بين البطل والصنم شعرة
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
يعشق الناس البطولة ويبحثون عن رموز يلتفون حولها وتكون ممثلاًلهم فيختارون هذه الرموز من بين شخصيات كان لها دور متميز في خدمة الوطن أو من بين قادتهم وزعمائهم..
ليس من مشكلة في أن يعرف الناس الفضل لأهله، لكن حين يبالَغُفي الحديث عن احترام الرموز والقادة وإجلالهم وإنزالهم منزلةً خاصةً فإنهيُخشى أن ينسى الناس أنهم بشر مثلهم يخطئون ويصيبون، وأن يؤدي التعلق بهم إلىالتوقف عندهم وعدم تجاوزهم لرؤية غيرهم ممن كان لهم فضلهم ومساهمتهم كذلك فنحرمأنفسنا من الاستفادة من الأفكار الجيدة للآخرين، بينما نتورط في أفكار خاطئة لأنمصدرها هو ذلك البطل الملهم الذي ظننا أنه لا ينطق إلا حكمةً وصواباً..
حرص مالك بن نبي رحمه الله على إزالة اللبس ففرق بين عالمالأشخاص وعالم الأفكار المجردة وقال إن تقديس الأشخاص مهما علت مكانتهم ومهما سمتمنزلتهم هو نوع من الوثنية البدائية، وبيَّن العلاقة العكسية بين الصنم والفكرة فقالحين يبزغ الصنم تنطفئ الفكرة.
تقوم فكرة البطولة باختصار على الإشادة بإنجازات البطل غيرالعادية وأفعاله التي تفوق قدرات البشر وخطاباته التاريخية فهو حالة استثنائية لايجود الزمان بمثلها وهو قائد المرحلة بلا منازع وزعيم أسطورة فتؤدي المبالغة فيالحديث عن مزاياه إلى إحاطته بهالة من التعظيم والتفخيم مما يضعنا على أولى خطواتإخراجه من دائرة البشرية ورفعه إلى مرتبة التقديس..
يقاوم القرآن مبكراً بذور الصنمية فبينما يركز البشر في نظرتهمإلى البطل على الجانب "فوق البشري" في شخصيته فإن القرآن يحرص على إبراز الجانب البشري مع ضعفه ونقصه فيشخصية الأنبياء والعباد الصالحين حتى لا ينحرف البشر ويغالون فينتهي بهم الأمر إلىعبادتهم، فصورة الأنبياء والصالحين في القرآن هي أنهم بشر مثلنا يأكلون الطعامويمشون في الأسواق "وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً من أهل القرى"،"كانا يأكلان الطعام"، وكل ما يميزهم عن غيرهم من البشر هو أن هداهمالله ومنَّ عليهم.
إن خطورة الصنمية أنها تبدأ بدايات بسيطة لا يتنبه الناسلخطورتها ثم تتفاقم جيلاً بعد جيل حتى تبلغ حالة الإشراك الكامل فيتخذون من هؤلاءالأبطال آلهةً من دون الله.
يقول المفسرون حول الأصنام التي ذكرت في سورة نوح "وداًوسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً" التي كان قوم نوح يعبدونها من دون الله ويحاربوندعوة نبيهم في سبيلها إن هذه الأسماء هي في الأصل لرجال صالحين أحبهم الناسلصلاحهم ثم غالوا في حبهم وإجلالهم ونصبوا لهم التماثيل لتكريمهم ثم مع طول العهدأخرج الناس هؤلاء الرجال الصالحين من مرتبة البشرية إلى مرتبة الآلهة فعبدوهم مندون الله.
هكذا تبدأ الصنمية في حياتنا من مدخل الاحترام والتبجيل فبحجة إنزال الناسمنازلهم ومعرفة الفضل لأهل الفضل يمنح القادة ميزات خاصةً ويسمع لهم ويطاعون دونمناقشة، وتسمى الشوارع والمؤسسات باسمهم، ويطرى على مكرماتهم وهباتهم، وتوضع صورهمفي الشوارع والمقرات الحكومية وتنحت لهم التماثيل وتفرد المساحات الواسعة فيالإعلام لتغطية نشاطاتهم، ويتحرج من ذكر اسم الزعيم إلا مسبوقاً بألقاب الفخامةوالجلالة والسيادة والرفعة وتغلق الطرقات حين يمر موكبه ويحال بين الناس وبينالاقتراب منه ومخالطته ويجبرون على التقيدببروتوكول الوقوف والانحناء عند مروره وتعظيم السلام له وتشرع قوانين تجرم نقده أوالمس بذاته كل هذه المظاهر وغيرها تدخل المجتمعات في ظلمات الصنمية والفرعونيةوتعطل حركة الفكر والإبداع فيها.
لكن البطل بحق هو من يرفض هالات التفخيم والتعظيم ولا ينخدععن حقيقة نفسه فيصدق أنه القائد الأسطورة والزعيم الضرورة الذي لم يجد الزمانبمثله، بل إنه يحرص على إبقاء تعلق الناس بالفكرة والمبدأ وليس بشخصه..تأملواالمعنى العميق لهذه الآية: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُالْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداًلِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ"..
إن عبادة أشخاص الأنبياء والصالحين يأتي دائماً مخالفاًلرغباتهم، لذا فإنهم يتبرءون منهم يوم القيامة "ما قلت لهم إلا ما أمرتني بهأن اعبدوا الله ربي وربكم"..وحين يربط القائد الناس بالمبدأ لا بشخصه الفانية فإنهيضمن بقاء المبدأ بعد موته..
لقد جسد أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلةعلى تحررهم من الصنمية، فمع شدة حبه للنبي محمد وقف أبوبكر بعد موته ليخاطب الناسقائلاً "من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات".
إن مقياس تحرر المجتمعات من العبودية هو في مدى كسر هالاتالتقديس والتعظيم المحاطة بالرؤساء وتراجع مركزيتهم في الحياة فهم لا يزيدون عنكونهم موظفين في جهاز الدولة يقومون بواجبات مفروضة عليهم مقابل حقوق تمنح لهمفإذا قصروا حوسبوا أو أقيلوا وفيما عدا الصلاحيات التي يمنحها لهم القانون فهم بشرمن عامة الشعب يأكلون مما يأكل الناس منه ويشربون مما يشربون ويمشون في أسواقهمويركبون في مواصلاتهم العمومية..
والله أعلم.
المصدر إيلاف