رابعاً: وهم الخصوصية والحياد
1ـ بفضل الحضارة الرقمية وثقافتها تحول العالم المعاصر الى توليفة رمزية من الأرقام، وتجلى خطاب جديد يوظف الصورة في مد جسور التواصل بين المستخدم والعالم الرقمي عبر السطح المرئي ـ البيني الذي يفصل بينهما. وبالطريقة نفسها بدأ الخطاب اللغوي يتضاءل تدريجياً بعد أن برز الخطاب الصوري لتداول المفردة المعرفية. لقد تحولنا من النص الى الصورة، وتضاءلت مفردات الثقافة وتحولت عن النص المنطوق لحساب المتغير المرئي، واصبحت دقة المشهد الصوري معياراً لتحديد فحوى الخطاب المعرفي المصاحب للخطاب الصوري.
وسينشب عن الحالة الجديدة غياب أمية اللغة بوصفها رابطاً متيناً يلم شتات المثقفين ويجمع تصوراتهم للكون الذي يتعاملون معه، ويساهمون في تحليل مكوناته، وتوحد الجميع برباط الخطاب الصوري الذي لا يفتقر الى أبجدية تختص ببلد دون آخر، الأمر الذي سيساهم في تقليص الهوية الوطنية، ويبذر بذوراً جديدة ستنبت مفاهيم غريبة عن تراثنا وأصالتنا التي نستمد منها هويتنا الوطنية وعمق خطابنا المعرفي.*1
2ـ يتم دفعنا الى إلغاء الثقافة الوطنية لإحلال ثقافة عولمية بلا هوية. بهذا المعنى تصبح مسألة الاختراق الثقافي من القضايا الساخنة في الوقت الراهن. فقد أدت أدوات الاتصال الحديثة والبث الصوتي والمرئي التي ظهرت في أواسط القرن العشرين دوراً فاعلاً في ترسيخ سلطة الاختراق الثقافي وقدرته على التسلل بهدوء الى عقر دارنا من دون أن تملك الجهات المناهضة أي سلطة لدرء سياسته المنمقة.
واقتصرت المحاولات على توعية الرأي العام، أو شن هجمات عشوائية للنيل من نتائج الاختراق الملموسة على أرض الواقع، بعد أن عجزت المحاولات لإغلاق فوهة البركان الثقافي الهادر القادم من الحضارة الغربية التي تسعى لترسيخ سلطتها على البلدان النامية، عبر سلسلة مكثفة من حملات تغييب الوعي، وتضييع معالم الهوية القومية.
ويمكن أن نعرّف الاختراق الثقافي المعلوماتي بوصفه آلية معلوماتية تمارس على المستخدم المقيم في المجتمع الرقمي، بواسطة جهات مختلفة تهيمن على عمليات تكييف الوعي الفردي للمستخدم، لضمان هيمنة الاقتصاد العولمي، ونهجه التسلطي، بعد أن أصبحت مسألة إخضاع الأبدان المقيمة على الأرض الصلبة مرتهنة بإخضاع النفوس المقيمة في حدود البيئة الرقمية المُتَخَيَلة.
3ـ ولقد بوشرت أعمال تعديل الوعي بواسطة آليات التسطيح، وجعله مرتبطاً بما يجري على سطح الفضاء المعلوماتي من تجليات صورية، ونصوص مقيمة على مواقع الويب، بطريقة تستفز الانفعال الذي يحجب العقل، ويغيب الوعي في بوتقة المظهر الصوري البراق، وبإحكام السيطرة على الإدراك، يصبح الطريق ممهداً أمام تعطيل فاعلية العقل، وتكييف المنطق والقيم، وتوجيه ملكة الخيال، وتنميط الذوق، وقولبة السلوك، بما يخدم آلة الاقتصاد العولمي التي تريد التهام جميع مفردات الفضاءين الرقمي والتقليدي، وتحويلها الى عنصر من عناصرها.
وخلال هذه المرحلة الطويلة، سيسعى أصحاب هذا التيار الى ترسيخ وهم الفردية لدى المستخدم، عبر تعميق الشعور بالخصوصية لديه، ومحاولة إقصائه عن الغير، لكي يعمل بمفرده ويمارس سلسلة عمليات تخريب وتمزيق مستمرة للصلات الثقافية التي يكون قد أقامها مع الغير.
وبهذا النهج يكون الاختراق الثقافي ـ الرقمي قد ضمن الاجتثاث التدريجي للأطر الاجتماعية، وأواصر الانتماء التي تربطنا بالأمة، أو الطبقة، أو الجماعة التي ننتمي إليها. وفي الوقت نفسه، سيبدأ بترسيخ وهم الحياد لديه، فيقصيه عن دائرة الالتزام بأية قضية اجتماعية، أو وطنية، أو أخلاقية، بحيث تضمن سيادة الاستتباع الحضاري حيث يقبع المرء وحيداً قبالة لوحة العرض البراقة. وينتابه شعور بأنه قادر على الاستغناء عن أي انتماء أو محيط اجتماعي أو هوية أو حتى مسئولية.
قد تكون هذه الصورة الواقعية قائمة من منظور الوعي العربي المرغوب، ولكن ميدان الممارسة العملية يتيح لمن يحيط بالمشهد الإعلامي المتنوع وأدواته فرصة التسخير والاستخدام المبدع لنفس الآليات التقنية والمعرفية في سعيه لمجابهة التأثيرات السلبية، لا بل إيجاد وسائل فعالة لمجابهتها []
انتهى
هوامش من تهميش الباحث نفسه:
*1ـ حسن مظفر الرزو/الفضاء المعلوماتي/بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية (2007) ص 238.