المدينة المنورة : حديقة تحوك نورا نصف متقد
غرد أحد إخواننا بصورة قديمة للمدينة المنورة .. فتذكرت محمد أسد وكتابه (الطريق إلى مكة) .. وما كتبه عن المدينة المنورة ..
في رحاب المدينة المنورة
(وفي الليلة الخامسة من مغادرتنا حايل،وصلنا سهل المدينة المنورة،ورأينا رسم جبل أحد المظلم. وكانت الهجن تتحرك بخطى ثقيلة،فقد سرنا طويلا منذ الصباح الباكر حتى المساء. (..) وأما المدينة فقد ظهرت أمامنا في ضوء القمر بجدرانها المحززة ومآذن مسجد النبي المستقيمة الهيفاء.
وصلنا إلى الباب الذي يسمى باب الشامي بسبب مواجهته الشمال،ونفرت المطايا أمام ظلال أبراجه الثقيلة،فكان علينا أن نستعمل عصينا لحملها على الدخول من الباب.
وإذن فقد عدت ثانية إلى مدينة النبي،إلى منزلي بعد سفر طويل : ذلك أن هذه المدينة كانت منزلي طيلة سنوات عدة،وكان الصمت العميق المألوف يخيم على شوارعها الخالية الناعسة.وهنا وهناك كان كلب ينهض متكاسلا أمام قوائم الإبل،ويمشي مغنيا،فيتمايل صوته خفيضا ناعما ليتلاشى من بعد في احد الأزقة. وكانت مشربيات البيوت تتدلى سوداء صامتة فوق رؤوسنا كما كان الهواء المضاء بنور القمر دافئا كالحليب الذي حلب هذه اللحظة .. ووجدنا أنفسنا أمام بيتي.
وودعنا منصور بغية الذهاب إلى بعض أصدقائه،بينما أنخنا الهجينين أمام الباب،وعقلهما زيد دون أن ينطق بكلمة،ثم شرع في إنزال الخرجين إلى الأرض. طرقت الباب،وسمعت،بعد قليل،أصواتا وخطى في الداخل،وظهر من شراعة الباب نور مصباح،ثم سحب المزلاج وهتفت أمينة،خادمتي السودانية العجوز،بفرح وبشر :
" آه! لقد عاد سيدي إلى بيته!"){ ص 292 – 293 ( الطريق إلى مكة ) / محمد أسد / نقله إلى العربية : عفيف البعلبكي / بيروت / دار العلم للملايين / الطبعة الخامسة 1977م }.
غفر الله لنا ولك يا محمد أسد .. ولا كلمة واحدة عن "طلال" و "أم طلال"؟!!! في الوقت الذي تصف لنا ذلك الذي (يمشي مغنيا،فيتمايل صوته خفيضا ناعما ليتلاشى من بعد في احد الأزقة)!!!
حديقة تحوك نورا نصف متقد
(كان الوقت عصرا،وكنت جالسا مع صديق لي في حديقة نخيله خارج المدينة المنورة،بالقرب من باب القبي،وكانت أشجار النخيل الكثيرة في الحديقة تحوك نورا نصف متقد في مؤخرتها مما جعل الحديقة تبدو وكان لا نهاية لها.كانت الأشجار لا تزال صغيرة منخفضة الارتفاع،ونور الشمس يرقص فوق جذوعها وعقودها المدببة التي كانت تشكلها أغصانها.كانت خضرتها مغبرة بسبب العواصف الرملية التي تحدث يوميا تقريبا في مثل هذا الوقت من السنة،ولم يكن ذا لون اخضر لماع سوى ذلك البساط الكثيف من البرسيم تحت النخيل. وعلى غير مبعدة أمامي انتصبت جدران المدينة قديمة شهباء مبنية من الحجارة والطوب،وبرزت الأبراج إلى الأمام هنا وهناك. ومن وراء الجدران شمخت أشجار النخيل في حديقة أخرى داخل المدينة،والبيوت ذات النوافذ المسمرة عبر السنين بني بعضها ملاصقا لجدار المدينة فأصبح جزءا منه. ورأيت عن بعد مآذن مسجد النبي الخمس،شامخة عذبة كأصوات الناي،فالقبة الكبيرة الخضراء التي برزت فحجبت بيت النبي الصغير – بيته في حياته وقبره بعد موته – وابعد منها،وراء المدينة،سلسلة جبل احد الجرداء الصخرية. وكانت السماء مضاءة بنور الأصيل اللاهب،وكانت المدينة تستحم بضياء ازرق موشى بالذهب و الخضرة.(..) وبعد فترة قليلة ودعت صديقي وسرت مشيا نحو باب المدينة الخارجي. ومر بي رجل يسوق حمارين محملين بالبرسيم،وكان هو نفسه يركب حمارا ثالثا.ورفع الرجل عصاه وحياني قائلا :
"السلام عليك"،فأجبته بالكلمات نفسها،ثم لقيت بدوية صبية تجر وراءها ثوبها الأسود وتغطي القسم الأسفل من وجهها بالحجاب. كانت عيناها البراقتان من السواد بحيث أن قزحية عينها وإنسانها يمتزجان حتى ليبدوا شيئا واحدا،كما كانت خطواتها شبيهة بخطوات غزلان البر.
ودخلت المدينة واجتزت الساحة العظيمة المكشوفة المسماة بالمناخة،إلى جدار المدينة الداخلي. ومن وراء باب المصري الذي يجلس تحت قوسه العظيم الصرافون يخشخشون بنقودهم الذهبية والفضية،دخلت إلى السوق الرئيسية – وهي عبارة عن شارع يكاد لا يبلغ الاثني عشر قدما عرضا،مليء بالدكاكين. ){ص 294 - 295}.
(المناخة) معروفة،أو ظلت معروفة حتى وقت قريب،وتتربع الآن في وسطها مكتبة الملك عبد العزيز،أما باب (القبي) فلم أسمع به من قبل،كما لم أسمع بباب (القطبي)،وإن قرأنا عنه هذا الخبر :
(علمت "البلاد" أنه قد تم تقدير تعويضات الأماكن والمحلات التي تقرر هدمها في الجزء المتبقي من منطقة باب القطبي وباب السلام ..){نُشر بجريدة "البلاد" في عددها الصادر يوم 14/1/1383 7/6/1963م،وأعادت نشرها في عددها الصادر يوم الأربعاء 15/7/1430هـ = 8/7/2009م}.
المدينة التي أحبها الناس
(وبالرغم من أن الشعور الروحي بالإسلام قد رخص هنا شانه شان كثير من أجزاء العالم الإسلامي الأخرى : فان صلة عاطفية،لا يمكن وصفها،بماضيها الروحي العظيم قد بقيت حية حتى يومنا هذا. ليس هناك من مدينة أحبها الناس إلى هذا الحد من اجل شخصية واحدة،وليس هناك من رجل،مضى على وفاته أكثر من ألف وثلاثمائة سنة،قد أصاب مثل هذا الحب،ومن قبل هذا العدد من الأفئدة،مثل ذلك الذي يرقد تحت القبة العظيمة الخضراء.
ومع ذلك فانه لم يدّع يوما إلا انه بشر،ولم ينسب المسلمون إليه الألوهية قط (..) ولا ريب في أن من حوله لم يحبوه مثل هذا الحب إلا لأنه لم يكن سوى بشر فحسب،ولأنه عاش كما يعيش سائر البشر،يتمتع بملذات الوجود البشري ويعاني آلامه.
ولقد بقي هذا الحب بعد وفاته،وهو لا يزال حيا في قلوب أتباعه حتى اليوم،كنشيد متعدد النغمات.انه حي في المدينة ما يزال،ينطق به كل حجر من أحجارها،وانك لتكاد تستطيع أن تلمسه بيدك،ولكنك لا تستطيع له صوغا في كلمات ..
دخلت الأزقة الملتوية في أقدم قسم من المدينة. جدران البيوت الحجرية وسخة في العتمة،والنوافذ المشربية والشرفات متدلية فوق الدروب التي تشبه المضائق،والتي تضيق في أماكن بحيث لا يستطيع شخصان أن يجتازاها إلا بعد جهد. ووجدت نفسي أمام الواجهة الحجرية الشهباء. من المكتبة التي بناها احد العلماء الأتراك منذ مئة عام،وقد خيم على فنائها صمت يغري المرء بولوجها.){ص 297 – 298 }.
استومضها لكم : س / محمود المختار الشنقيطي المدني
س : سفير في بلاط إمبراطورية سيدي الكتاب