جدلية العلاقة بين القومية والدين في التاريخ والتطور الاجتماعي (العروبة والإسلام) نموذجاً (2)أما أولئك القوميون الذين يعتبرون الدين متغير ثانوي وليس متغير ثابت ضمن مقومات القومية العربية؛ ويزعمون وجود ثقافة عربية قبل الإسلام كانت ومازالت تميز الوجود العربي على أرضه الممتدة جغرافياً وتاريخياً من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي وغير ذلك .. للأسف أنهم إلى اليوم لم يجيبوا على سؤال:ما هو المحتوى الفكري والثقافي الذي كان للقومية العربية قبل الإسلام؟ترى؛ هل هو المعلقات والشعر الجاهلي؟ أم الصراعات القبلية التي كانت تستمر لعقود طويلة من السنين وتقتل أجيالاً عدة لأتفه الأسباب؟ أم هو تلك التبعية التي كانت تَدين بها كثير من القبائل في شمال الجزيرة العربية وجنوبها للفرس والروم؟ أم هي تلك الوحدة المؤقتة التي حدثت بين بعض القبائل العربية في عهد الملكة زنوبيا ومعركة ذي قار ضد الفرس؟!كما أنهم لم يقولوا لنا: ما هو المحتوى الفكري والثقافي العروبي للقومية العربية بعد الإسلام؟هل هو اللغة العربية فقط كلغة؟ أم هو القرآن الكريم؟ أم هو ما أنتجه المسلمون عرب وعجم من حضارة، وما مارسوه من نظم حكم سمح لأتباع الديانات الأخرى أن تشارك مشاركة فعالة ومشهودة في صنع تلك الحضارة؟إن كانت اللغة العربية والشعر الجاهلي ومعلقاته؛ فاللغة العربية موجودة قبل نزول القرآن الكريم بآلاف إن لم يكن آلاف السنين، ولم تَجمع القبائل العربية حول قيادة واحدة أو في دولة ذات كيان سياسي واحد مثل غيرهم من الشعوب الأخرى!وإن كان القرآن الكريم فالقرآن هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم ليكون منهجاً هادياً للمسلمين والعالم إلى الله ومنهج الحق والاستخلاف في الأرض، أي رسالة عالمية وليس رسالة قومية عربية عنصرية استعلائية!أما زعمهم أن قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}. المقصود به العرب؛ ذلك قول غير صحيح، لأن الآية تؤكد على الربط بين العقيدة والشريعة ذلك الربط الذي يرفضونه، وأن شرط الإيمان بالله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي بهما يكون المسلمون خير أمة أخرجت للناس، الأمر والنهي تشريع وليس عقيدة فقط!لا وجود في التاريخ لكيان سياسي عربيأما الزعم بأنه: مما لا يحتاج إثباته كثابت ولا تأكيده كمؤكد هو وجود هوية قومية لأمة عربية متكاملة العناصر والمقومات الجغرافية والتاريخية والثقافية والدينية والموضوعية على مدى ما يزيد على ألفي سنه مضت وحتى اليوم وإلى ما شاء الله، حيث يعيش ما يقارب الثلاثمائة مليون عربي على امتداد أكثر من أثنا عشر مليون كيلو متر مربع من حدود بلاد ما وراء النهر شرقا وحتى سواحل المحيط الأطلسي غرباً، ومن أقاصي جنوب الجزيرة العربية ووادي النيل والقرن الإفريقي جنوباً حتى مجموع امتداد الشواطئ الجنوبية والشرقية للبحر الأبيض المتوسط شمالاً، وفي قلب العالم القديم الجديد!كلام جميل جداً بالنسبة لي لأني من أنصار هذا الرأي ولدي أبحاث موثقة ومنشورة تؤكد ذكر لفظ عربي وعرب وأعراب كصفة وليس كشعب وقومية لبعض القبائل التي سكنت جزيرة العرب بدءً من حوالي 1000 ق.م، لأنه لو كانت مقومات تلك الهوية العربية التي يجزم القوميون بوجودها كانت موجودة فعلاً كما يشخصونها الآن لما ذكرتهم الوثائق الكلدانية والآشورية كصفة! الثابت الذي لا يحتاج لإثبات أو تأكيد أنه عبر التاريخ لا وجود للعرب كأمة واحدة يجمعها كيان سياسي جغرافي لا في تلك الحدود ولا في جزء منها! لكني من أنصار وجود قبلي عربي ودول قبلية وليست قومية يغلب بعضها بعضاً.كما أنه لم يثبت في التاريخ أن وُجِد زعيم عربي واحد دعا تلك الأمة الخيالية قبل الإسلام إلى الوحدة السياسية على أساس اللغة والعرق والجغرافية والثقافة والتاريخ المشترك وغيرها في دولة واحدة من المحيط إلى الخليج. ولا حتى لتحريرها من الاحتلالات الأجنبية أو التبعية للفرس والروم! لكن الثابت أنه قبل 2000 عام كانت تلك الجغرافية تحت سيادة الإمبراطورية الرومانية، وقبلها بـ 300 عام كانت تحت سيادة اليونان، وقبلها بـ 500 سنة كانت تحتل سيادة الإمبراطورية الفارسية!والواقع اليوم أكبر إدانة دامغة لخطأ الدعوة القومية العربية بصيغتها الغربية العلمانية؛ ونحن نرى أن السكان المقيمون على الجغرافية العربية مثل الأشوريين والكلدان والسريان والبربر وغيرهم في عصر القومية العربية لا يعترفون بأصولهم العربية، ويطالبون بدول طائفية ومذهبية كأقليات دينية أو عرقية!أضف إلى ذلك أن تلك الجغرافية العربية تضم قوميات عرقية أخرى، مثل: الأكراد والتركمان والشركس والآرمن والموارنة والزنوج النيليين وغيرهم، الذين صهرتهم العقيدة الإسلامية في وحدة سياسية وحضارية واحدة طوال 1400 سنة، على الرغم من لسانهم العربي إلا أن كل منهم يريد دول قومية له ويرفض أن يكون أقلية في ظل دولة قطرية عربية!وليتخيل لنا دعاة القومية كيف سيكون شكل الجغرافية العربية في حال مُنِحت كل جماعة من تلك الجماعات حقها في الاستقلال في دولة قومية أو طائفية أو مذهبية خاصة بها؟ وإن رُفض طلبها كيف سيصبح لون الجغرافية العربية؟ أظن أنه بدأت يكسوها اللون الأحمر، لون الدم، الذي بدأ يُسفح في صراعات طائفية ومذهبية وعرقية نعيش ويلاتها الآن!وكان على القوميون العرب أن يدركوا أن الشخصية العربية موجودة قبل الإسلام في الجزيرة العربية وامتداداتها الجغرافية، ولكن ليس كوجود سياسي جغرافي، ولم يربط بين سكانها أي شعور بالانتماء القومي الواحد. وبعد الإسلام لم يحدث تعارض بين الشخصية العربية والشخصية الإسلامية طوال 1400 عام، وأن التعارض نتج عن القومية العربية كحركة سياسية دعت لإقامة كيان عربي على نهج القوميات الأوروبية، ما جعلها كلمة بلا مضمون ولا معنى ولا جغرافية، ولكنهم مزقوا الأمة وفتتوها بعد أن وحدها الإسلام هي وشعوب أخرى في كيان سياسي فوق قومي واحد طوال 1400 سنة! والواقع خير شاهد على ذلك!