام، وكتابا فى الصرف من تأليف بعض مشايخ الأزهر المعاصرين. كما حفظنا كثيرا من الشواهد الشعرية القديمة مع شرح ما فيها من ألفاظ صعبة، علاوة على معرفة الظروف التى قيلت فيها تلك الشواهد. وهذه ثروة لا تقدر بثمن وضعنا أيدينا عليها غنيمة باردة. ومنذ ذلك الحين وأنا أعتمد فى معرفة النحو والصرف على هذه الكتب إلى حد بعيد، ومنذ حصولى على الإعدادية أجدنى أكتب فلا أكاد أخطئ فى الإعراب، وكل ذلك بسبب ما درسناه فى الأزهر من كتب. إلا أننى أخذت بعض الوقت حتى استطعت أن أنقل معرفتى ببعض الأمور فى الصرف من ميدان النظر إلى ميدان التطبيق، ومنها ضبط آخر الأفعال التالية وأشباهها: "تَرَيْنَ" و"سَعَوْا" و"يتمنَّوْن" وأمثالها من الأفعال، إذ كنت أكسر الراء فى الفعل الأول، وأضم العين فى الثانى.
وقد أعرب د. شوقى ضيف فى كتابه: "معى" عن دهشته الشديدة من نجاح الطريقة القديمة التى كان يأخذ بها الأزهر فى تعليم طلابه النحو والصرف على ما فيها من شدة، وفشل الطرق التربوية الحديثه فى ذلك المجال، وقال بحقٍّ إن ذلك راجع فى جانب منه إلى أن الأزهر كان يدرّس النحو كله فى كل عام ولا يقسمه على أكثر من سنة بحيث يلم الطلاب به فى كل مرة إلماما كاملا مع التوسع فيه كل عام، إذ يبدأ الطلاب بكتاب شرح الآجرومية المختصر، ثم ينتقلون منه فى السنة التالية إلى كتاب شرح الأزهرية، وهو أوسع من الآجرومية، ثم ينتقلون من هذا إلى كتاب ابن هشام: "قطر الندى وبل الصدى" بشرح محمد محيى الدين عبد الحميد. وقد ابتسمتُ بل ضحكتُ حين تبين لى أن أستاذى د. شوقى ضيف فى أواخر عشرات القرن الماضى كان يدرس ذات الكتب التى درستها أنا بعد ذلك فى أوائل ستينات ذلك القرن، وأنه قد وصل إلى نفس النتيجة التى وصلت أنا إليها، وهى الكتابة السليمة دون أخطاء تذكر. لا أقول إن جميع الطلاب أو حتى معظمهم فحسب كانوا يبلغون دائما هذه الغاية، بل أحصر كلامى فى حالتى أنا وأمثالى لأنهم هم الذين أعرفهم وأستطيع من ثم أن أتحدث عنهم. وقد يمكن أن نضيف سببا آخر لنجاح الأزهر (وغير الأزهر) بوجه عام فى تعليم طلابه العربية الفصحى فى ذلك الوقت، ألا وهو أن الجِدّ كان شعار التعليم أوانذاك. وقد بينت أنا نفسى هذا فى الكتاب الحالىّ.
وكنت، فى السنوات الأولى لى بالأزهر أقرأ روايات أرسين لوبين وروكامبول وطرزان وأمثالها شركةً مع بعض زملائى فى النسخ التى كانوا يحضرونها معهم ويقرأونها فى الحصص التى يغيب أساتذتها لسبب أو لآخر، فكنت أنظر فى الرواية التى كان زميلى بجوارى يقرؤها، وأطلب منه ألا ينتقل إلى الصفحة التالية إلا بعد أن أنتهى أنا أيضا من قراءة الصفحة، مثلما كان علىَّ أن أنتظره حتى ينتهى هو بدوره من قراءة الصفحة التى أكون قد فرغت منها، وأنا على أحر من الجمر أريد أن أعرف ما الذى حدث لطرزان أو روكامبول بعد هذا. ولا أزال أذكر لقب الطالب الذى قرأت معه عددا من كتبه فى مثل تلك الحصص، وهو "الفخرانى"، وكان يفتح حرف الخاء على عكسنا فى قريتنا حيث نسكّنها. كذلك أحضر لى أخى الأكبر، وكان يشتغل فى الإسكندرية، مجموعة كبيرة من الروايات الأرسينلوبينية التى اشتراها وقرأها، وكان ذلك بعد حصولى على الإعدادية فيما أذكر.
ثم ابتدأت أتنبه إلى كتب الكبار كالمنفلوطى والعقاد وأحمد أمين وطه حسين ومحمود تيمور ومحمود شلتوت وبنت الشاطئ وسهير القلماوى وحسين عفيف وغيرهم، فضلا عن الروايات المترجمة من روائع الآداب العالمية، ومنها "مرتفعات وذرنج"، التى قرأتها حتى الآن عدة مرات: ملخصة وكاملة، فى ترجماتها المختلفة إلى لغة الضاد وفى أصلها الإنجليزى. وكنت دائما أذرف الدموع وأنا أطالعها معايشًا بقوةٍ أبطالَها العجيبين. وأذكر أن هذه الرواية كانت مدخلى إلى عالم النقد الأدبى دون أن أعرف أن ما أمارسه آنذاك هو نقد أدبى. أذكر أننى استلقيت على ظهرى ظهر يوم فى الإجازة الصيفية التى تلت اجتيازى المرحلة الإعدادية على الحصيرة فى المقعد، الذى يفتح بابه إلى الناحية البحرية على سطح بيت خالى، الذى تربيت فيه بعد وفاة والدى بالإضافة إلى بيتنا، الذى لا يبعد عنه سوى بضعة بيوت، وذلك بعد الانتهاء من قراءتها لأول مرة من ترجمة موجزة فى سلسلة "روايات الهلال"، وأخذت أتساءل عن السبب الذى جعل هذه الرواية تقتحم كيانى بهذا العنف المزلزل الذى لم أخبره من قبل. وشرعت أستعرض فى عقلى الأسباب التى أتصور أنها وراء ذلك. وكلما تذكرت تلك الظهرية وتلك الاستلقاءة على الحصير فى قيلولة صيف 1964م أضحك فى نفسى وأقول: لقد صرتَ والله يا أبا خليل ناقدا أدبيا منذ صغرك وأنت لا تدرى. وكنت أشعر بنشوة علوية وأنا أدلف إلى هذا العالم الجديد، وأصاحب أولئك الكبار.
ومن الكتب التى قرأتها فى المرحلة الإعدادية "الحسين بن على" و"هذه الشجرة" للعقاد، و"هارون الرشيد" لأحمد أمين، و"سلوى فى مهب الريح" والجزء الأول من "الأيام" لطه حسين وبعض المسرحيات لمحمود تيمور، وجميع مترجمات المنفلوطى، و"فى سبيل الحرية" لكل من عبد الرحمن فهمى وعبد الرحيم عجاج وعدد كبير من "روايات عالمية" و"روايات الهلال" وطائفة من روايات تاريخ الإسلام و"علم الفراسة الحديث" لجورجى زيدان، وبعض الأعمال القصصية الأجنبية المترجمة ترجمة كاملة كـ"عودة ابن البلدة" لتوماس هاردى و"أمسيات قرب قرية ديكانكا" لنيقولاى جوجول، و"الشقيقتان" لأليكسى تولستوى و"كل شىء هادئ فى الميدان الغربى" لإريك ماريا ريمارك، و"هى أو عائشة" لريدر هجارد مثلا.
كما لا يمكننى أن أنسى رواية "أشواك" لواحد اسمه سيد قطب حاولت وقتها أن أعرف شيئا عنه، لكنى لم أستطع. ذلك أنى كنت أريد أن أعرف من ذلك المؤلف الشاب (كما كنت أتصور، فى ذلك الوقت، الكاتب) الذى أبدع هذه القصة الرائعة وضَمَّخها بهذا الأسلوب العطر وقال فى كلمة الإهداء هذين السطرين البديعين: "إلى التى سـارت معى فى الأشواك، فدَمِيتُ ودَمِيَتْ، وشَقِيتُ وشَقِيََت، ثمّ سـارت فى طريقٍ وسرتُ فى طريقٍ جريحين بعد المعركة، لا نفسها إلى قرار، ولا نفسى إلى استقرار"، بيد أنى للأسف لم أصل إلى شىء.
وكان من عاداتى الإدمانية فى الجامعة القراءة فى الحافلات العامة مهما كانت مزدحمة حتى إننى ذات مرة، وكنت محشورا فى أحدها كأنى سردينة فى علبة، قد رفعت كتابا كنت أقرؤه إلى مستوى عينى فاستقر دون انتباه منى فوق قفا الراكب الذى يقف لصقى بفعل الزحام الشديد، فما كان منه إلا أن صاح مستنكرا: هل حُبِكَتْ القراءة إلى الدرجة التى تستذكر فيها على قفاى؟ ولا أدرى الآن أضحكتُ وقتذاك من عبثية الموقف أم اعتذرتُ للرجل أم جادلتُه كعادتنا نحن المصريين حين لا نريد أن نعترف بأخطائنا. المهم أن الأمر، بطبيعة الحال، قد عَدَّى على خير، وإلا ما كنت معكم الآن أسطر هذا الكلام السخيف، فتحملونى من فضلكم!
وظلت هذه العادة ترافقنى بعد ذلك عقودا حتى خَفَّت الآن بعدما صرت أوثر القراءة الكاتوبية على الكتاب الورقى، وأصبح بمستطاعى أن أركب الحافلة لمدة ساعة دون أن أشعر بالضجر لعدم القراءة، إذ أضحيت أنظر إلى ذلك على أنه فرصة لراحة العقل، الذى لم يعد يهدأ من التفكير، فأهتبلها فرصة لـ"تكبير مخى" حسب التعبير المصرى المشهور الذى يورد الواحد موارد الهلاك والخراب! أما إذا كنت مشغولا بتأليف كتاب ما فإنى أهتبل الفرصة للتفكير فى هذا الموضوع. وكنت فى لندن أركب الحافلة أُمّ دورين من شرق المدينة حتى وسطها عند أكسفورد ستريت أو المكتب الثقافى المصرى قريبا من الهايد بارك، وهى رحلة تستغرق نحو ساعة كنت أقضيها فى قراءة الكتب فى الطابق العلوى فى متعة ما بعدها متعة، مع التغيير بين الحين والحين بالنظر إلى الشوارع والمحلات وحركة الناس على الأرصفة، ويا لها من متعة أخرى! فـ"أين من عينىَّ هاتيك المجالى؟". وكنا أنا وزوجتى حين يغلبنا الحنين هناك إلى مصر نغنى، ونحن نضحك وندفع كرسىَّ ولدينا فى الشوارع، افتتاحية هذه القصيدة الرائعة لعلى محمود طه مع تحوير كلمة "المجالى" إلى "المجارى" إشارة إلى طفح المجارى الذى نعانى منه كثيرا فى مصر، ولا تعرفه بريطانيا أبدا.
وبخصوص الكتابة فقد بدأتُ، فى أواخر المرحلة الإعدادية (الأزهرية)، أجرب قلمى مقلدا العقاد فى أسلوبه وموضوعاته وآرائه. ومن العجيب أننى، على رغم حداثة معرفتى بالعقاد، قد شعرت بعد ذلك بسنة، حين صرت طالبا فى السنة الأولى الثانوية، بحزن شديد على موته مع أنه حين مات لم أشعر بتلك الدرجة من الحزن. وكنت فخورا أننى حصلت عقب موته على كتابين يترجمان له فقرأتهما وأنا فى غاية التحمس. لقد أحسست، وأنا طالب فى السنة الأولى بالأحمدية الثانوية، أننى قد صرت يتيما مرة أخرى، ولا أدرى لماذا. وأتصور أننى كنت واعيا على نحو ما بالدور الذى قام به العقاد فى حياة العرب والمسلمين، وبخاصة دفاعه عن الإسلام، فقد شعرت أن الإسلام قد فقد نصيره الجبار، وإن لم يكن تدينى فى ذلك الوقت بالتدين القوى كما أصبح عليه الحال بعد ذلك بسنة ونصف كما سيأتى بيانه. وكنت، وأنا فى الإعدادية، أردد فى سذاجة مخلصة أننى أريد الالتحاق بالكلية التى تخرّج الأدباء. أقصد كلية الآداب. ذلك أنى كنت أتصور أن الإبداع الأدبى لون من ألوان التخصص المختلفة، وأن هناك كلية تتكفل بإنتاج الأدباء هى كلية الآداب، خالطا بين التخصص فى دراسة الأدب وبين الإبداع الأدبى ذاته. ومن هنا كنت أتطلع فى شوق ولهفة إلى الالتحاق بها عندما يؤون الأوان وأحصل على الثانوية العامة. ونتيجة لـ"سذاجتى المخلصة" لم أصر أديبا ولا حتى صلحت لدراسة الأدب كما يرى القارئ بنفسه. وفى الصيف الذى تلا حصولى على الإعدادية قرأت كتاب العقاد: "أنا" وكتاب د. شوقى ضيف عنه: "مع العقاد"، اللذين أشرت إليهما آنفا. وقد سألت فى ذلك الحين طالبا أزهريا من قريتى أكبر منى عن الأستاذ الدكتور فأخبرنى أنه أستاذ بآداب الإسكندرية. ترى كيف عرف ذلك الطالب أن د. شوقى ضيف أستاذ بكلية الآداب، وإن أخطأ فقال: "جامعة الإسكندرية" بدل "جامعة القاهرة"؟ لا أدرى، ومن قال: "لا أدرى" فقد أفتى.
ولم أكن أعرف أننى بعد خمس سنوات سوف أدرس على يد الأستاذ الدكتور حينما عاد من إعارته إلى الأردن وأنا فى السنة الثالثة بالكلية، وتكون بينى وبينه لقاءات فى بيته بشارع المقياس بحى الروضة حيث نظل نتحدث بين العصر والمغرب، وربما إلى قريب من العشاء أيضا. وقد علمت منه أثناء أحد تلك اللقاءات أنه قد وضع كتابه هذا عن العقاد فى ثلاثة شهور تردد خلالها على دار الكتب المصرية بباب الخلق بعدما طلبت منه دار المعارف تأليف ذلك الكتاب عقب وفاة العقاد، رحم الله كاتبينا الكبيرين. وقد أكون أثقلت على الرجل رحمه الله فى بعض هذه الزيارات، ولكنى كنت كمن وجد مرفأ آمنا أستكنّ فيه فأجد شيئا من الدفء فى القاهرة التى كنت أشعر بالغربة فيها مثلما كنت أشعر بها فى طنطا فى بداءة أمرى هناك. وكان الرجل يأتى لى فى كل مرة أزوره بفنجان قهوة وقطعة من الشيكولاته. وأحيانا كان يهدى لى كتابا من كتبه كـ"العصر العباسى الثانى" و"البطولة فى الشعر العربى"، فيكتب فى الإهداء: "إلى الصديق السيد فلان". نور الله قبره وكتبه من أصحاب الفردوس الأعلى.
وكان، رحمه الله، متواضعا دمثا واسع الصدر حتى إنى كنت أذهب فى الدلال عليه أحيانا مذهبا جريئا. فمن ذلك أن أخى الأصغر مختار كان قد قرأ كتاب الأستاذ الدكتور عن "البطولة فى الشعر العربى"، الذى كان قد أهدانيه، فعلق قائلا إن أسلوبه أحسن من أسلوب العقاد، فنقلت هذا للأستاذ الدكتور، ومضيت فى كلامى ذاكرا ما قلته لأخى من أنه لا يعرف شيئا. فسكت الأستاذ الدكتور، طيب الله ثراه، قليلا، ثم عقب بعد فترة قائلا: أتدرى أن أخاك عنده حق فى... فما كان منى إلا أن قلت ضاحكا: يا للغرور! ولعل أستاذى الكريم قد ضحك أو ابتسم جوابا على هذا التهور السخيف من شاب لا يدرك أحيانا أبعاد ما يقول. ومن طيبة قلبه وعظمة نفسه ما قاله لى ببساطة شديدة ذات زيارة من أن ولديه يناديانه بـ"شوقى" حافيا دون رسميات كما يفعل الأصدقاء بعضهم مع بعض. وقد دهشت لهذا آنذاك، إلا أننى حين أسمع ابنتى الصغيرة الآن تنادينى ضاحكة أحيانا بما هو أجرأ من هذا أقول: اشرب ياعم إبراهيم! لم يعجبك أن ينادى وَلَدَا أستاذِك الدكتور أباهما باسمه مجردا، فها هى ذى ابنتك الصغرى تناديك بما هو أجرأ. ما رأيك؟ على رأى المثل: من لا يرضى بالتوت يرضى بشرابه. وأى شراب! وقد كتب الفتى مقالا عن أستاذه فى ملحق "الهلال" بعنوان "د. شوقى ضيف شيخ مؤرخى الأدب العربى- صورة قلمية"، وذهب إلى بيته يحمل فى يده نسخة من المجلة كى يهديها إليه، ففتح له هو ورفيقه البابَ ابنُ الدكتور، المهندس عاصم ضيف الأستاذ المتفرغ الآن بهندسة القاهرة حاليا، الذى أخبرهما أن أباه مريض فى الفراش، فسلمه الفتى نسخة المجلة ومضى ينزل السلم، ليفاجأ به يناديهما ويقول لهما إن أباه أصر على أن ينهض من فراشه ويستقبلهما. فكانت لفتة كريمة من الأستاذ الدكتور، رحمه الله.
وهأنذا أعود الآن إلى ذكريات الصبا، فأجدها تهيج بى، وتضغط على قلبى فى عذوبة مؤلمة. والحق أننى لم أتصور أننى سوف أتألم وأنا أكتب مستعيدا هذه الذكريات التى كم قاسينا فيها ومنها، ولكنها كانت تشتمل، رغم كل شىء، على ألوان من المتعة والسعادة. وهذا من رحمة الله بعباده، إذ لو كانت السعادة متوقفة على الغنى أو الصحة أو المنصب أو الحسب لكان معظم البشر تعساء. لكن الله سبحانه يضمّن أبسط الأشياء صورا من المتعة والرضا لا يكاد يصدقها العقل. وما زلت حتى الآن أذكر حكاية قرأتها ضمن مقرر اللغة الفرنسية فى الجامعة تتلخص فى أن طفلا لأحد الأثرياء كان يلعب فى حديقة قصر أبيه بلعبة آلية، لكنه كان يحس بالملل من الحبسة التى هو فيها داخل الحديقة فى حين كان هناك ولدٌ حافٍ بَذّ الهيئة رَثّ الأسمال يقف على الجانب الآخر من السور وفى يده فأر ميت يلعب به. وهنا تلبست الولد الغنى رغبة حارقة فى أن يحوز هذا الفأر، الذى بدا له أكثر حيوية وطرافة من لعبته الآلية التى ضاق بها من كثرة ما يملك من أمثالها، وتطلعًا إلى التغيير، فعرض على الولد المتشرد تبادل اللعبتين. تصوروا؟ وكان أولاد الفلاحين الذين يذهبون إلى وسيّة العمدة فى قريتى رحمه الله يحكون أمامى أيام الطفولة أنه قد يتصادف أن يكون ابن أخت العمدة الوسيم الأنيق المترف معهم فى الحقل مرتديا ملابس الفروسية وممتطيا حصانه، ويأتى موعد الغداء، فيصله أفخم الطعام فى سلة نظيفة مغطاة، بيد أنه كان يتنازل لهم عنه ويأكل من طعامهم الجَشِب، تغييرا للأوضاع ودفعا للسأم من كثرة ما طعم من هذه الألوان الفخمة من الأكل.
وكانت سعادتى تتلخص فى ذلك الوقت فى لعب كرة القدم، التى كنت بارعا متميزا فيها على مستوى القرية والقرى التى تحيط بها أو تنتمى إلى مركز بسيون، الذى تتبعه قريتنا، وفى مطالعة الكتب والالتحاق بنادى الكبار، هؤلاء الذين وهبنى الاقتراب منهم قدرا كبيرا من الاعتزاز بالنفس. ألست أصاحب أولئك العظام وأظل فى رفقتهم لأى وقت أريد دون أن يتدخل أحد بينى وبينهم أو يزعجنى أى شىء عنهم؟ فماذا أرغب أكثر من ذلك؟ ليس هذا فقط، بل لقد كنت أتطلع إلى أن أكون واحدا منهم. فكان فى هذا وذاك قدر هائل من الرضا بالحياة وعنها رغم ما كنا نقاسيه من فقر ويتم وغربة وضآلة. يا ألله! الحمد لك، وتعاليت يا ذا الجلال والإكرام.
لقد بدأت الصورة تتضح لى فأعرف على الأقل، ولو على نحو غامض وساذج، ماذا كنت أريد أن أكون، وذلك على العكس مما كان عليه الحال وأنا أدرس فى المدرسة الابتدائية بالقرية، وهى المدرسة التى أخرجنى أبى من الكتاب وجمعية المحافظة على القرآن الكريم وألحقنى بها إعدادا لى كى ألتحق بإحدى المدارس الإعدادية بطنطا، بينما كان ينوى أن يدخل أخى الأكبر المعهد الدينى الأحمدى، إلا أن موته المأساوى المباغت قد أفسد كل شىء وأخذَنا جميعا فى اتجاه لم يكن يدور لنا فى بال ولا يخطر لنا على خيال. ذلك أننى أذكر أن المدرسين والمدرسات فى المدرسة الابتدائية، التى تحولت إليها قُبَيْل وفاة والدى، وظللت فيها بُعَيْدَها إلى أن رجعت أدراجى إلى الكتاب وجميعة المحافظة على القرآن الكريم، كانوا كثيرا ما يسألوننا أثناء الحصة لسبب أو لآخر عما نتطلع إلى أن نكونه عندما نكبر، فكان زميلى الذى يجلس بجوارى يعلن عن أمنيته أن يكون ضابطا، أما أنا فأرتبك وأخجل ولا أدرى ماذا ينبغى أن أقول، إذ لم يكن هناك شىء واضح فى ذهنى ولا كان لى تطلع أصلا لأى شىء، فقد مات والدى ولم أعد أعرف رأسى من رجلى، وكنت كلما حاولت أن أبصر شيئا فى المستقبل فوجئت بجدار مصمت يلفه الصمت والظلام الحالك يمنعنى من التقدم أو حتى التطلع. وقد انتهى زميلى ذاك إلى مدرسة الصنايع، ولم أعد أعرف أين هو الآن، وربما يكون قد مات، رحمنا الله جميعا.
لا، بل كنت فى حياة والدى وبعد موت والدتى أنظر بعين الغيرة والحسد إلى واحد من معارفه كان يأتى معه أحيانا إلى بيتنا من طنطا راكبا كل منهما موتوسيكله، فيكرمه الوالد غاية الإكرام طعاما ومعاملة، فكان عندى مثال الحرية المطلقة التى لا يتعين عليه معها ذهابٌ إلى الكتاب ولا تعرضٌ لخيزرانة الفقيه ولا حفظٌ لِلَّوْح ولا تسميعٌ للحصة كل يوم، فضلا عن أنه كان يرتدى الملابس الإفرنجية، التى كنا ننظر إليها على أنها عنوان المدنية والأناقة، ويركب الموتوسيكل وينطلق به إلى حيث يريد لا ينازعه فى ذلك أحد أو يفرض عليه ما لا يشاء. إلا أننى، حين كبرت وكان والدى قد مات وعرفت الرجل عن قرب وفهمت أوضاع حياته وشخصيته، تبين لى أنه مثال التعاسة والاضطراب، وأنه لا يعجبه فى الدنيا أحد مثلما لا يعجب هو أحدا، بل لا يوجد تقريبا من يحبه، وبينه وبين طوب الأرض ذاته مشاكل وقضايا ومحاكم، وأن أحواله تسير فى خط معوج دائما، وأنه أبعد ما يكون عن الأناقة والتمدن، دعنا من أنه كان شحيحا بشكل لا يطاق، ويقتر على نفسه تقتيرا لا يخطر على بال، ويعامل أولاده معاملة غير إنسانية، وقد سماهم جميعا أسماء تبعث على الضحك، كما تعددت زيجاته، وكلها فاشل على نحو أو على آخر. ثم مات الرجل أخيرا منذ سنوات قليلة تاركا لأولاده إرثا لا بأس به، لكنه ترك مع الإرث التعاسة والخلاف حتى إن كثيرا منهم لا يستطيع الاستفادة مما ورثه بيعا أو انتفاعا كما ينبغى. وكلما تذكرت غيرتى القديمة من الرجل وتطلعى إلى أن أكون مثله حمدت الله سبحانه وتعالى على أنه لم يستجب لى.
ولعلى هنا لا أخرج عن الخط حين أضيف أن أخا أحد أصدقائى، وهو الآن من رجال القضاء وحاصل على درجة الدكتورية فى القانون، كانت أمنية حياته فى صغره أن يكون سائق قطار. وكنت وما زلت أستلطفه كثيرا. وهذا أمر طبيعى، إذ القلوب، كما تَرَوْنَ، عند بعضها البعض، وبرهان ذلك تشابه الطموحات: فالعبد لله كان يتطلع إلى أن يكون سائق موتوسيكل، أما هو فكان طموحه ومنتهى أمله أن يصير سائق قطار كالرجل الذى يسوق القطار ويضرب سرينته وهو مارٌّ قريبا من بيتهم فى الإسكندرية! بل إن طموحه أفضل من طموحى كثيرا، ويكفى أن كارثة الموتوسكيلات أتفه من كوارث القطارات بما لا يقاس. فأنا لو متُّ بسبب حادثة موتوسيكل سأموت وحدى ولن يهتم أحد غير أهلى بما وقع لى، أما حادثة القطار فتقع فيها وَفَيَاتٌ كثيرةٌ وتتحدث عنها الصحف ونشرات الأخبار فى المذياع والمرناء أياما وأسابيع، وقد تصبح موضوعا للجدل السياسى والمشاغبات الحزبية. ولست أدرى الآن هل يشعر أخو صديقى بالحسرة لأنه لم يصر سائق قطار، أم هل رضى بقسمته وتقبل وضعه الجديد كرجل من رجال القضاء. للأسف لم تأت فرصة لأسأله هذا السؤال!
وكانت أمورى قد اضطربت بعد وفاة الوالد إلى الحد الذى لم أعد أحفظ معه القرآن كما ينبغى حتى إنى لأذكر أصيل يوم قضيته إلى ما بعد المغرب فى غرفة فى الطابق الثانى ببيت سيدنا الشيخ مرسى رضوان القريب من بيتنا، جالسا معه على الحصير فى حضور خال أمى، وكان يسمِّع لى سورة "النساء"، فلم أُوَفَّق بل أخطأت كثيرا أنا الذى كان يتباهى بى ويشير إلىَّ بفخر بوصفى الولد الذى يحفظ ربعا كاملا فى اللوح الواحد فى بعض الأحيان، ويحفظ فى اليوم الواحد عدة ألواح، ويتخطى من كانوا يسبقونه بمسافة طويلة، ولذلك انتهى من حفظ القرآن فى وقتٍ جِدِّ مبكرٍ وغير اعتيادى. وكانت النتيجة فى ذلك اليوم أن عصا سيدنا الشيخ مرسى قد ألهبت جسدى إلهابا. وكنت أتوقع أن يتدخل خال أمى (ابن عم جدتى لأمى) فيشفع لى فلا أُضْرَب، لكنْ طَلَع نَقْبِى على شُونَة، إذ كانت الخيزرانة تنزل على جسمى فأبكى من النار التى تشعلها فيه، وخالى (كما كنا ننادى خال أمى) ولا هو هنا، مع أنه كان معروفا عنه طيبته ولطفه. وربما كان هو الذى ساقنى إلى سيدنا كى يمتحننى، فقد نسيت الآن الظروف التى أوقعت بى فى براثن سيدنا فى ذلك اليوم العصيب بعد أن انصرف الأولاد منذ وقت طويل إلى منازلهم. وكانت هذه أول وآخر مرة يسمِّع لى سيدنا فى هذا الوقت وبهذه الطريقة. ورغم ذلك فحينما عرض الشيخ عيد عطا على جدتى وخالى أن يأخذنى معه إلى طنطا لأتعلم فى المعهد الأحمدى عكفتُ على المصحف أحفظه، فاسترجعتُ ما كان قد تفلت منى فى وقت قياسى، ونجحتُ فى امتحان القبول دون مشاكل على الإطلاق، بل دون أن تخالجنى مشاعر الرهبة أو الخشية من الرسوب، فالحمد لله.